ادب وفن

عن جمرة الفن التي لا تشيخ / مازن المعموري

صورة الفنان خليل شوقي لا يمكن أن تفارق ذاكرة الإنسان العراقي رغم كل الرجات الجسيمة التي تتعرض لها ذاكرة المجتمع, الحرب التي تدق طبولها كل يوم على عتبات أيامنا, ما زال الفنان الكبير خليل شوقي وهو يعيش في مدينة لاهاي الهولندية، يدق أبواب عراقه وأحبابه عن عمر ناهز التسعين, يحدق بعينين جاحظتين لتاريخ عميق بدأ مع فلم "من المسؤول؟" عام 1956 ولم ينته عند حدود روح ترفرف على شغاف قلب أتعبته المحبة لفن المسرح والحياة, ومن هناك يلوح بيدين حانيتين على بلد تأكله نار الفتن والطوائف عسى أن يمطر الله غيث السلام عليه ذات يوم.
عندما أتحدث عن خليل شوقي فانا أشير إلى عصر التنوير العراقي للثقافة والفنون والحياة المدنية التي امتدت من نشوء الدولة العراقية وحتى انهزامها مع صعود الدكتاتورية, تلك الفترة الذهبية لميلاد أعلام الثقافة والفنون بكل تجلياتها, وبالذات منذ تأسيس التلفزيون العراقي عام 1956, حيث عمل فيه مخرجا ً وممثلا ً , وكتب أول تمثيلية عراقية للتلفزيون، وهي ثاني تمثيلية تقدم من تلفزيون بغداد ولكنها أول تمثيلية تكتب خصيصا ً للتلفزيون, ولعل أبرز أدواره التلفزيونية دور "قادر بك" في مسلسلي " الذئب وعيون المدينة " و" النسر وعيون المدينة " الذين كتبهما عادل كاظم وأخرجهما الراحل إبراهيم عبد الجليل, ومن أدواره أيضا ً دور "أبو جميل " في مسلسل " جذور وأغصان " الذي كتبه, عبد الوهاب الدايني وأخرجه عبد الهادي مبارك، ودور " عناد " في مسلسل " صابر " ودور " صادق " في مسلسل " الكنز "، والمسلسلان من تأليف؟ عبد الباري العبودي وإخراج حسين التكريتي, وأدى دور " أبو شيماء " في مسلسل " بيت الحبايب " الذي كتبه عبد الباري العبودي وأخرجه حسن حسني، والقائمة تطول , لما لهذا العلم الكبير من سيرة مشرفة ونشاط منقطع النظير.
ترى هل نحن أمام حلم ضاع؟, أم أن هناك من يحلم بنا وقد استفاق من نومه عام 1990 ليتركنا في غياهب الموت والضياع حتى اليوم دون ان ندري , فكل من امتلك عقلا وموهبة وإبداعا نراه معلقا خلف أبواب البيت , تحلق فوقنا أطيافه بعد فراق مرير للمكان بصفته الحاضنة الأولى لميلاد صوت الحياة في بغداد التي تمر عبر ذاكرة لا يمكن تصور انهيارها تحت أقدام العسكر والطوائف وأشلاء المسوخ الدينية .
طيف خليل شوقي يحوم على مسارح بغداد كل يوم , ليقول كلمته من دمع وحوارات لمسرحه الذي عاش معه في النخلة والجيران مع أطياف قاسم محمد وخليل الرفاعي وسامي عبد الحميد ونجوم ذلك العالم الذهبي للمسرح العراقي الذي نشأ وفيا لمدرسة ستانسلافسكي, فالفنان هنا يدير دفة الشخصية على المسرح عن طريق ذاكرة المشاعر والأحاسيس التي اكتشفها ستانسلافسكي لمساعد ة الممثل في خلق الشخصية التي يبدعها على المسرح, حيث حاز خليل شوقي على مؤهلات فنية واضحة ليكون فنان الشعب دون منازع, الفنان الذي أرخ لمجتمعه وناسه ومدينته عبر شخصيات شعبية ب?يت عالقة في الذهنية الجمعية العراقية .
ينفتح المسرح على توجهات غزيرة لجيل الرواد, وكان خيار خليل شوقي منصبا على الارتباط بالواقع العراقي, كنسق ثقافي رسخته الثقافة اليسارية التحديثية منذ خمسينات القرن المنصرم على يد روادها من مصر الى لبنان وحتى العراق, تلك الحواضر الحضارية التنويرية للعالم العربي, وانشغل الجميع بالخطابات الهوياتية للفن, فكانت فرقة الفن الحديث محاولة للتضاد مع السلطة الدكتاتورية , إذ يشير فاضل السوداني في احد مقالاته الى ان الفرقة كانت تعاني من الكثير من العوائق القصدية مثل عدم تاجير مسرح الفرقة القومية وقطع الكهرباء اثناء العرض,?وأشياء كثيرة اخرى لدرجة ان الوزير طارق عزيز ارسل رجاله في عرض مسرحية "الجومة" ليقول لهم " اذا قدمتم هذا العرض فسيأتي الشباب !! ليهدموا المسرح على رؤوسكم " لا لشيء الا لأنها كانت مهادا للخطاب الفني المضاد , وهو تشريف لسيرة مجموعة الفنانين الذين اشتركوا في اعمال الفرقة, كما هو تشريف لمسيرة الفنان العراقي بشكل عام.
نعم انه عصر ولد يتيما تداركته عصي الحاقدين على العراق وخيراته وقبل ذلك انسانه المعطاء والطيب , ولنا في رموزنا الثقافية والابداعية في بقاع الارض بقية من ذلك العصر الذي نحنّ لاستدعائه كلما ضاقت الدروب واغلقت ابواب الامل, ولنا في فنانا الكبير خليل شوقي بقية من عمر امتد طويلا ليشهد تحولات قاسية لم يحلم ان يراها ذات يوم , كما لم نكن لنتصور للحظة واحدة اننا نعيش كل هذا القبح وما زلنا نتمسك بحلم الفردوس على خشبات مسارح بغداد وطشاش رذاذ امواج دجلة العظيم وهي تتقاطر من اقلام مبدعيه لتعلن حبها الابدي لهذا الوطن العجيب.