علي أبو عراق
لا يغفل أي متفحص للمجتمع العراقي قديما وحديثا من الالتفات الى ظاهرة الحزن ورسوخها وعراقتها وتواترها في المجتمع العراقي عبر عصوره ودهوره، ووجودها كعتبة هامة في حضاراته المتعاقبة والتي لا تعرف القطيعة والخروجن لتشكل ملمحا مهما من ملامح سايكلوجيته وروحه.. بل تكاد تكون المدخل الرئيس لنفسية العراقي وتاريخه وفعالياته الاجتماعية، فقد برز ادب الرثاء والبكائيات في بلاد الرافدين في وقت مبكر في كل عصوره الحضارية وحايث كل فعالياته الاجتماعية و دخل الواقع والاسطورة ايضا ومن اوسع ابوابها كذلك، ولا تكاد اسطورة رافدينية او اي نص آخر من الاستغناء ?ن الامتياح والتزود من الحزن باعتباره الوقود الوجداني لها، وقد خلفت المثلوجيا مادة غزيرة لهذا النوع من الادب بدأت بالرقم الطينية وانتهت الى التدوين في تلك العصور المبكرة من الادب السومري والاكدي لكي يصبح نمطا قائما بذاته ، وربما ياتي هذا بالدرجة الاساس الى الكوارث التي المت ببلاد سومر واكد واشور وبابل ، لذا يكثر ويتنوع ويتواتر ادب المراثي والبكائيات فمن مراثي المدن ومناحاتها الى المراثي الدينية مراثي الالهة والمعابد -الى المراثي الشخصية الى -المراثي الطقسية والشعائرية، وقد لازمت هذه الثيمة المجتمع العراقي لحد الان..وتناقلها العراقيون من عصر الى عصر ومن حقبة الى حقبة ، فكان لمفردات البكاء والدمع والنواح والندب والرثاء مكانا مرموقا في اللغات الاكدية والسومرية والبابلية والذي لم يزل ممتدا وراسخا لحد الان ، بل اصبح هذا الادب ادبا ملازما لكل لمحة وحقبة عراقية ، ولا يخفى على كل الناطقين بالعربية حاليا من معرفة النص الشعري والاغنية العراقية وحتى الموسيقى وتميزها عن الفعاليات الابداعية لدول اخرى لما يسكنها من حزن ويتلبسها من شجن،ومن نافلة القول الجزم بان المراة العراقية هي بطلة الحزن العراقي وعرابته وسادنته لما يقع?عليها من حيف وضرر جراء هذا الحزن ، واذا كان الرجال يتحلون بالصبر وبعض الشكيمة و رباطة الجأش فأن المراة العراقية تطلق العنان لاحزانها دون تكلف أو انقياد لمعايير لا تعنيها كثيرا ، فالطبيعة تفتك وتمارس اشكال خراباتها (فيضانات..عواصف...اوبئة الخ) والرجال يتقاتلون ويموتون في الحروب او مقارعة الظلم او مواجهة الحكومات او مواجهتهم لبعضهم وغيرها..وهي عليها ان تلد الاولاد بكثرة وتفقدهم بوفرة في الحروب وغيرها وكذلك تفقد الاشقاء والازواج ايضا دون اعتراض لتشبع نهم الحروب وبالتالي وفوق كل هذا لتغدق بالحزن والدموع والبكاء والعويل فوق هذه المشاهد المأساوية...وظل هذا ديدن المراة العراقية منذ فجر التاريخ والى الان..وهذا لا يجعلنا نغفل ان بعض النساء فعلن اكثر من الرجال شجاعة وتضحية وجلادة..ولكن على الارجح كانت مهمتها الاساس هي البكاء والتآصر مع الفواجع والعيش في عمق السواد وذروة معاناة الفقد، وتواتر هذا منذ طفولة البشرية وحتى شيخوختها الحالية ان صح القول مع تنوع قائمة الفقدان ودخول اشكال و مفردات فتك وهتك وموت جديدة من حروب ومفخخات وصواريخ وعمليات ذبح جديدة لتبقى مجمرة الزمن العراقي مشتعلة لا تخمد. و تظل المراة سادنة الحزن الا?دي وترتل فواجعها بنصوص حفظها التاريخ ليبقى نحيبها بندولا للفواجع لا يقر ولا يتوقف وتتطابق معظم نصوص الرثاء العراقي قديما وحديثا مع بعضها من حيث الفضاء والغرض ويشعر المرء ان الزمن هو زمن محنط ولا يختلف كثيرا في جوهره وتمظهراته عبر كل العصور.
