التجربة الكتابية في "خميلة الأجنة" للروائي علي عبد الأمير صالح تبدو أكثر وضوحاً وسطوعاً. بل وتمتلك أكثر من مبرر. الأجنة في خميلتها أكثر قدرة على خلق حراكها وسط رحم/ بيت القص.. أي في بيت الرواية..
وما ان تتحرك الشخصيات ومعها الراوي، أو مجموعة الرواة، إذ ان القاص يعمل على خلق تشكيلة من المحدثين والحكائين ـ بعيداً عن حالة الاستحواذ التي يخلقها الراوي العليم كما في ـ ارابسك . ما تتحرك الشخصيات حتى يتحرك العقل / الوصف السردي.
في الخميلة يلغي الروائي حالة الخرس التي شاعت في التجربة الكتابية الأولى ليطلق عقال السنة شخصياته في محاولة منه لخلق حالة محاذاة للتعددية الصوتية. وذلك عبر عملية خلق عدد من الأصوات [أو ما يمكن ان يسمى] من اجل تحريك النص الروائي والتخلص من الخمول والبرود اللذين كثيرا ما يلقيان بظلالهما على كائنات السرد.
في الكتاب الثالث من خميلة الأجنة. يستعرض الروائي قدراته. حاله حال سواه من نساجي الحكايات المطلعين على لعبة السرد. حين راح يجيد عملية استحضار الشخصيات ـ تلك الخلايا السردية النائمة ـ أو سحبها الى جغرافيات أخرى. في هذا الكتاب يرى القارئ ان الكاتب مازال ممسكا بخيوط النسيج السردي. وما عادت الشخصيات واقعة تحت سلطة التسيب، بل ان صنعة الكتابة السردية باتت خاضعة لفنية المنتج للعملية السردية حتى ما عادت الشخصيات قادرة على الخروج على العملية الإبداعية. فبين يدي السارد تقوم عملية التنفس والسباحة وسط الحوض، كما لو كانت هذه الشخصيات سرب اسماك. لا تمتلك أحقية الحياة خارج الحوض / الماء.
ان إهمال القاص لأي من شخصيات السرد ما هو إلا عملية إلغاء أو دفن، رغم أهمية كون الشخصية هي التي تتحرك خارج إرادة القاص بعيداً عن سلطة القمع التي قد يمارسها الروائي.
ان الشخصيات التي تمتلئ بها عملية القص رغم واقعيتها المفرطة ستظل بعيدة عن الالتصاق بالواقع. وذلك بتأثر حالة الإبداع التي يرمي الكاتب بها عليه، لتتحول بالتالي الى شخصيات غير واقعية. شخصيات لم تقم بما يكلفها القاص بها في حياتها الخاصة.
شخصيات تعترف ـ وذلك بفعل تأثير الكاتب ـ من إن الأدوار التمثيلية التي تؤديها على صفحات النص هي من صنع خالق لحياة أخرى. يمكن ان نسميها حياة السرد. ادوار قد تقترب بهذا الشكل أو ذاك مما كانت تؤديها النسوة والصبايا أو الجند والمومسات والراقصات الغجريات ولكنها لم تكن بهذا الشكل المغاير والمختلف كلياً.
فإذا ما كان هناك ـ ضمن العملية الروائية ـ لـ ـ أرابسك ـ عملية تعرية وكشف وإدانة للفكر الفحولي. وسيطرة الأب كحاكم على مجريات الحياة.
في ـ خميلة الأجنة ـ مساحة واسعة. وكتلة صلدة من الإشارات والدلالات تمتد وبشجاعة الى الأدوار العسكريتارية التي كان يقوم بها ويقودها أناس غير متحضرين.
في ـ ارابسك ـ جميع الشخصيات تنتمي الى الشريحة المتعلمة، الراوي وشخصيات القص في ـ خميلة الأجنة ـ جميع الشخصيات إلا القليل تنتمي إلى قاع المدينة التي جاءت عن طريق عملية قيصرية لواحدة من القرى.
معظم هذه الشخصيات لم تتمتع إلا بالقليل من المعرفة مع بعض حالات الاستثناء. هؤلاء الأناس الذين لم ينتموا إلى مدنية، وان كانوا قد انتموا إلى الحضارة والذين جُندوا من اجل تهيئة الأمور وإقامة كل ما هو استثنائي في حياة العراق والعراقيين متمثلة بحالات الاحتراب. وبحالات الحروب التي قد لا يحسنون صناعة سواها. من اجل تدمير الإنسان روحاً وجسداً.
