ادب وفن

"لمصابيحك ارتديت عنقي": إشكالية تحديث بنية القصيدة (1-2) / حميد حسن جعفر

-1-

إذا ما كان العمود الشعري الذي استطاع أن يخيم بسطوته على آذان المستمعين/ المتلقين، مستنداً بذلك على قوة القافية، ووضوح الأوزان، وقدرة الإنسان على التلقي المسترخي، فإن التفعيلة استطاعت عبر تراكماتها الشكلية أن تصنع كلاسيكيتها كذلك، عبر انتمائها لعمود الشعر، رغم تخلصها من سلطة قانون كتابة البيت الشعري واعتمادها التفعيلة اعتماداً كلياً حتى تحول هذا الشكل ـ بنية القصيدة إلى نسق شاطب إضافة إلى الوجود الجزئي لسلطة القافية.
ورغم إشاعة مصطلح الشعر الحر الذي أطلقه شعراء الكوكبة الأولى ـ بدر، البياتي، بلند، نازك ـ وتابعوهم من الشعراء والمهتمين من الخمسينيين، إلا أن إطلاق هكذا اصطلاح على قصيدة التفعيلة ما كان متسماً بالمعرفة.
فالقصيدة الحرة لا تعتمد على ما ترتكز عليه قصيدة التفعيلة من أوزان خليلية والبحور الشعرية والقافية الجزئية/ الضمنية.
لذلك فإن الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وضمن إحدى محاضراته بجامعة بغداد/ كلية التربية أطلق على قصيدة التفعيلة مصطلح «الشعر العمودي المطور». إلا أن شعراء الجيل الستيني وما تلاه من سبعينيين وثمانينيين استطاعوا أن يفكوا الاشتباك عبر دخول المناهج النقدية كعنصر مهم في تغيير المفاهيم التي يتم عبرها النظر الى القصيدة المعاصرة. إذ تحول الشكل ـ الذي يصفه البعض بالقشرة ـ الشكل المتحرك الى قوة هدم وتدمير للمنجز الشعري وقوانينه المستندة الى سلطة القصيدة العمودية، وكذلك سلطة قصيدة التفعيلة/ قصيدة العمود المطور، والتي تشكل امتداداً للشعر العمودي وأنساقه، لا خروجاً عليه.
العمود الشعري ووريثته قصيدة التفعيلة مازالا يشكلان تواصلاً وحضوراً مع المفاهيم السابقة التي تربى عليها الجهاز السمعي للمتلقي. بل ومازال الشاعر القديم وإن كان معاصراً مازال يشكل قوة مقاومة لأنواع أخرى من الكتابات الشعرية.
وقد تشكل قصيدة النثر أحد هذه الأنواع، الى جانب قصيدة النص والنص المفتوح.
إن الشاعر في قصيدة النثر خاصة، كالبصير في حقل الألغام. والشاعر وسط هكذا حقل كائن لا يحسد على ما هو عليه، أو فيه.
هنا تشتغل المعرفة والحدس والمخيال والتوقعات كمعارف لا يمكن للشاعر أن يتخلى عن أي منها وسط حقول من التيه، وسط حقول المتغيرات. قصيدة النثر لا تعتمد المجانية في الكتابة ولا الأمية في المعرفة ولا الاتكالية في الاستقبال. وما عادت أوزان الخليل ولا بحور الشعر والقافية بقادرة على صناعة قصيدة معاصرة.