فها هي انانا منذ عصور الانسان الاولى حين يبلغها خبر اخيها (ادموزي).. تنشق ثيابها وتلطم خديها وتذرف الدموع وتنوح عليه بحرقة وحرارة ، وفي مقاربة مع أي امراة عراقية تفقد اخيها في السلم او الحرب على فراشه او بفعل سيارة ملغمة او حرب ما ، يتكرر ذات المنظر...ذات البكاء والنواح ولطم الخدود وشق الجيوب وكأنها استعادة مكررة وازلية للحزن العراقي.
راح قلبي إلى السهل نائحاً نائحاً
راح قلبي إلى مكان الفتى
إلى العالم السفلي.. مرقد المراعي
راح قلبي إلى السهل نائحاً.. نائحاً
أو الالهة الناحبة كشتن وهي الهة سومرية ايضا ظهرت في النصوص كاخت للاله دموزي ، وبذات المظهر تقول وهي تمزق شعرها وتجرح جسدها وتبكي قائلة
اه اخي اه اخي رجل لم تنفذ ايامه
لم تنفذ ايامه وسنينه
اه اخي رجل ليس له زوجة ليس له ولد
اه اخي رجل ليس له اصدقاء ليس له رفيق
اه اخي رجل لم يجلب المواساة الى امه.
لقد اسطر العراقيون الحزن وادخلوه بقوة وتواتر ضمن الميثلوجيا الرافدينية وعقدوا له المواسم الخاصة لما له من قرب في انفسهم، ومواكب البكاء التي يحيها غالبية الشعب على (سين) ابن الاله (ايليا) لاحظ المقاربة كانها مواكب الحزن التي تعقد على الامام الحسين بن علي (ع) والتي تدوم اكثر من شهر ، ولا املك تفسيرا لتطابق هذا التقليد والذي استمر حيا عبر التاريخ....فهاهو الشاعر يتحدث عن لسان زينب اخت الامام الحسين (ع) بذات الدفق من الحزن وبتفاصيل لا تتجافى كثيرا، وتردده العراقيات، والجدير بالاشارة ان للاخت الدور الاكثر بروزا?في البكائيات العراقية.
الكلب شاجر على ابن أمي وداوي
تضعضع وانهدم حيلي وداوي
لا مجروح حته اكعد وأداوي
ولا غايب وأكول يعود إليه.
او كما تقول الشاعرة الجنوبية فدعه بنت علي ابن صويح التي عاشت قبل نحو قرنيين وهي تبكي وتتفجع لاخيها بسبب المرض والموت لاحقا:
ديوان لابن حمود والبيج(1)... ضجضيج(2) ما ينطي طريج
حلك النذل منه يضيج... اخويه الحجه وحط للحجي ميج(3)
وحجيه مثل لهد المزاريج(4)... طوبس(5) عدوه والصديج
ما ينعبر بحر الغميج... يحسين غربالك بالابريج
او
اشما توّن يحسين انا اشيط(6)... والنوم عفته والغطيط(7)
يالتعدل العوجه عدل ميط (8)... يمعزب الخطار تشريط
يفحل النخل يملكح العيط(9)... ردتك على كومك كليط(10)
وعلى خشومهم منكار كطكيط(11)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيج.. اي بيك 2- ضجضيج.. ضيق مزدحم 3- ميج.. نهاية او بداية اي حد 4- المزاريج.. السهام
5- طوبس.. أي اطرق الى الارض او جبن 6- اشيط.. من يتعدى مرحلة الحرق بالنار الى حد تلف الطعام
7- الغطيط.. النوم الخفيف 8- ميط.. الخشب القوي المعتدل الطويل 9- معزب.. مكرم الضيوف
10- -كليط.. مقدم في قومه 11- كطكيط.. حيوان يأكل السمك والافاعي وعلى الاغلب الحوم او الصقر.