ادب وفن

عودة اللقلق.. تشظيات الأنا واستحضار الآخر (2 -2 ) / حميد حسن جعفر

لقد استطاع حميد الزاملي أن يستفيد من هكذا توجهات في كتابة "برج الزقاق العالي"، وفي صناعة وقص يستند على تعدد مصادر الكتابة. بل إن المكان ـ الزقاق/ الغرفة/ المقهى، وما يحيط به من جغرافيات "الساحة الترابية، برج الضغط العالي، دار المهندس، الجنوب" كان يشكل البعض من إثباتات العائدية لواقعية القص.

(5)

هل من الممكن أن يتحول النص القصصي الى بحث في الحياة، الحياة/ في الرسم في الكتابة/ في العلاقات الانسانية؟
هذا ما يجيب عليه القاص من غير أن يوجه له سؤال حول هذا، ورغم هذا تتصاعد التساؤلات، تلك التي من الممكن أن تشكل بعض ما ينبغي للكاتب صناعته.
إن القاص يطلق ما يريد قوله بعيدا عن (الأنا) على الرغم من عدم وجوده. الذي يطغي على جميع الصفحات تقريبا. إن حضورا كهذا لا يمكن أن ينتمي الى ما يسمى النرجسية/ الأنا المتضخمة. فوجود كهذا لا يمكن أن يلغى.
فهو كثيرا ما يعمل على تنسيق الأحاديث والأقوال، بل إن اشتغالات المتحدثين كثيرا ما تدفع به الى الابتعاد عن الحديث. ليتحول الى عين ترصد وتنقل ومن ثم ليدفع بشخصياته ـ والتي هي بعضه ـ الى القول والحراك.
واذا ما كان (برج الزقاق العالي) مناسبة لإطلاق دور دفتر المذكرات، نرى القاص وعلى لسان شخصية الرسام المتوفى يقول: "أرجوك دع الدفتر واسمع بقية ما يأتي"، هذا التحول من القراءة الى الاستماع لا ينبع من الاستذكار/ الذكرى، بل من خلال الاستحضار. وبالتالي لا يمكن أن تتوفر حالة إبداع كهذه إلا من خلال إطلاق لحظة الكتابة.
القارئ لـ (برج الزقاق العالي) قد يقف وسط الدهشة، عبر انتقالات البطل، وعبر تعدد الوظائف.
الشخصية التي من الممكن أن تنتمي للجميع، والجميع هنا شخصيات القص، تلك التي تحسن القراءة والكتابة، وتمتلك التذوق والقدرة على الفرز، وتمارس حالة نضالية. بل وقدرتها على التضحية من أجل الوطن الشخصية هنا واحدة من مجموعة شخصيات قد تنتمي لصناعة الأزمات.
***
(حميد الزاملي) صانع لما يسمى بالمفاجآت، وكثيرا ما يضع القارئ وسط مجموعة الغاز وغموض. وحالات من التقنع والتماهي، وتحولات الموتى والأحياء. (برج الزقاق العالي) نص يعتمد على صناعة الفنطازيا، حيث يذهب القاص نحو الأقاصي. نحو حالة من الالتباسات، حالة من تداخل المواقف والحوارات.
هل كان القاص يسعى الى تنشيط مخيلة القارئ ودفعه الى صناعة المقترحات الخاصة به؟
قد لا تكون استنتاجات كهذه من ضمن مشروع القاص، ولكنها من الممكن أن تحدث/ تكون.
***
القارئ الباحث عن فنية القص واجراءاته، تلك المتعة المتأتية من تحول القارئ الى باحث. حيث يمتحن الكثير من القراء خزينهم المعرفي المتعلق بفنية السرد أو القص.
القارئ هذا لابد له من أن يضع مشرطه/ مجسه أكثر من مرة على حالات من التماثل ما بين القارئ وبطله الرئيس الذي لا يعلن عنه/ عن نفسه، رغم استعراضه لاهتماماته الكثيرة، أو قدرته على التلبس بشخصية الكاتب. بل إن القاص نفسه قد آل على نفسه صناعة شخصية قد لا تحمل صفاته الجسمانية إلا قليلا، إلا انه بالمقابل يحمل الكثير من اهتماماته بكيفية السرد وإدارة شؤون كائن يحمل ملامحه.
فإضافة الى السارد العليم ،نجد ـ ومعنا القارئ ـ أن هناك شخصا آخر:
1. "تأفف في البداية، لكنه راح يسترد حكاياته بتلقائية سلسلة"، الزفاف.
