ادب وفن

النشاطات الثقافية العراقية بين الواقع والواقع / د. خليل شكري هياس

كثيرة هي النشاطات الثقافية العراقية التي نسمع عنها ونراها على مدار السنة، إذ لا يكاد يمر شهر دون نشاط أو ندوة أو مؤتمر أو مهرجان أو حلقة دراسية هنا أو هناك في ربوع هذا الوطن، فهل يا ترى تحقق هذه النشاطات غاياتها الثقافية على نحو تكرس ثقافة نوعية تخرج من القوقعة المحلية إلى الانفتاح العالمي بمساراتها وتوجهاتها المختلفة نقداً وإبداعا وفكرا منتجا، وعلى نحو تفعل فعلها في الوسط الثقافي العربي والعالمي، ويغدو معها مثقفنا مصدرا باثاً، وليس مستقبلاً سالباً يُملى عليه من دون أن يكون له رأي أو موقف أو هوية ثقافية تمايزه عن غيره، لا شك أن هذا السؤال - وكما هو معلوم عند المثقف الع?اقي- كائن في فضاء إنكاري حامل لجوابه الناقم معه، إذ لا نكاد نحضر في مؤتمر أو مهرجان أو ندوة أو أي نشاط آخر حتى نرى هالة من التذمر على وجوه الحاضرين من التكرار الأعمى للأخطاء التي وقعت وتقع وستقع في مثل هذه التجمعات، فمن يا ترى المسؤول عن ذلك؟ الجهة المنظمة وحدها؟ الوزارة؟ الحكومات المحلية؟ المثقف؟ أم كلهم معاً؟
إن النظرة الناقدة لهذا المشكل المستفحل في وسطنا الثقافي يتطلب منا وقفة واضحة وصريحة تحمل الكثير من الموضوعية والتجرد وفسحة من النقد الذاتي الشجاع، الذي يشخص ما عليه أولا قبل تشخيص ما على الآخر مؤسسة كانت أم وزارة أم شخصاً مسؤولاً في أي هرم إداري كان، وفي هذا الجانب علينا أن نطرح على ذواتنا أسئلة كثيرة وفي مقدمتها: هل علينا أن نشارك في هذه التجمعات الثقافية من أجل المشاركة حسب، أم للمساهمة في تقديم ثقافة نوعية تضيف إلى ثقافتنا رونقا وروحا جديدة؟، كم من القصائد التي تلقى في المهرجانات دون هوية أو بصمة!، وكم ?ن ورقة نقدية ألقيت في ملتقيات ومؤتمرات لا تحمل غير سفسطائية كاحلة لا تسمن من جوع قرائي!، ألا يجدر بنا أن نراجع أنفسنا كثيرا قبل أن نقدم على تقديمها للجمهور المؤتمِر أو المتجمهر؟، وهل على بعض القائمين على هذه النشاطات التمركز حول محاباتهم ومنافعهم الشخصية على حساب الثقافة العراقية التي كانت في سنوات ليست بعيدة بؤرة من إشعاع ينير الدرب للمثقف العربي أينما كان؟ نعم أقولها بمرارة أن بعضهم يعد النشاط مغنمة لا بد من انتهازها وعصر خمر الفائدة منها إلى حد عدم ترك قطرة واحدة منها؟، فنرى المهرجان أو المؤتمر يكتظ بأس?اء لا نرى لها حضوراً إلا على صفحات الفيس بوك مع جل احترامي وتقديري للأسماء الكبيرة التي تبدع على صفحاته كما تبدع في أي مكان أو محفل آخر. أو أسماء أخرى تتسنم مناصب في هذه المؤسسة أو تلك فتأتي دعواتهم على قاعدة النفع المتبادل "أدعوك وتدعوني، أو أسماء لهم فيها مآرب أخرى لا نريد هنا أن نخدش حياء القراءة والقارئ بها.
أما الجهة الداعمة لهذه النشاطات وأغلبها حكومية الصنع، فمتى تتعامل مع هذه النشاطات بتجرد وموضوعية دون أن تزج أنفها بكل صغيرة وكبيرة فتفرض ما تراه هي لا ما يحتاجها النشاط أو المثقف الحقيقي الذي غالبا ما يكون مسلوب الإرادة أو مبعدا أصلا عن كل ما يجري؟، ومتى تبعد المثقف الزائف وتستقطب المثقف العراقي الحقيقي وتتعامل معه على أنه كنز ثمين لا يمكن التفريط به لا على أنه صعلوك مستنزف أو كائن يمكن تطويعه على وفق إيديولوجية المؤسسة.
