المنبرالحر

مائة عام من الفساد في تاريخ القضاء العراقي../ جاسم المطير

تمر ، في هذه الأيام ، مناسبة حلول مائة عام على تأسيس القضاء العراقي الحديث 1915 – 2015 ، الذي واجه خلالها الشعب العراقي ، كله، ألواناً متعددة من القلق ،والقمع، والطغيان، والجبروت والعذاب ، حتى أن القضاة العراقيين وجميع القانونيين العراقيين ( نقابة المحامين وجمعية المحامين ومراكز حقوق الانسان) لم يحترموا هذه المناسبة . لم يحتفلوا بها ولم يراجعوا سلاسل سلبياتها وفجيعتها، ولا حتى بعض جوانبها الايجابية التي قطعها بعض القضاة الوطنيين.
أرجو من القارئ الكريم أن يسمح لي بأن انطلق هنا، في هذه المقالة، من تجارب شخصية متــّوجة عندي من وقوفي مرات كثيرة أمام القضاء والمحاكم العراقية التي لم اجد فيها غير اوهام صريحة وواضحة عن شيء اسمه (العدل) ، بل وجدتُ حقيقة أن المتهم يخضع إلى (الحظ) قبل أي شيء آخر حين يقف متهماً في اية محكمة عراقية. المتهم الذي يقف خلفه قارون أو شيشرون ينال البراءة مهما كانت جريمته . لكن المتهم الفقير، الواقف وحيداً في قفص الاتهام عن ثقة ودراية ببراءته، يفاجأ ، في نهاية المطاف ، بصدور حكم ظالمٍ أو قاسٍ ، من دون حق أو عدل، طالما خصمه يمتلك نفوذاً في الدولة أو وساطة مؤثرة على شخصية القاضي. على ضوء هذا الواقع شاهدت وعشت مع آلاف من زملاء ورفاق هذا النموذج المغدور في سجن البصرة المركزي ،في سجن نقرة السلمان ،في سجن الحلة ، في السجن رقم 1 بمعسكر الرشيد وفي سجون ومراكز شرطة كثيرة وفي دهاليز مديرية الأمن أو المخابرات . من النادر أنني قابلت سجيناً لم ينل مكروهاً كان قد هيمن على جسده تعذيب وحشي بوسائل حيوانية.
لا يختلف أحد على أن معركة (الاصلاح القضائي) في بلادنا هي جزء من معركة أزلية بين الخير والشر ، بين الحق والباطل، في كل الأزمنة والعصور .. ربما يكون الاصلاح المفترض حلماً بعيد التحقيق لأن (العقل القضائي) في بلادنا تربى في ظل انظمة سياسية استبدادية كانت تطارد بضراوة عقول المواطنين وحقوقهم معتمدة طيلة مائة عام على نظام قضائي يولد لسادته أشباحاً غير مرئية تخيف المواطنين وتقوم على (مبدأ) عدم المساواة بين أولاد آدم ملزمين بالوفاء لتعهداتهم لمن يقف وراءهم . من هنا ظل القضاء – منذ عصر ارسطو ومنذ سيطرة الفراعنة - منتظراً أن تهب عليه رياح الحرية والحق والديمقراطية ليسود في الكون كله لا في بعض أقسامه .
كنا نحن العراقيين ،أيضاً ، منتظرين منذ عام 2003 أن يظهر عقل قضائي حكيم لن يدين مطلقاً لأي حاكم أو حزب أو طائفة ولا يخضع لأية وسيلة مهما كانت قوية تضغط عليه ، لكن كل الابواب ظلت مغلقة بوجه (التطهر الفردي ) و(الاصلاح الجماعي) في الساحة القضائية . ظل جميع القضاة ممن لا يستهدفون في اعمالهم تمجيد روح العدالة الانسانية ،خاصة من الذين تورطوا مع النظام الدكتاتوري الأسبق، ظلوا باقين في مناصبهم لمواصلة حرمان الشعب من حقوق العدالة والحرية والكرامة والإنسانية.
من المعروف عن دور القضاء والسلطة القضائية منذ الزمان القديم انهما وُجدا ، في الأصل، ضد الطغيان ولحماية الرعية والمواطنين من العدوان على حقوقهم الإنسانية كافة. في العصر الراهن نجد القضاء في الدول المتقدمة كلها تناضل، يومياً، لتحويل مجتمعاتها الديمقراطية إلى مجتمعات غير استبدادية تحترم حقوق الافراد والاقليات وتجعل جميع المواطنين يعيشون أحراراً، كرماء.