-2-

في «لمصابيحك ارتديت عنقي» المجموعة الشعرية الصادرة ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2013، تعلن جميع القصائد انتماءها لقصيدة التفعيلة، أو لقصيدة العمود الشعري المطور. هذا الشكل الذي تم على أيدي الشعراء الخمسينيين. هذا الشكل الذي كان يشكل ثورة حينها ـ وحسب المفاهيم الشعرية السائدة آنذاك ـ على مفاهيم الشعر المتوارثة. ثورة على قيم ومبادئ وقوانين وانساق القصيدة العمودية، حتى عده البعض محاولة/ مؤامرة لتدمير الثقافة والحضارة العربية والاسلامية وتجاوز على قدسية التراث والماضي.
«حسن سالم الدباغ» الشاعر، رغم ثمانينيته، ورغم انتمائه جيليا لما بعد الستينيين، أصحاب الريادة الشعرية الثانية، اذا ما اعتبرنا الخمسينيين هم أصحاب الريادة الأولى ـ ولما بعد السبعينيين والثمانينيين، أصحاب الريادة المتحالفة ـ الثالثة ـ أصحاب قصيدة النثر والنص المفتوح.
إلا أن سلطة القصيدة الخمسينية مازالت هي المهيمنة على كتاباته الشعرية. وذلك عبر مفصلين مهمين، هما: مفصل التفعيلة ـ الأوزان والبحورـ وكذلك مفصل القافية الضمنية. أي إن الشاعر يكتب قصيدة متعددة القوافي، بعد أن ينثر البيت الشعري أو الشطر الشعري وتفعيلاتهما على بياض الصفحة؛ في محاولة منه للتخلص من صورة البيت الشعري الكلاسيكي المعتمد بالأساس على الشطر والعجز أو على شكل السطر/ الشطر الشعري.
إن تغيير صورة الكتابة التي يستقبلها القارئ، باتت تشكل هماً للشاعر نفسه؛ لذلك ومن أجل الحفاظ على بينة قصيدة التفعيلة وسلطتها في البث، وفي صناعة المتلقي/ المستمع، فإن الشاعر يعمل على تمزيق البيت/ السطر الشعري وتوزيعه على بياض الصفحة.
إن وجود التفعيلة وكذلك القافية الضمنية قد لا يكتفي بها الشاعر على صناعة ما يكتبه؛ بل يعمل على صناعة القصيدة الصوتية/ المنبرية.
فالشاعر «حسن سالم الدباغ» يمتلك من قدرة سلطة الإلقاء ما يفوق قدرة القصيدة على استقطاب المستمع.
أي إن قصيدة الشاعر هنا قصيدة سمعية، أكثر مما هي قصيدة قراءاتية. لذلك فإن القصيدة المسموعة بصوت الشاعر هي غير القصيدة ـ وإن كانت ذاتها ـ المقروءة بقدرات القارئ.
إن انتماء «حسن سالم الدباغ» الى الجيل الثمانيني وما بعده والمهتم بالقصيدة العمودية حصراً ـ جماعة قصيدة الشعر ـ هذا ما استطعت أن افهمه من خلال كتابة وتصريحات شعراء قصيدة الشعر ـ عبر تشكل تجمع قد يشكل تجمعاً مناهضاً لجماعة قصيدة النثر.
أي إن «حسن سالم الدباغ» ينتمي كشاعر وكذلك قصيدته الى الصوت الآخر صوت جماعة «قصيدة الشعر». إذ إن القصيدة التي يكتبها «الدباغ» شاعر «لمصابيحك ارتديت عنقي» هي قصيدة إلقاء واستماع، لا قصيدة تدوين وقراءة. واذا ما فقدت خاصية المنبر فإنها سوف تفقد الكثير من متانتها وجزالتها، وقدرتها على التحكم بالمتلقي.
إن قصيدة النثر لا تنتجها عدم المعرفة وكذلك قصيدة التفعيلة لا تنتجها الأمية. إلا أن الذي يميز ما بين الاثنتين، إن قصيدة النثر تعتمد المعاصرة والحداثة، وتستعيض عن بحور وأوزان الخليل بإيقاعات الكلمات ذاتها. إذ تتحول الكلمة أو العبارة الى منتج للموسيقى.
في الوقت الذي تعتمد فيه قصيدة التفعيلة على القدامة والتراث وعلى الموسيقى والأوزان الجاهزة، حيث تشكل قولبة النص الشعري العمودي أو الخارج من فضاءاته. حيث تلعب الحنجرة وقوة الإلقاء دوراً كبيراً وكذلك باعتمادها على الأذن المجلية البعيدة عن خدوش الضوضاء والضجيج.
إن قارئ ما يكتبه «حسن سالم الدباغ» سوف يجد في القصائد السبع والعشرين ما لا يجده في قصائد سواه من الشعراء الواسطيين خاصة، فهو ينتمي لقصيدة العمود الشعري، الى العبارة المسبوكة والجزالة الشديدة التعلق بتشكيلات اللغة العربية. وذلك بسبب تشبعه بالثقافة الشعرية المتوارثة.

