ادب وفن

الموقف والاحتجاج (1-2) / جاسم عاصي

الشاعر "طيب جبار" ينحو للمفارقة في استعمال اللغة كوسيط لساني. ويكون هذا النمط من الاستعمال لغرض كشف الظاهرة التي يختلف معها.

وقد يصل أحيانا ً إلى التعرّض إلى نقيضها، غير أن الشاعر في هذا المجال الحيوي من التعامل مع اللغة، لا يكشف عن مفارقاته مباشرة، بقدر ما تكون العلاقات التي تتم بين الدالات هي التي تتحكم في المعنى، حيث يأخذ بالحساب أنها تُشير إلى منظومات تتشعب وتتعمق عبر مسارها اليومي، إذا ما رفعنا عنها غطاء الشعر تبقى المؤثرات جارية، متمثلة في معظم الإنتاج ومنها الشعر . ولا نقصد هنا الأنساق، وإنما اتخاذ نوع من الحيادية في الموقف وممارسة فعل الأثر وما يتركه من تأثير. ثم أننا نؤكد على نوع الانتباه إلى أهمية أن يكون الوسيط "اللغة" بمعزل عن حراكً الثيمات المراد التعبير عنها بالشعر. وهذا بطبيعة الحال لا يقود إلى وهم انحسار علاقة اللغة الشعرية بيوميات من يعيش ضمن المجال الاجتماعي الحيوي، منغمسا ً في بنيتها بفعل المعايشة.
إن الشاعر لحظة يؤكد على استقلالية اللغة الشعرية بنية، وانحيازها دلاليا ً، إنما يؤكد أيضا ً وفي نفس اللحظة على بلاغتها وعمق غورها وهي تنغمس في اليومي. كما ويُشير إلى ما يجري من حركة داخل آصرة هذا الواقع بجزئياته المؤثرة. إن الشاعر يتسقط الاستثنائي. وهذا ما أكدناه في دراسة قصائد ديوانه "ذات زمان الظلام كان أبيض" في كونها قصائد تترصد ما هو جار، والارتقاء به إلى حراك الشعر. واليومي لا يعني فقط المعيشي الذي يخص الشرائح المصادرة حقوقهم، وإنما ما يُقدَم من مصادرة عند أصحاب القرار السياسي الذي ينعكس سلبا ً على اليومي الذي نعنيه.

العنوان بنية دالّــة

إن المفارقة التي يؤكدها الشعر هنا، هي مفارقة تركيب لساني، سواء في العناوين الرئيسية أم الفرعية. من هذا نرى إن الشاعر "طيب" يؤكد في استعمالاته على أهمية العنوان الرئيسي للمطبوع، في جعله أكثر بلاغة، وبالتالي أكثر إثارة. فـ "قصائد تلتفت إلى الأمام" تأكيد على انحراف النسق الواقعي الذي تُشير إليه اللغة. فعنوان كهذا يستجمع نسقه اللغوي، ليصب في نسقه الدلالي. بمعنى تكون القصائد التي "تلتفت" أكثر كشفا ً للقارئ إذا ما جُردت عن الزمن. غير أن اقترانها به يدفعها إلى المفارقة أولا ً، وإلى الدلالة الجديدة ثانيا ً. فـ ( إلى الأمام ) تُثير الملاحظة وجدلية السؤال: كيف يكون الالتفات إلى الأمام؟، والجواب تكشفه الظواهر التي عالجها المتن في قصائد الديوان باعتبارها حاصل تحصيل ، فالجزء يستظل بالكل . الالتفات هنا نابع من ظاهرة مغيّبة، وهي قرينة نقيضه لـ "الخلف" من مستويين. الأول: كون الخلف يرتبط بالماضي. وثانيا: كون إعادة ما يتضمنه الماضي، خسارة مسبقة. والسؤال الآخر الذي ينبثق أمامنا على شكل سؤال أيضاً: إذا ً ماذا سيحصل بديلا ً عما أشير إليه أعلاه اعتراضا ً أو إشارة من باب خاصية الحياد؟ والجواب يحتويه "إلى الأمام" الذي يُسفر عنه نسق عنوان الديوان . فالالتفات هنا ليس معناه إدارة زاوية النظر على محيط دائرة، بقدر ما هو يشي بالاعتناء والرعاية والدعوة إلى عدم التفريط بما هو آت. إذ ثمة أزمنة ثلاثة أمامنا "الماضي والحاضر والمستقبل" وقد ذكرنا من خلال ما يضمره العنوان بشأن الماضي، أما الحاضر لا يكون له متحقق إذا لم يكن له علامات جادّة تشي بالذي يليه بناء وتشييداً، فهو حاضر ضمن المستقبل في "الأمام" ذلك لأن المجموعة البشرية التي ليس لها حاضر ليس لها مستقبل. وهذه بديهية، لكنها تشتغل في هذا الحقل بأكثر حيوية، لأنها مرتبطة بعمارة قادمة لا تنفصل أسس بنائها عن مجريات ما يُطلق عليه المستقبل. ذلك، لأن حركة الزمن تتوالى باستمرار وبدقة، فما هو حاصل قبل ثوان، يصبح ماضيا ً فهو ليس حاضرا ً ولا مستقبلا ً. فحضوره يُقاس بما يضعه من علامة تُدَّخر لزمن قادم. وهذه التصورات لا نعني بأننا نتعامل ببداهة مع وجود الحاضر، بل بدلالة وجود حاضر معتنى به مصاغ برؤى المجموع. إذا ً عودتنا إلى مفارقة العنوان، تأتي من باب الاهتمام بالحاضر لضمان مستقبل أكثر قبولاً. وهذا بحد ذاته يؤكد على نقد موضوعي للواقع حصرا ً، لأننا لا نرى المستقبل غير الحاصل، وإنما نرى الأسس المهيأة له. فليس ثمة حاضر، بل هو مقرون بالأثر المتروك للزمن القادم.