المفترض أن يكون واجب القضاء والقضاة في مجتمعنا المعاصر سواء سميناه ، الآن، مجتمعاً ديمقراطياً، أو نصف الديمقراطي، أو غير الديمقراطي ، مواصلة نضال يومي ، من أجل حماية حقوق المواطنين ،جميعهم.. حماية كل فرد، وكل اقلية، من كل انواع الاضطهاد ومن سوء استغلال القوي ضد الضعيف ، خصوصا حماية المواطنين من سوء استغلال السلطة الحاكمة ومن تسلط موظفي الدولة .
ملخص القول أن مهمة وواجب القضاء هما حماية المجتمع - الافراد والاقليات – من سلطة الاغلبية الحاكمة ،من الميلشيا المسلحة ،من عصابات الاختطاف، من ميزة اصحاب المال والجاه والسلاح ،من سطوة الموظفين الفاسدين ومن كل حالات استعمال القوة لجعلهم في حالة خضوع وقتي او دائم. قيل في كل مراحل التطور الإنساني ، في كل المجتمعات:
ان مهمة القاضي كانت وما زالت تقوم على ثلاثة فضائل هي:
(1) الحصافة .
(2) النزاهة .
(3) العدالة.
على القاضي العادل أن يوفر هذه الفضائل و أن يحققها بممارساته اليومية من دون خوف وكلل أو ملل. رغم أن نيكول مكيافيللي فيلسوف إيطاليا في عصر النهضة وأهم منظّر سياسي في ذلك العصر عقـّب على ذلك بالقول (إن الفضيلة شيء كلاسيكي نادر الوجود) .
القاضي ، في العراق، هو إنسان ينبثق من داخل المجتمع العراقي، من بيئته.. لا يقضي بين الناس بسبب ولادته أو موهبته أو تميزه بشخصية عبقرية أو كون تربيته نموذجاً نازلاً من السماء. إنه كأي إنسان آخر في مجتمعنا يمكن أن تكون تجربته مريرة في عيشه ويمكن أن تكون حياته متزعزعة وهو على اعتاب الشيخوخة، يمكن أن تكون فلسفته في الحياة متطابقة مع مبادئ انسانية اكتسبها من التربية الاسرية أو استنار بها من خلال دراسته الاكاديمية . القاضي كأي إنسان آخر خضع ويخضع في كل مراحل حياته لحسٍ ديالكتيكي يتعلق بالعدالة. كما أنه، بذات الوقت، قد لا يكون قد امتلك المعرفة العلمية التي تفترض أن تجعل قياساته عادلة، أو أنه يلجا بمهارة لتيسير العدل وهو برؤيته قادر على صهر المتناقضات الاجتماعية، التي تعيق تطبيق العدالة في المجتمع .
حكم الطغيان كان في العراق ولا يزال أسوأ أنواع الفساد المالي والاداري والاخلاقي، منذ أن أعلن افلاطون وصفه للديمقراطية وللإنسان الديمقراطي وقد اتفق معه كل الفلاسفة اليونانيين بوقته. كما اتفقت معه كل الفلسفات الانسانية التي انبثقت بعده حتى اليوم .