2. "وأشد ما لفت انتباهي كثرة قراءته للكتب، وطريقة الحصول عليها، كان يعشق الكتب بجنون"، عودة اللقلق.
3. "لا توغل في روحي أحزانا أخرى، أرجوك أنت القصة الوحيدة التي أعيش فيها"، عودة اللقلق.
4. "سوف أكتب عنهما قصة".
5. "لكنك توقفت عن الكتابة".
6. "وزاد بشكل مخيف ترددي وعدم قدرتي على صياغة نصوص قصصية منسقة"، قصص ميتة.
***
في (عودة اللقلق)، تلك القصة القصيرة التي منحت الكتاب القصصي عتبتها/ عنوانها، يعود القاص الى تشظياته، الى بقايا الآخر. فهو ـ أي القاص ـ إضافة الى الراوي يعمل على صناعة آخرين يشبهونه، بل إنه التوأم السيامي الذي لم يجد الكاتب ما يفاضله في صناعة المجاراة. بل من الممكن أن يقول القارئ إن البطل/ الشخصية العقلانية (على الرغم من عدم امتلاك معظم هذه الشخصيات لأي صحيفة أعمال) لا يمكنها إلا أن تعلن عائديتها مع سواها من شخصيات القصص الى شخصية الكاتب نفسه:
"قلتُ بارتباك:
ـ من أنتَ؟
ـ لا تخف أنا أنت"، في قصة (الرقم خارج الخدمة).
(حميد الزاملي) لم يستطع أن يمزق شرنقة سلطة البطل الشامل/ الكامل، الذي بمقدوره أن يستل من جيوبه/ من دواخله ما يشاء من الشخصيات القصصية. إنه القاص نفسه الذي يدور في حلقات الذات/ الأنا.
بل إن الاعتماد على شخصية كهذه كرس مبدأ ما يمكن أن ينتمي الى نمطية البطل. فكل كائنات القاص لم تكن متحدرة إلا من شريحة القاص نفسه/ شريحة المتعلم، وكل الوظائف العملية التي يقوم بها سكان المدن أو القرى أو الأرياف تقف خارج الكدح والكد وعرق الجبين، حيث يكون الذراع هو الأول والأخير.
في قصص (حميد الزاملي) لا مهن لهذا الشخص أو ذاك، على الرغم من أن العراقيين الذين غادروا مسقط الرأس كانوا يبحثون عن العمل. واذا ما كانت هناك شخصية تبحث عن أشغال أو مهن سوف يجدها القارئ مقطوعة. وإن لم يكن عن الوطن، سنراها منفية هاربة، لم تترك خلفها زوجا أو خلائق.
جميع القصص تستحوذ عليها شريحة المتعلمين، حتى ما عاد القاص بقادر على البحث عن آخرين يختلفون.
إن ضيق المساحة التي يتحرك وسطها المتعلم مهما كانت واسعة، سوف لن توفر له مساحات واسعة من الرؤية. بل إن تناولا كهذا سوف يوفر له قطيعة مع الآخرين، مع من يقف خارج فصيلة/ أو شريحة كهذه. بل إن الوهم كثيرا ما سوف يشكل بعض مفاصل ما يكتب. إذ يتوهم البطل وجودا لأشخاص قد يستعين بهم لتشكيل إضافات سرية، أو لينتشلوه من حالة الإحساس بعدم القدرة على مواصلة الكتابة. هذا الوهم/ الوسواس كثيرا ما يكون المنقذ والمخلص من الإحساس بالعزلة أو صناعة التوحد.
في (رقم خارج الخدمة)، يجد القارئ أن البطل يتحدث مع نفسه: "وقلتُ أيضا أين أنت أيها الشبح، ربما كنت نائما، أو كنت أهذي". "وتحدثت بصوت خافت، ها أنا أتذكر كل شيء". "حدثت نفسي بمرارة "رباه ماذا يجري. ماذا عملت، لم أتجاوز الخطوط الحمراء". "أغمضتُ جفوني ـ هكذا ـ ثانية وقلت في نفسي الفندق الفندق".
فرغم سلطة البطل على مجريات الأمور القصصية فإن إحساسه بالتوحد لم يدفعه الى إقامة علاقات سردية مع آخر من الممكن صناعته. لقد كانت (الأنا) أكبر من صناعة شخصية ثانوية توازي الرئيسة.