الخصائص العامــّة

لا شك إن لكل جنس من الكتابة خواصّ. ولشعر "طيب جبار" خوّاص تتغيّر وفق متغيّر المناخ العام والخاص للظواهر المنطوي عليه الشعر. ولعل أولى هذه الخوّاص هي؛ الاحتجاج والرفض بمعنى أن للشاعر مواقف تشكّل في بنيتها ذات الوتيرة الهادئة المنطوية على نوع من الاحتجاج على ما هو سائد من ظواهر. هذا الاحتجاج باعتباره دالاً على موقف يحتكم للشك، قد يُسفر عن موقف آخر وهو موقف الرفض الواضح والمكشوف. غير أننا نجد مجموع الاحتجاجات والرفض ذات رؤى تتحلى بالموضوعية الجدلية والموضوعية الشعرية ــ مجازا ً في الثانية ــ . فحين تتغيّر وتستقر الأساليب التي هي من طرائق التعبير، تكون البلاغة هي الحكم في هذا. وثاني هذه الخوّاص تتركز في أن الشاعر لم يزل يتوسل بالطبيعة وجماليتها ليتخذ من صوّرها الأكثر إشراقا ً ومثابات للتعبير البلاغي. وهي خاصية يتحلى فيها شعر الكرد بالأغلب، فهم عشاق طبيعة. فالطبيعة هي ملهمة الشعراء على مدى العصور والأزمنة، لكن المتغيّر هو الكيفية التي يتعامل من خلالها الشاعر مع مفردات الطبيعة، كما وجدنا ذلك في شعر "عبد الله كَوران، قوباد جلي زاده ، شيركو بيكس" وغيرهم. و"طيب" ينحو مثل هذا المنحى لاشتقاق صوره. لاسيّما أن مفردات بيئة كردستان زاخرة ــ بحكم بكريتها الدائمة ــ بالصوّر الواقعية ذات الدلالات التي يتصل معظمها بمنظومات الأساطير والحكايات الشعبية والموروث الديني. ذلك لأن النسيج البيئي خلق من كل هذه المتون المعرفية علاقات ارتقت إلى المنظومات المؤثرة، وفعلّت المخيال، ونسجت مباني مختلفة على مر الأزمنة لدى منتجي النص من الكرد حصرا ً، وهي مجموعة أنسجة لمفاهيم عامّة وكبيرة، خلقت ظواهر ذات بنية ترتبط بالمخيّال أكثر مما تتصل بالواقع كصفة وجود. وهذه المفارقة هي التي تُنشئ البنى الأسطورية ضمن علاقات عجائبية قارّة. من هذا نرى صوره الشعرية مستقاة من ذات البيئة البليغة في مشاهدها. وثالث هذه الخوّاص؛ هي الاستفادة من كلا الخاصيتين لتأسيس منحى شعري ذي نمط يحاجج الواقع . قد يكون ينتقده. لكنه بمقاييس الجدل يكشف عن إبراز مفارقاته وانحرافاته وأحيانا ً خلله وخطله. ورابع هذه الخوّاص؛ كون الشاعر لا يسمي الأشياء بأسمائها، بل بأثرها المتروك في الصاعد إلى الذهن من بؤرة الواقع.
هذه الخوّاص مجتمعة، أسست لقصيدة الشاعر التي خاضت وتخوض حالة كشف عن المهمل والمتروك في الحراك اليومي، وكما أكدنا على قصائد ديوانه المشار إليه أعلاه. لذا يتوجب قراءة القصائد من هذه الأبواب، وغيرها ممن تكشفه العلاقة مع الشعر في متن الديوان.