لقد اثبتت كل تطبيقات الحكم الديمقراطي في الدول الرأسمالية وفي الدول الاشتراكية السابقة وفي الدول النامية ومنها العراق أن التجارب ،كلها ،اثبتت أن الحكم الديمقراطي يعني في جوهره حرية التعبير واحترام حقوق الانسان في العيش الكريم واحترام الدستور وتعزيز مؤسسات الدولة، لكن هذا النوع من الحكم ليس بمقدوره ان يخلق (المدينة العادلة) او (الدولة العادلة) إذا ما كان السياسي الذي يحكم الدولة فاسداً متجبراً محمياً بصوت القاضي، الذي يصدر قراراته منتشياً بتأييد (قائد الدولة) أو (رئيسها) وتغييب أو تجاهل كل قيم الديمقراطية. كان القاضي العسكري العراقي الشهير (عبد الله النعساني) حراً ، تماماً، وسعيداً، تماماً، في كونه ومجلسه العرفي العسكري عام 1948 - 1949 بإصدار القرارات الظالمة بالجملة على الواقفين في قفص الاتهام حين قال هذا القاضي العسكري قراراته الغريبة بالحكم على كل المتهمين الواقفين امامه وكان عددهم 50 متهما( من صاحب السترة الزرقاء حتى صاحب البنطلون الاسود) بالحبس الشديد لمدة 15 سنة من دون الاشارة الى اية تهمة جنائية او سياسية ، من دون تقديم ما يكفي من الدلائل بالحكم على المناضلين الواقفين أمامه . في اليوم التالي غطس في نفس الغرابة حين اصدر قرارا بالحكم 10 أعوام على مجموعة الواقفين بالقفص (ابتداء من الشاب ابو الشارب الاسود وصولا الى التأشير على الرجل القصير) المتهم الواقف في نهاية الصف . استمرت مهزلة الاحكام العرفية 583 يوماً كان جزء منها تحت قيادة رئيس الوزراء رجل الدين الملتحي والمعمم (السيد محمد الصدر). فيما بعد قيام ثورة 14 تموز لعبت المجالس العرفية العسكرية، أيضاً، دوراً في ضياع العدالة بالعراق طيلة فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم . ثم توالى إخضاع المحاكم المدنية والعسكرية جميعها خلال الفترة من 8 شباط 1963 حتى التاسع من نيسان 2003 الى قيادة الدولة الدكتاتورية .
بعد 17 تموز 1968 ، مثلاً، صار القضاء العراقي في اتعس حالات وجوده إذ غدا اسوأ حتى من محاكم التفتيش في العصور المظلمة . فقد بدأ نظام حزب البعث بقيادة صدام حسين بتأسيس محكمة الثورة برئاسة العقيد علي هادي وتوت التي تشكلت في 6 – 1 – 1969 فأصدرت أحكاماً بإعدام 25 متهما مدنيا علقت جثثهم في بغداد والبصرة. ثم اعقبتها بمحاكمات فاشية النوع متوالية لمحاكمة خصوم النظام البعثي من العسكريين والمدنيين من امثال عبد الغني الراوي وجماعته ومحاكمة عشرات الجنود المتهمين بالانتماء للحزب الشيوعي واعدامهم عام 1978 وكذا محاكمة واعدام المعتقلين النجفيين بما يعرف بــ(مظاهرة خان النص) . كذلك محاكمة واعدام خصوم صدام حسين عام 1979 بما عرف بقضية محمد عايش حيث اعدم 21 من قياديي حزب البعث في محكمة خاصة كان رئيسها (نعيم حداد) وهو ليس من القضاة ولا من القانونيين . هكذا استمر نظام صدام حسين على تحويل القضاء العراقي ، العسكري والمدني، إلى أداة قمعية إرهابية ضد الشعب متجاوزاً كل القيم القانونية وكل الرغبات الانسانية للشعب العراقي .
لم يستطع القضاء العراقي منذ تأسيسه حتى نهاية حكم الدكتاتورية صدام حسين أن يجعل المواطنين يفهمون اسباب عدم تواصله مع حقوقهم الانسانية المشروعة. لكن حتى بعد سقوط هذه الدكتاتورية ظلت قوانين كثيرة تحمل ضجيجاً داخلياً عن العدالة والحق والديمقراطية، كذباً وزوراً، بينما هي تفعل عناصر العذاب في حياة المواطنين جميعاً. حياة الاطفال، اليتامى وغير اليتامى، مشوهة.. حياة الأرامل مريرة.. آلاف السجناء والمعتقلين تحتاج الى مراجعات كي لا يظل العدل غارقاً في العتمة .. حياة الشبان العاطلين عن العمل مريرة.. العلوم والفنون والآداب لا تتطور بالصورة الطبيعية.. الفساد يقود الاقتصاد الوطني في الحاضر الى التخلف والهاوية.. كل شيء من بقايا النظام الدكتاتوري السابق يتقدم في اجهزة الدولة من دون مقاومة.
كل هذه الصور المؤلمة تتشابك وتتعقد من دون ان ينتفض مجلس القضاء الاعلى خلال 12 عاما لتحقيق الاصلاح القضائي المنشود الضروري لإضاءة مصابيح العدالة في وطننا الجريح ولم يقم بأية خطوة لتطهير هذا الجهاز الفاسد والمرتشي في أغلب مفاصله المنتشرة بمختلف انحاء البلاد .