إذ أن الحروب لا يمكنها ان تنتج إلا الكائنات المشوهة. وإذا ما أنتجت كائناً جميلاً فما هذا الإنتاج سوى حالة إنتاجية صناعية مؤقتة. حيث يتم التعامل معها وراثيا حالها حال تسمين العجول وتربية الدواجن.
حالة مزورة ومزيفة سرعان ما ستتساقط عنها معاجين التقشير والأقنعة والحمامات الزيتية لتظهر تشوه الجسد والروح. الذي يقف بعيداً خارج النص ـ خارج خميلة الأجنة ـ ولكن بتأثير منه. وفق حالة من الايحاء والاشارة والإيماءة. فكثيراً ما يقف القادة خارج منطقة الرؤية. أو خلف سواهم. لتظل الصورة هي الفعل.
في ـ خميلة الأجنة ـ استطاع المؤلف. وضمن حركة إبداعية السرد أن يبعد الموت أو الإهمال عن الكثير من الشخصيات. فما إن يودع احدهم ضمن فصل روائي أو مرقومة كتابية حتى يستخدمه في فصل آخر، أو مرقومة أخرى مستفيدا من قابلية السرد على إعادة الحياة/ الحراك للشخصيات القصصية. في الخميلة استطاع القاص أن يعيد تشكيل الكثير من السرديات التي أهملها أو لم يستطع ان يعيد لها الحياة في تجربته الأولى ـ ارابيسك ـ
إن تقسيم السرد إلى كتب ثلاثة وتشكيل الكتاب الى مجموعة من المرقومات, أتاحت هذه التقسيمات للمتحدث العليم أن يستفيد من قدرات وإمكانات ما تتصف به الكثير من شخصيات القص. بل ان الواقع اللا واقعي الذي كان يشكل لحياة الفنطازيا قبل ان يشكل الحياة السردية. هذا الواقع بتنوعه وتغيراته منح القاص فضاءات واسعة، وجغرافيات غير متشابهة تمكن من خلالها ان يتحدث عن الكثير من مفاصل الحياة التي كانت تقع تحت سلطة ممارسات الكائن الذي يؤثثها بأفعاله وآثامه وارتباكاته.
قد يعتقد القارئ الأبيض البريء. الذي لا يمتلك دليلاً للقراءة. صاحب الذاكرة النظيفة من الأحبار وما تنتجه غابة الحروف، هذا القارئ قد يعتقد ان كتابة رواية تنتمي الى رؤية الأشخاص أو الأفكار أو الأحداث هي مهمة سهلة. وما على الكاتب سوى ان يرصف الحدث الى جانب الحدث والشخصية بمواجهة الشخصية والفكرة بموازاة الفكرة. ليتشكل لديه عمل سردي. ناسياً، وغير عارف ان رصفاً كهذا لأفكار وأحداث وشخصيات لن يشكل فناً بارعا من اجل إقناع الآخر ـ نعني به المتلقي ـ من ان ما تتم قراءته هو فن ينتمي الى الفنون السردية. وان قناعة القارئ بما يقرأ وسط عالم مليء بالأشكال والاطرزة بالصور والحركات وبغواية السينما وعوالمها والانترنيت ومنتجاته. عالم مليء بالمدارس النقدية والأشكال الروائية.
ان قناعة كهذه لا يمكن الإمساك بها من غير ان يكون الروائي ممسكاً بزمام شكل إبداعي فسيح كفن السرد. وبعد ظهور أشكال كتابية بسبب تداخل الأجناس وتشابك الحقول. وتحول القارئ الى كاتب منتج لنص سردي آخر.
في ـ خميلة الأجنة ـ قد يجد القارئ أن لدى السارد رغبة في قول كل شيء حتى تتحول الكتابة الى حالة تقترب من السرد المباشر الذي ينتمي الى فن كتابة التقرير وعرض الحال.. بعد أن يخفت صوت الشخصية وينطفئ الحدث ويصيب الأفكار التشوش. ولم يعد بين يدي الكاتب سوى القليل من الذهنيات غير القابلة للتناسل. وغير المنتمية الى حركة الآخرين كما هي الحال في الكتاب الثالث المرقومة الخامسة الصفحات (247/ 249) حيث تسود حالة الوصف ويغيب الفعل وتخبو شعلة الحالة الجمعية للأفراد..
إن رواية الأفكار ليس من السهل ان يمسك الروائي بخيوط نسيجها فهي كائن لا يمنح نفسه إلا لشخص نسّاج، صاحب حرفة ودربة وتجربة الى حائك صاحب خبرة بإمكانه أن يحيل المتوفر من الخيوط الملونة والداكنة وكذلك البيضاء إلى جغرافي للجمال والاتساق. ومن التقاطعات والعقد إلى حالة من التناسق والألفة التي من الممكن أن تخفي الكثير من عدم الترابط والأخطاء.. أن تلاحم الأفكار وسطوع الأحداث وحراك الشخصيات كل هذه المفاصل بمقدورها ان توفر للعملية السردية ما توفر حواريات المسرح والصراعات والقيم ودور الزمن وفعل الجغرافيا/ المكان ليجد القارئ نفسه وسط محيط من جنون الكتابة القادر على توفير قراءة مفعمة بالفن الروائي وبالإبداع الكتابي.
