المنبرالحر

طواطم الناس ومعضلة شبح كانترفيلد / احسان جواد كاظم

مخاوف الناس تنتج طواطمها وآلهتها، ولازالت تفعل ذلك منذ ايام العجز البشري الاولى عن تفسير الظواهر الطبيعية وطارئات الزمن للأفراد والمجموعات البشرية، الا انها اتخذت اليوم شكلاً آخر، اكثر فضاضة، فإضافة الى تكريس مصادر الخوف النمطية السابقة فإنها تقوم باستنباط اخرى اكثر تخلفاً، لا تفسر ما يحدث ( لأنها اصبحت افقر قيمياً من ان تفعل ذلك) لكنها تختلق مخاوفاً اخرى تحيل حلها الى قيم بائدة غير نافعة.
مع بزوغ عصر النور باكتشاف الطاقة الكهربائية واختراع مصباح النور تراجعت الى حد كبير الحكايات الخرافية عن الطواطم والجن والشياطين والطناطل والسعالى وغيرها من منتجات عصر الظلام والعتم والعجز عن تعليل وتفسير الظواهر الطبيعية واخرى المتعلقة بتداخل الضوء مع العتمة . وتداعت مع عصر التنوير الكثير من يقينيات الفكر الكهنوتي حيث تستند العقائد والأديان على منظومة واسعة من الحكايات والمعجزات الميتافيزيقية لتكريس سلطة القائمين عليها، وعلى المستعدين الى تصديقها، وسعي كهنتها لتكبيلهم فكرياً بالنذير والوعيد من عقاب صارم قادم، ليكونوا اتباعاً طائعين خانعين.
هاجس الخوف من المجهول يتحول مع مرور الوقت معتقداً يصعب اقناع الناس بانعدام وجوده الواقعي، بسبب ما للخوف من سلطة في النفوس وعليها. وبعد ان اصبحت هواجس الخوف من عقاب صارم آت لا محالة رغم عدم ارتكاب ذنب، مترسخة في قاع ادمغتهم وجزء من تركيبتهم السايكولوجية، متلبسة كيانهم. ويغدو واحدهم كالمصاب بلوثة دينوية ميؤوس منها، تتراجع لديه ملكة التفكير المستقل والابداع.
فقد ارتعب الدواعش من قتلهم على ايدي النساء، كما حصل في عين العرب كوباني السورية وبعض مناطق العراق لاعتقادهم بأن ذلك يمنعهم من ولوج باب الجنة، لكونهن ناقصات عقل ودين ويبطلن صلاة المصلي، اسوة بالكلب الأسود، اذا مررن امامه. واللواتي لا تعادل شهادة مائة امرأة مسلمة ورعة منهن شهادة رجل مسلم متهتك واحد. وانهن لسن سوى متاع لهم في الدنيا والآخرة، فكيف لو قتلوا على ايديهن.
ورعبهم هذا لا يشابه البتة، لتناقض القيم والاهداف، الرعب الذي انتاب المنتفضون الصينيون ضد التدخل الاجنبي عام 1898، المعروفون بالملاكمين او كما اطلقوا على انفسهم " قبضات من أجل العدالة والسلام" الذين لم يكونوا يخافون من شيء اكثر من خشيتهم من قطع الرؤوس، فقد كانوا يفضلون الموت بالرصاص عن قطع رؤوسهم، لأنهم كانوا يخشون من التيه في الجحيم متأبطين رؤوسهم.
وكذلك هو الرعب الفطري الذي يستولي على الهندي الأحمر فيما لو ترك وحيداً ليلاً في غابة، من الأشباح والأطياف - ايمانه الخرافي بالأشباح يجعله يراها تنهض وتنبثق من كل انحاء الظلام، ورعبه هذا اكبر، بالتأكيد، من رعب رجل ابيض يجد نفسه ليلاً وحيداً في مقبرة مقفرة.
عائلة هيرام بي أوتس القادمة من امريكا للسكن في ضاحية كانترفيلد اللندنية في رواية أوسكار وايلد " شبح كانترفيلد" كانت متحررة من هواجس الخوف. ولم يجد تحذيرهم من وجود شبح لقتيل في مكان اقامتهم الجديد، ارعب لثلاثة قرون كل من حاول اتخاذ القصر سكناً آمناً له.
المفارقة التي ابرزها اوسكار وايلد هو التناقض بين ما يتلبس الأنسان العادي من هواجس الخوف المسبق ( النمطية) المرتبطة بوجود شبح وتحرر عائلة هيرام بي أوتس من هذه الهواجس. المفارقة والتناقض الآخر بين هواجس الخوف الأنسي ( الطبيعية) ومعضلة شبح كانترفيلد الذي فقد قدرته ( الطبيعية ايضاً) في اخافة البشر. التناقض بين طريقتي تفكير مختلفتين، احدهما قائمة على الواقع والاخرى على الوهم. فالأمر كله يقوم على البيئة الحاضنة لطريقة التفكير المعنية وكذلك مدى ترسخ الوهم في العقل الجمعي و هيمنة اسلوب التلقي والتلقين في التربية وثبات اليقين على اسلوب البحث والتمحيص والشك العلمي.
تقبل الكثير من الناس لما هو غير معقول من احداث ومواقف مرتبط بيقينيات ومسلمات سايكولوجية وعقائدية مسبقة يختلف كلياً عن تعامل عائلة هيرام بي أوتس الأمريكي المتجرد من الهواجس والقادمة من بيئة لا تعبأ بالخزعبلات والخرافات و الانتصار عليها بإيصال الشبح المقيم في بيتهم الى الجزع بتجاهله او بمناقشته او بمجموعة من مقالب اولاد السيد هيرام المضحكة بحقه وغير المكترثة بحيله الشبحية لإخافتهم ثم اقناعه اخيرا بمغادرة قصرهم بعد فشله التام في ارعابهم بطرق مختلفة نجح فيها مع آخرين خلال عمره المديد في القصر وبعد حل لغزه.
في وقتنا الحالي، اصبحت الحظوة لديوك الشعوذة التي تبيض لنا يوماً بعد يوم المزيد من الخرافات والطقوس الغريبة وتكليلها بهالة قدسية لتكبيل البسطاء واستعبادهم .
ان منظومة القيم السائدة هي التي تتحكم في صياغة وعي الفرد بغض النظر عن تحصيله العلمي وثقافته، ويصبح فك أسره منها مهمة شاقة مع غياب البرامج العلمية المناسبة ووجود الإرادة الفردية المستقلة للتحرر منها.