صارت (فضيلة العدل) في العراق غائبة تماماً منذ تأسيس أول محكمة في البصرة عام 1915 اي قبل مائة عام. تأسست المحكمة الأولى بعد احتلال مدينة البصرة من قبل الجيوش البريطانية. ثم تأسست محاكم قامت بالاعتماد على تشريع (قانون العقوبات البغدادي) في عام 1918 بعد استكمال احتلال ولاية بغداد. لم يشهد العراق أية حقبة عادلة. كل سلطة وكل حكومة كانت غاياتها (اسمى) من غايات نشر (العدل) حتى غدت ( وزارة العدل) أسماً بالضد من المسمى. كان كل رئيس حكومة في زمان النظام الملكي يتخيل نفسه مفوضاً من الله ليفرض نفسه على الدولة والشعب ، مفترضاً أن نظام القوة العسكرية وليس العدل هو التصرف الافضل في ممارسات السلطة بلا اي احترام لتعاليم الله، رغم الآلام الكثيرة والظلم الفاجع بحق الناس . كمثال أقول أنه في الفترة من عام 1934 – 1958 اعلنت الاحكام العرفية 17 مرة جرى فيها تعطيل العمل بدستور 1925 . اعلنت الحالات الاستثنائية بسبب الاحداث والقلاقل في هذه المدينة العراقية او تلك على نطاق العراق كله ..
شموع العدالة التي اشعلتها ثورة 14 تموز سرعان ما انطفأت فوق اغنيات الثورة وظل الحال متنكرا للعدالة ايضاً من خلال محاكمة العديد من المتهمين من اقطاب العهد الملكي ومن اعضاء الحزب الشيوعي واعدامهم باتهامهم بحوادث الموصل وكركوك . ثم استلم إنقلابيو 8 شباط 1963 خنجرهم موجهين انواعا مختلفة من الطعنات لذبح كل مقومات (العدالة) بعد ان تلقت ضربات كثيرة بموجب البيان رقم 13 جعلت عيون ابناء الشعب مهددة ورؤوسهم منخفضة واقدامهم مجرجرة بسبب سلطان ارهاب الدولة الدكتاتورية الذي استمر تواصله لاحقا لمدة 35 عاما لم ينته الا بالاحتلال الامريكي نيسان 2003 الذي تختلف حوله الآراء هل كان عدلا ام غير عدل.
لم يجتز القضاء العراقي منذ 2003 حتى الان قوانين الطغيان ولم يضع أية لبنة لمستقبل العدالة العراقية الجديدة في زمان فلاحة الارض لزراعة اعشاب وازهار الحرية والديمقراطية ، التي لم يضع الشعب العراقي اقدامه عليها ، ولم يشم روائحها العطرة منذ قرون عديدة . فما زال محكوما بقوانين قديمة انزلتها عليها غاضبة جميع الانظمة السابقة غير العادلة.
السؤال الكبير الذي يواجه العراقيين في هذه المرحلة ، التي يأتي فيها كل سوء من بيئة غياب العدالة في بلادنا هو : هل كان تاريخ القضاء العراقي معروفا بالنزاهة والاستقامة.. هل كان يملك شيئا من الكبرياء والاستقلالية..؟
لست قانونيا كي اجيب على هذين السؤالين لكن بإمكاني تقليب مجموعة كبيرة من صفحات ذكرياتي الشخصية خلال كل العهود، التي مرت بحياتي حتى هذه اللحظة. كانت حياتي وحياة الكثير من أصدقائي وأصحابي من السياسيين أو التجار أو الصناعيين من معارفي جميعاً، ممن وقفنا جميعنا أمام القضاء ،العسكري والسياسي ومحاكم البداءة والتنفيذ وغيرها وقد وهبتني جميعها معلومات مباشرة تجعلني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد قضاء عراقي نزيه، بل يوجد قضاة عراقيون نزيهون استطاعوا أن يتركوا بممارساتهم إرثاً قضائياً نبيلاً ونزيهاً . احتفظ بذاكرتي أسماء عدد من القضاة الذين يمتلكون شخصيات قانونية انسانية متكاملة ميزتهم بالحق والعدل انسجاما مع التربية الفكرية من بين تلك الاسماء (ضياء شكارة) مدير التسوية في البصرة حيث كان بإمكانه ان يتحول ، بين ليلة وضحاها ، إلى مليونير ، بسبب ضغوط الرشاوى الواقعة عليه .لكنه فضل النزاهة والعمل في المحاماة والصحافة لاحقاً. كذلك اتذكر قاضي التحقيق (حميد محمد سعيد الحكيم) وهو عضو غير مكشوف في الحزب الشيوعي العراقي كان قد واجه الكثير من تهديدات اغتياله لحرف بعض تحقيقات القتول مقابل رشاوى وضغوط سياسية كان يرفضها ولم ينقاد الى القوة. كذلك اتذكر المدعي العام (حسين ميرزا) الذي سكنت النزاهة في مواقفه كلها رغم تعرضه في سيرة حياته الى انواع من الترغيب والترهيب. هناك الكثير الكثير من القضاة العراقيين الذين لا نظير لنزاهتهم.