وفي هذا السياق من الشجاعة أن نقر أننا لا نمتلك رؤية استراتيجية واضحة ودقيقة للنهوض بالواقع الثقافي، فمهرجاناتنا ومؤتمراتنا وندواتنا يعد لها دائما في زمن قياسي أحيانا لا يتجاوز الشهر والشهرين، فتأتي الدعوات حسب أهوائنا الشخصية أو حسب ما هو متاح دون تخطيط دقيق لها على عكس ما هو معمول في المؤسسات والاتحادات الرصينة، إذ على صعيد المؤتمرات والندوات والجلسات النقدية تسعى هذه المؤسسات إلى إختيار عناوين مؤتمراتها بدقة كبيرة على نحو يتلاءم وطبيعة ما تحتاجه المؤسسة أو يحدث إضافة نوعية تقود مسيرتها نحو التقدم والازد?ار، ثم تحرص على استقطاب أساتذة مختصين في هذا الجانب تستكتبهم قبل فترة وافية، على أن يتعهد المستكتب بالوفاء لموعد المشاركة، وبعد إرسال المشارك دراسته تُحَّول إلى أستاذ آخر مختص ليضع عليها تعليقه النقدي ومن ثم إرساله إلى الجهة المنظمة قبل موعد المؤتمر، كل هذا من أجل مشاركة فاعلة وغنية يشارك فيها الاستاذ الكاتب للدراسة والآخر الناقد لها مع عدم إغفال آراء المتلقين الحاضرين في المؤتمر، فهل ارتقت مؤتمراتنا وندواتنا إلى مثل هذه المشاركات الفاعلة؟
أما على الصعيد الإبداعي فما الضير إذا لجأت الجهة المنظمة إلى تشكيل لجنة من المبدعين الكبار والأساتذة المختصين لفحص المشاركات قبل توجيه الدعوة لأصحابها؟، مع التأكيد الشديد على أن تقبل المشاركات الجيدة بغض النظر عن الاسم مشهوراً كان أم حديث عهد في هذا المجال الإبداعي أو ذاك. حتماً أن هذا الأمر سيخلق جوا من التنافس بين المشاركين على نحو لا يستسهل معه المشارك مشاركته كما نرى عند بعضهم الذي يكرر القصيدة ذاتها في أكثر من محفل، أو يقدم قصيدة كيفما اتفق، المهم لديه صعود منبر الشعر دون أية مراعاة لمكانة وعراقة هذا ?لمنبر، وإذا كنا طموحين أكثر في تقديم صورة أكثر بهاء للملتقي فعلينا أن نعلن عن جوائز للمشاركات المتميزة لخلق حالة من التنافس بين المشاركين.
وقبل أن نختم مقالنا لا بد أن نعرج على مسألة مهمة كثيراً ما تتردد على لسان المشاركين، وهي أن الذي يدعوهم غالبا إلى المشاركة على الرغم من معرفتهم المسبقة بمستوى المشاركات هو أن المهرجان أو المؤتمر يوفر فرصة للقاء المثقفين ببعضهم على نحو يفتح معه أفق الحوار وتبادل الآراء والكتب وآخر الإصدارات والمستجدات على الساحة الثقافية وكل هذه المسائل تشكل أهمية ومنفعة تغطي على ضعف الهرجان أو المؤتمر فيغدو كما يقال "الهامش أهم من المتن، نعم لا يمكن أن ننكر أهمية هذا الجانب لكن نعتقد أن هذا وحده لا يبلور ثقافة نوعية يسودها?الجمال، ولا يمكن له أن يوصلنا إلى مصاف الثقافة العالمية، وإذا كان الأمر كذلك فلنحول هذه الملتقيات إلى صالونات ثقافية مفتوحة دون أن نحمِّل أنفسنا عناء الإصغاء شبه القسري لسماع الغث الكثير مقابل الجيد القليل، ودون أن نحمّل الجهات المنظمة أعباء التنظيم والمبالغ الكبيرة التي تصرف على مثل هذه التجمعات.
وفي الختام نؤكد أن كلامنا هذا ليس موجها ضد محفل أو مؤسسة أو شخص معين، بقدر ما هو تشخيص لواقع ثقافي مر يجعلنا نراوح في مكاننا دون أن نتقدم، وبدلا من أن نسير بالثقافة في خط تقدمي من الواقع إلى تحقيق الطموح، نرى ثقافتنا تدور في حلقة مفرغة تترنح بين الواقع والواقع.