***
في آخر القصص (56 بوابة للحب)، يعلن البطل/ الشخصية الرئيسة، وبالأرقام، حين يقول:
"قمت بمراجعة سريعة للأسماء والأرقام التي مرت طوال (54) سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوما، بالتمام والكمال".
إن أي مراجعة لمن تتوفر لديه بعض المعلومات عن القاص حميد الزاملي، وعن بطله الذي لا يمتلك أي علامة فارقة تنتمي اليه، أو ينتمي اليها؛ سيضع هذا القارئ يديه على معلومة تقول: إن البطل الذي يتحدث بالأرقام لم يكن سوى القاص نفسه. والمعلومة التي تثبت ذلك هي تاريخ ولادة القاص هي في عام (1958). واذا ما أجرى القارئ عمليات الحساب: طرح تاريخ الميلاد من تاريخ/ سنة كتابة القصة، فسوف تقول الحاسبة إن العمر الذي يتحدد بـ (58) عاما هو نفس الرقم الذي يؤشر عدد سنوات عمر القاص.
2012 تاريخ الكتابة
1958 تاريخ الولادة
ـــــــــــــــ
54 سنة، عمر الكاتب، وعمر شخصية النص.
***
إن القارئ النبه، ومنذ قراءته للقصة الأولى سوف يقول وبيقين ثابت إن جميع شخصيات القص لم تكن سوى بعض شظايا الكاتب (حميد الزاملي) الذي لم يستطع أن يقمع (أناه) الطيبة، وان ينتج شخصية قصصية واحدة تقف خارج اهتماماته وطموحاته.
إن فعلا شاطبا كهذا لا يمكن أن ينتج سوى عملية استهلال لدواخل القاص. عملية تآكل للخزائن الحياتية، التي لا يمكن أن تنتج أشكالا قادرة على صناعة الاختلاف.
معظم القصص تستند على هكذا بنية تنتمي الى الافتقار للمحرض الداعي الى البحث عما يوجد في دواخل الآخرين.
فالقاص يكتب عن الحياة التي تنمو في دواخله، وليس الحياة المتحركة خارج كينونته. واذا ما استطاع القاص أن يقنع نفسه أولا والقارئ البريء/ الاعتيادي ثانيا، من انه يكتب قصة تعتمد المغايرة، عبر هلامية البطل، وعبر تقشير الجسد الواحد/ جسد البطل. أو انه يكتب قصة تعتمد تقنية الانتقالات الزمنية والمكانية. فإن القارئ المتابع سوف لن يجد هكذا قناعات من الممكن أن تنتج قصة تنتمي الى بنية وتكنيك القصة المعاصرة. القصة المستندة على صناعة الصراعات.
إن قراءة أولى لا يمكنها أن تنتج رؤية فاحصة من الممكن أن تؤشر على ممتلكات القاص والقصة معا.
فإرباك القارئ باشتغالات المثقف وما ينتج عبر عمليات التمويه والتماهي خلف الآخرين أملا بالخروج بمفهومات تقف الى جانب القصة وتشيد بإمكانات القاص. هذه الاشتغالات لا يمكنها أن تنتج قناعات قادرة على الوقوف الى جانب النص القصصي دفاعا عن كمية الإبداع الموجود داخل النص.
***
القاص يمتلك واقعا حياتيا، غير إن ابتعاده عن المشغل/ المختبر سلبه القدرة على الخروج الى القارئ بمنتوج يمتلك ماركة إبداعية خاصة به. إذ إن الوقائع والأحداث والأفكار هي مواضيع مشاعة كما الحياة، ولكن كيفية تشكيل الحياة، كيفية الإمساك بأطرافها، وحسن الإمساك بالمقود/ القيادة هو ما يميز المختلف عن سواه.
فالقاص كثيرا ما يعلن عن نفسه، ولكن ضمن حالة من التماهي خلف شخصياته القصصية "أسماء/ أعمار/ ثقافة/ طموح/ اهتمامات/ كتابة سردية"، وما إن يستل القاص نفسه أو بعض ملامحه ـ ضمن حالة افتراضية ـ أو يستل مضموراته من هذه الشخصية أو ذاك المتحدث حتى تتحول هذه الكائنات التي ملأت فضاء القص وجغرافياته حضورا حتى تتحول هذه الكائنات نفسها ـ حين تفقد عكازة الكاتب ـ الى حالة من الفقر الكتابي.
فعلى القص حين يروم الحياة أن يبحث عنها خارج (أناه).