الشيء الواضح ، أيضاً، أن مجمل هيئات القضاء العراقي كان لا يعبر عن مساواة المواطنين أمام القانون كما نصت جميع الدساتير العراقية، بل كانت ايادي النزيهين من القضاة مشلولة أمام الكثير من الحكام المتسلطين على دست الحكم منذ عام 1921 حتى اليوم . بمعنى أن الانظمة المتعاقبة لم نجد فيها وفي مراكز شرطتها التحقيقية وصالات محاكمها الاعتيادية والاستثنائية أي خير من دون شر . أظن أنه لا يوجد إنسان عراقي من الشعب كله يعيش في ظل الفوضى السياسية والادارية القائمة الآن في بلادنا من دون أن تكون له مشكلة قانونية مع الدولة، أو مع غيره من المواطنين بسبب رداءة العلاقة مع السلطة القضائية بصورة خاصة ، ولأن استعمال القوانين في القضاء العراقي اجمالاً يتبع غايات الاقوى ، غايات الذي يملك مالاً أو وجاهة أو غيرها . السائد هو مفهوم العدل للأقوى.. انه ميثاق غير منصوص لكنه قوة تطاع .
تجربتي الشخصية ومتابعتي الشخصية تفيدان بأن وقوف اي متهم بلا مال أو مهنة مرموقة أو جاه عشائري قوي لا يتمكن حين يقف في قفص الاتهام من تهيئة فرص اثبات خلاصه من التهم الكيدية مهما كان بريئا.
اليوم نسمع الكثير من النداءات تدعو إلى (إصلاح القضاء العراقي) بعد تقديم ورقتيْ (الاصلاح الوزاري والاصلاح البرلماني) اللتين قدمتا من قبل رئيس الوزراء حيدر العبادي ورئيس البرلمان سليم الجبوري.
الطريقة البسيطة التي دُعي بها مجلس القضاء الاعلى لإصلاح نفسه بنفسه لا تحمل أي قدرة حقيقية لتحقيق الهدف المطلوب . كما أن جوهر الدعوة الى اختيار القضاة (الذين لم تتلوث اياديهم بأموال وقرارات الفساد خلال الاثني عشر سنة الماضية ) لا يساعد في حل أزمة القضاء العراقي المتفاقمة ، إذ ما هي الطريقة المتقنة التي يتم بها اختيار غير الملوثة أيديهم ..؟
المعروف للجميع أن عملية (التلويث) في كل ( حالات الفساد) بالعالم أجمع تتم بمنتهى السرية والدقة بحيث لا تترك أية علامة أو بصمة يمكن أن تصبح نقطة إدانة. كما أن (بصمة النزاهة) لا يمكن رؤيتها على جبين هذا القاضي أو ذاك. لذلك تظل مسألة اختيار (القضاة النزيهين) معضلة شائكة إذ لا توجد علامات صحيحة منقوشة على ملفات القضاة تشير الى نزاهتهم. وُلد جميع القضاة ،كما هم بقية البشر، لهم أيدي وأرجل وعيون وجفون و اسنان بيضاء فكيف يمكن تصنيف القاضي النزيه عن غيره..؟ لا شيء حتماً.