يحاول الشاعر أن يقترب من مفردات لها وقع ومبنى أسطوري، لينسج من عالمه الشعري، استقلالية في كشف بلاغة هذه المفردات التي ترقى إلى الرموز الأسطورية ومنها "الريح، الماء، النار، التراب" في مجرى قصيدة "الرباعية الأولى" المقسمة إلى مجموعة حراك موصوف . تتغير التسمية، وتتشعب الدلالة فيها كما سنرى. هذه المفردات التي ذكرناها تعمل على صياغة نوع من الحكمة ذات البُعد الأزلي في موروثاتنا، كما هي عند الحكيم "إحيقار" في الأقدم من موروثاتنا. فالحذر الذي تؤكده مقاطع القصيدة تعني درء الخطر الناتج من قوة الصدمة أولا ً، ومن قوة الإهمال ثانيا ً. لذا فالحذر يكون من باب تصوّر الآتي من بعد ذلك. فقد صاغه الشاعر على شكل متغيّر وفق صورة المحذر منه وعلى الشكل التالي: فالماء بما فيه من حياة، يراه بسكونه ــ نومه ــ يتحوّل إلى ــ عفن ــ . هذه المجازات هي التي أغنت الرؤى عبر اشتقاق الصورة الأمثل للمألوفات كالريح والماء والنار والتراب والقصيدة. ذلك لأنها تتحول بفعل الإهمال إلى "تقطع عنا الدرب، أحلام عفنة، تتفحَّم ويتعذَّر تناولها، يختل توازن الأرض، تنتشر الأوبئة" هذا التصوّر للنتائج متأت من وعي مثل هذه الرموز في البيئة، والتي تخلّق وتخلّف السحر. لكنها في المقابل تترك أثرها السلبي. وللشاعر مجموعة أحداث دالّة على ذلك في بنية التاريخ والتاريخ الأسطوري. ولعل قصة الطوفان أبلغ معلَم تاريخي أسطوري.
في مجال الاستخدام البلاغي للمسميات، وتحويلها من مجالها المتفق عليه، إلى مجال آخر خارج الاتفاق. لكنه يتخذ له موطناً للنظر والفحص وإبداء الموقف بروح شعرية فيها شيء من روح المزحة التي لا تترك أثرها سلبيا ً. فالشاعر يعامل أيضا ً مع مسميات ذات بُعد أسطوري، وهي الفصول الأربعة. ويكون تعامله معها في السياق الشعري من باب كشف الدال وروح التهكم من خلال الدلالة. مبتدئاً في كل مقطع بعبارة "لو كنت أعرف"! وهي جملة تعبير تؤشر نوعاً من الأسف والأسى في نفس الوقت، لأنها ارتبطت بالنقد الساخر. فمن خلال فصل الربيع يُحيل النتيجة إلى نوع من تعطيل مصدر القرار بروح تهكمية من خلال عبارة "لأمرت بحلّ..../ المجلس الأعلى للأمطار" أما في الصيف فيذكر "لأحلت مدير أشعة الشمس/ الى القضاء" أما الخريف ، فأنه يُحيل "بستانيّ الذبول/ الى التقاعد" ويبقى الشتاء، فيكون نصيبه "لأغلقت.../ دار الغيمة للطباعة والنشر" هذه السخرية المرّة فيها الاحتجاج واضح، والكشف أكثر وضوحا ً، ثم الموقف لا غبار عليه. غير أن كل هذا لم يُبعد القول الشعري عن شاعريته، بل مزج السياق الشعري بين التصور الأسطوري للفصول التي خُبئ أثرها الإيجابي وبين الدلالة المباشرة والناقدة للأثر. بمعنى سلط الضوء على محور أثر الأسطوري المتمثل في الفصول الأربعة. ولا يخلو مقطع "الجهات الأربع" عن مسار كهذا، بل عمّقه من خلال جمل شعرية ساخرة أيضا ً. ومنها "عكّازة الوئام و.. / دفء الخصام. رزَّ القهقهة و.. / مَرَق العويل. عطر الراحة و ../ رائحة الصخب. أناشيد الحوار و .. / أغاني العنف"..