إن الأفكار والآراء والأحداث والشخصيات جغرافيات وكائنات أميبية لا تعترف بالحدود وثبات السيميا والنهايات. بل إنها حالات مطلقة التشكيلات.
عند هذه النقطة من المفترض ان تتجلى قدرة الكاتب على إقناع القارئ على ان نهاية السرد قد حلّت. وما عادت الأفكار والحوادث والشخصيات تمتلك مبررات وجودها.. عند هذه الجملة على السارد أن يبرهن على ان الأفكار يجب ان تضع حدا لتلاطمها. هذا قدرها. وعند هذه الاستدارة أو هذا الجدار على الشخصية ان تترك مكانها لكلمة ـ تمت ـ أو ـ انتهاء ـ أو ـ النهاية. وان لا أحداث بعد الآن. فقد اكتمل النسيج القولي. وما عاد في جيب الساحر من أفعى. وان العصا/ عصا الساحر استطاعت ان تتلقف كل أفاعي القراء. وما عاد أمام المتفرجين من حجة يعلنون عبرها عدم رضاهم. أو عدم اعترافهم بما شاهدوا.
ان عملية تحويل التراب كيميائيا/ روائيا الى ذهب خالص عملية لا يمتلكها إلا الصاغة من المبدعين. والروائي المتمكن هو القادر الوحيد على تحويل المتداول من الأشياء الى تحف. الى قاعة عروض يدخلها الرائي / القارئ للمرة العاشرة ويخرج منها كما لو كان لم يدخلها من قبل إلا مرة واحدة.
ان رواية كالتي نحن بصددها قد تؤدي بكاتبها الى التهلكة، ان لم يكن ملما بفن الكتابة السردية .فهي كائن خرافي قد تلتهم الكاتب نفسه ان لم يصنع لنفسه مخرجاً أو أكثر. يتمكن عبره من الخروج من هكذا فخاخ أو الدخول اليها. الى هكذا عالم فسيح أميبي وعميق. ومغلق في آن واحد ولا يمتلك حق تفكيك مغاليقه إلا من امتلك من المعرفة والعلم الشيء الكثير. فهذا فن بحاجة الى كم هائل من القناعات المتمثلة باحالات معارفية وعرفانية وقضايا روحية وفكرية وجسدية. أفكار تخرج من بين حجارة الجدران. أو لا تعترف بوجود جغرافية غير الابتعاد عن الأرض وما تمتلك.
هذا فن بحاجة الى معلومات حياتية تشمل الإنسان والكون بأجمعه فمن أجل أن يخلق الكاتب حالة تعويض أو إبدال لما يفقد هكذا جنس روائي من حدث مركزي أو شخصية سردية محورية. أو حوار وثيمة وموضوع وصراع. بين أفكار وشخصيات. وضرورة توفير حالات رفض وشطب. هذه المرتكزات الواجب توفرها. ان لم تجد لها موضع قدم على صفحات النص السردي. على الكاتب ان يخلق حالة تعويض، خلق بدائل. وفق حالة من الفنطازيا. أو وفق عدد من المخيالات القادرة على إثارة انتباه القارئ وإبعاده عن أصول اللعبة الروائية الكلاسيكية. بل وحتى ابتكارات حداثوية وما بعدها.
هل من الممكن ان يطلق القارئ الذكي حصيلة قراءته في حقل التناص أو التأويل أو إطلاق صراح مخيلته لتوازي وتقارن وتماثل. ليقول ان الكناني لم يكن سوى المؤلف نفسه. أو انه الشخصية التي من الممكن ان يتماهى خلفها، أو ان يتخذ منها قناعاً.
فقد راح "يشير ـ ونعني به الكناني ـ بسبابته الى الدفاتر الثلاثة الموضوعة على طاولة صغيرة".
ألا يمكن ان تكون هذه الدفاتر الثلاثة هي الكتب الثلاثة التي تتكون منها الرواية ـ خميلة الأجنة ـ والتي يقول الكناني عن الدفاتر الثلاثة كما لو كان هو الراوي/ الكاتب السارد "هي ليست سيرة ذاتية بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا إنني دونت فيها أهم حكايات القرن العشرين حكايات لا تنتهي".