لا شك ان الطريقة الممكنة هي معرفة العلامة الصحيحة الوحيدة لتشخيص القاضي النزيه مثل (ضياء شكارة وحميد الحكيم وحسين ميرزا وكمال عمر نظمي ومصطفى علي وغيرهم) من خلال علاقاته الانسانية مع البشر ، من خلال ثقافته القانونية ،من خلال التربية الأسرية، من خلال مستوى استعداده للتضحية ليسهم في سيادة القانون بالمجتمع ، والنضال من اجل خلق الدولة العادلة بالفكر النير والعقل الحازم والقانون الصارم.
ان العراقيين يريدون بناء مجتمع تقوده السلطة الاولى (الحكومة) كما أن حياتهم تنظمها القوانين الوضعية الصادرة من السلطة الثانية (التشريعية) على أن تكون هذه القوانين وديعة الرقابة والتطبيق عبر السلطة الثالثة (القضائية) .إن مفهوم الوديعة ،هنا ، هو مفهوم حقوقي بحت ، أي أنه علاقة ثقة ائتمانية بين المحكومين بعضهم مع بعض من جهة ، وبين الحكام والمحكومين من جهة ثانية.
بناء سلطة قضائية نزيهة معناه ، أولاً وقبل كل شيء، ممارسة سلطة سامية لا تمثل سياسة حزب أو عقيدة طائفية أو مصالح شخصية مهما كانت متنفذة في الدولة أو في بعض مفاصلها ، لأن عمل وممارسات (السلطة القضائية) تمثل، أولاً وأخيراً، الموافقة الاجتماعية العامة لحماية مصالح المواطنين والمجتمع في آن واحد. من هنا جاءت الدعوات الوطنية الصادقة لاختيار سلطة قضائية نزيهة لا تخضع لضغط من خارجها ولا تنحرف عن استخدام القانون من داخلها كي يتحقق (الخير العام) وانقاذ المجتمع من (الشر الخاص) الذي يرتكبه بعض المواطنين سواء من موظفي الدولة او خارجها . في مقدمة ذلك الشر، هو الفساد المالي والاداري، الذي لا يصون المال العام ولا يحترم القوانين ولا يؤدي رسالة ثقة بمن أنيطت به .
من الضروري أن تكون السلطة القضائية جزءاً رئيسياً من ( الدولة العادلة ) وجزءاً من خطط ذات اهداف لبناء مجتمع مدني متطور بمعاقبة الفساد والفاسدين الذين يدنسون التدين الحقيقي المنبثق من قوانين السماء. الفساد المالي هو عدو للعدل ولرغبات الناس.. كما انه يسيء الى كل طرق تمجيد الله مهما كان دين الفاسد ومذهبه.
تطهير جهاز القضاء العراقي من الفاسدين والمرتشين هو الوسيلة الاساسية الوحيدة لتأمين حقوق الشعب العراقي في (العدل) الضائع منذ عقود طويلة ، إذ من المستحيل ان يكون القاضي مدافعاً عن الحق والخير حين يكون حاملا لأخلاقيةٍ فاسدة ٍأو شريرة . كما أن القضاة الفاسدين لا يمكنهم ، بل لا يريدون مواجهة حيتان الفساد واخطبوط الظلم .
خلاصة القول : لا يمكن ضمان منع سرقة ونهب ارزاق الشعب وثروات البلاد إلا بـ(تطهير) سريعٍ شاملٍ لكل أجهزة القضاء العراقي كلها بدءاً من مجلس القضاء الاعلى وانتهاء بدائرة كاتب عدل في ناحية نائية . كما لا يمكن إرساء قواعد العدالة الضائعة والمضيعة بمجرد كتابة بضع صفحات معنونة ( إصلاح القضاء) غير كافية لخلق قضاء نزيه يعامل المواطنين بالمساواة التامة أمام القانون وبجعل القضاء مستقلا عن القيادات الحزبية والطائفية المسيطرة على الكثير من اجهزة الدولة التي يزجونها في معارك سياسية حزبية وطائفية .
حين يشعر القاضي العراقي أن كرامته هي من كرامة الشعب العراقي ، عندئذ يمكن الحديث عن إقامة دولة حق وعدل و هي اسمى غايات الانسان العراقي منذ زمان أول قانون في الكون أصدره إنسان العصر البابلي ، ظل حلماً حتى هذه اللحظة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 16 – 8 – 2015