-3-

قد يشكل هذا الالتفاف حول قصيدة العمود وقصيدة التفعيلة لدى الكثير من المبدعين من الشعراء، قد يشكل حالة رد لما يعلنه البعض عن سهولة كتابة قصيدة النثر خاصة.
فالكثير من التصورات التي يحملها الكثيرون ممن يدعون الشعرية تعتمد على المجانية وعلى الترديد الببغاوي، معتمدين على مفاهيم قاصرة لا تعتمد الثقافة معياراً في تقديراته لتقييم قصيدة النثر.
إن اعتماد الكتابة عامة والشعرية خاصة على خاصية التجميع ـ تشكيل بنية النص ـ فإن قصيدة النثر تعتمد على الكثير من الموازنات ما بين المفاصل التي تعتمدها ومن هذه المفاصل تعدد الحقول، تعدد المصادر، توفر المخيال مع المخيلة الفتية، والخبرة والقدرة على صناعة الفسيفساء.
إن وجود الملامح من عينين وشفتين وأذنين وانف وخدين في كل من الإنسان والحيوان لا يعني أن هذا الإنسان من الممكن أن يكون حيواناً. أو إن الحيوان/ البهيمة من الممكن أن يكون كائناً بشرياً. فالذي يميز ما بين هذا وهذا ليس التشابه بل هو الاختلاف، حيث يتوفر في الإنسان من فكر وأحلام ومخيلة لا يمكن أن يوجد في باقي المخلوقات مهما كان تدرجها في سلم التطور.
إن فنية القصيدة المعاصرة لا يعني تجميعاً أمياً، أو تجميعاً فوضوياً أو عشوائياً؛ فالشاعر أمام الكم الهائل من المتغيرات لا يمكن أن يقف متفرجاً أو ناقلاً أو مقلداً، ولا يمكن أن يكون مرآةً عاكسةً لما يدور حوله من وقائع وأحداث.
بل إن الشاعر المعاصر في يومنا هذا يشكل أكثر من مختبر، أو أكثر من غرفة عمليات وأكثر من كيمياء؛ قادرة على تحويل المعادن الرخيصة/ اللغة المتداولة الى معادن ثمينة/ الى إبداع.
وإن عبد الوهاب البياتي الرائد لم يكن في «بستان عائشة» أو في «سيرة ذاتية لسارق النار» لم يكن شاعراً خمسينياً بل كان أكثر فتوة من سواه. كان ستينياً في كتابة القصيدة المدورة، وسبعينياً وثمانينياً في كتابة قصيدة النثر.
حسن سالم الدباغ وتحت ضغوطات القصيدة العمودية ـ أوزان وبحور الفراهيدي ـ وسلطة القافية يلجأ الى التقفية الضمنية؛ فهو يردد مفردات التثنية كقافية مثل: الضفتين، الجسدين، الردفين، العينين، مسرجتين، كوزين. وما من الممكن أن ينضم الى هكذا مفصل من ثنائيات الشاعر إذ احتوت القصائد السبع والعشرون على أكثر من خمس وخمسين مفردة تابعة للتثنية، إضافة الى أكثر من «345» مفردة استخدمت للتقفية.
1- تحولات الدخان خمس عشرة مفردة، تنتمي إلى التفعيلة الضمنية.
2- المصاطب إحدى وعشرون مفردة، تنتمي إلى التفعيلة الضمنية.
3- لمصابيحك خمس وستون مفردة، تنتمي إلى التفعيلة الضمنية.
4- مشاهد ليلة الانتظار سبع عشرة مفردة، تنتمي إلى التفعيلة الضمنية.
5- الليل لامرأة سبع مفردات، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
6- انتي مينااثنتان وثلاثون مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
7- رغبات تسع عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
8- الخماسية اثنتا عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
9- عندما بعض خمس مفردات، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
10- ترقب سبع مفردات، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
11- ما لديك اثنتا عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
12- صور إحدى عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
13- ورقتان ثلاث عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
14- البوم ست مفردات، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
15- بين ظل وظل تسع مفردات، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
16- الوطن ست عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
17- فرق أربع مفردات، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
18- لن أضرب النجم سبع وعشرون مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
19- اختطاف خمس عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
20- الرحلة الثانية خمس عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
21- حالات خمس عشرة مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
22- من لا يجيء ثلاث مفردات، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
23- ليلة شم الورد خمس وأربعون مفردة، تنتمي الى التفعيلة الضمنية.
يتبع