ادب وفن

الأسطورة والشعر: " قلب المسيح" لصابر العبسي أنموذجا / داود سلمان الشويلي

الأسطورة هي نتاج المخيلة البشرية، وتعد المغامرة الأولى للعملية الإبداعية، حيث ارتبطت بالأدب، وبالشعر خاصة.
وتعتبر الأسطورة المستخدمة في الشعر المتن الحكائي لما تقدمه القصيدة من قصة تجمع بين الأسطورة الأصلية والعالم الجديد الذي تقدمه، وهذا التحول من المتن إلى القصة يقوم به المخيال الشعري الذي يسحب القصيدة بعيدا عن مصدرها ومرجعها الأساس.
وكانت الأسطورة المصدر الأول والأساسي للأدب - والشعر خاصة لأنهما ينبعان من مصدر واحد هو المخيلة البشرية، ولهذا نرى الشعراء قد نهلوا من الأسطورة من زمن الشعر الجاهلي إلى يومنا هذا.
وأسطورة سليمان والخاتم قد استخدمها الكثير من الأدباء والكتاب قديما وحديثا، ومنهم الكتاب الشعبيون، حيث ألفوا "شفاهيا" الكثير والعديد من القصص الشعبي عن هذا الخاتم، ويأتي الشاعر صابر عبسي في أيامنا هذه لينهل من هذه الأسطورة، متخذا منها أساسا لبناء قصيدة منضبطة من حيث الوزن، بأسلوب قصيدة التفعيلة التي هجرها الكثير من شعراء قصيدة النثر، أو الذين ظنوا أن قصيدة النثر أسهل في الكتابة فركبوا موجتها.
وقد أصدر الشاعر صابر عبسي مؤخرا مجموعته الشعرية "الوردة في منديل أبيض- الصادرة من "دار زينب للنشر والتوزيع" - الطبعة الأولى 2014" في تونس، التي تضم نوعين من القصائد، نوعاً قصيراً، ونوعاً طويلاً، فالنوع القصير من حيث الطول ينقل لنا تجربة الشاعر الحياتية الذاتية وعلاقتها بالعالم الذي تعيش فيه وتأثيرها وتأثرها فيه وبه، فيما تنقل القصائد الطوال التجربة نفسها بعد ان يلبس قصائده ثوبا فضفاضا، ليس بالمعنى السلبي الفضفاف، وإنما بالمعنى الايجابي لها، ليمنحها سمة جمالية وشعرية أخاذة.
وتتميز قصائد مجموعته "الوردة في منديل أبيض" بأنها:
-ضمت قصائد الشاعر المبنية على نمط قصيدة التفعيلة.
-تتصف في أغلبها بسردية واضحة، سردية عذبة تأخذ بتلابيب المتلقي.
-صورها الشعرية المتولدة من مخيلة ما زالت طرية بما هو شعري.
-يتصف أغلبها بغنائية محببة تذكرنا بغنائية القصائد الأولى في شعر التفعيلة.
-التكرار في جل قصائد الديوان يمنحها إيقاعاً داخلياً منتظماً، تفتقد له الكثير من انجازات الشعراء المجايلين له.
وقد اهتدى الناقد مصطفى الكيلاني للثيمة الرئيسية والفاعلة في نص صابر وهي "اللعب" اللعب على/ وفي الشعر، وعلى الفكرة التي تقف خلفه، في المقدمة التي كتبها للمجموعة والتي أسماها "جناحا النسر وحلم التحليق عاليا، ولكنْ.." والتي يقول فيها:"لا بديل عن الانقضاء الّذي كان والانقضاء المُؤجّل إلاّ بالتلهّي اضطرارًا لا اختيارًا بعد أن ثبُت أنّ اللُّعَب الماضية لم تَفِ بكامل احتياجات اللّعِب، والكلمة، هنا بالنسبة إلى صابر العبسي هي بمثابة لِعبة مُتبقّية أخيرة، كلمة قد تُعيد للّعب البدائيّ مشيمةً ورِضاعًا، وهج حال الارتغاب، كلمة قد تستأنف بروح الشعر اللّثغ الأوّل بلثغ حادث ينزاح عن ظاهر اللّفظ إلى عميق النداء الجُوّانيّ "الصوت"، إلى المعنى الممكن والمعنى المستحيل، من التَمْتمة إلى لسان يقِظ وإنْ حَلُمَ، حالم وإنْ تيقّظ، مُتلعثم كبدْء الغيبوبة مجازًا أو كحال الانتشاء". ونحن لا نريد مناقشة الأفكار التي طرحها الناقد الكبير، بل سنناقش قصيدة واحدة من المجموعة في سطورنا هذه..
في هذه الدراسة سأقدم تحليلا لقصيدة "قلب المسيح" من حيث اعتمادها على الأسطورة، وكيف أن الشاعر تلاعب بتلك الأسطورة، حيث نقلها من عالم، إلى عالم آخر، من عالم النبي سليمان والجن، الى عالم النبي عيسى بن مريم ، وصلبه ، ومن ثم الى عالمنا المعاصر.
يقول الشاعر صابر عبسي في قصيدته تلك:
"من قفاه على خشبٍ
حملوه إلى الجلجله...
من قفاه على خشب
بالمَسامير قدْ صَلبُوه بلا سببٍ...
فَتحُوا قلْبَه
وجدوا البُرْتقالة ناضجةً
شطروها
تقاطر من بين أسنانهم دمُها
وجدوا موجةً...
فتحوها بكلِّ مخَالبهم
فَتحُوها على حجر
فتَحُوها فما وَجَدُوا غيْرَها السّمكه
فَتحوا جوْفَها
وجدوا الخاتم الذهبيَّ الّذي كنْتُ أهديتُه
لأصابعك المرْمريّة ليلة رأس السّنه..."!
تذكر الأسطورة أن سليمان كما يقول ابن عباس:"أراد أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته إياه، فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال لها: هاتي خاتمي قالت: قد أعطيته سليمان، قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحدا فيقول له أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله عز وجل، قال: وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، قال: فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئا؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيض، وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أن قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرأوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس فكفر الناس سليمان عليه السلام فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته، وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ فقال: نعم، قال: بكم؟ قال: بسمكة من هذا السمك، قال: فحمل سليمان عليه السلام السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه، قال: فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله".
يرحّل الشاعر العبسي هذه الاسطورة من الملك سليمان الى النبي عيسى بن مريم، وبنفس الوقت يرحلها من الزمن الغابر، زمن سليمان، وزمن المسيح، وربما قبل هذا الزمن بكثير، الى الزمن الحاضر، حيث وجود المحبين وكذلك مناسبة رأس السنة.
الأسطورة تذكر أن النبي سليمان خلع خاتمه ليقضي حاجته فأعطاه لزوجته، فجاء إليها الشيطان بصورة سليمان وأخذ منها الخاتم، وذهب سليمان إلى شاطيء البحر، فوقع الخاتم منه في البحر وابتلعته سمكة، وقد حصل سليمان على سمكة من صياد، وعندما شق بطنها وجد الخاتم داخلها، فاستعاد الخاتم.
هذه الأسطورة أخذها الشاعر العبسي من مضانها "السليمانية" والبسها ثوبا جديدا، وهو صلب السيد المسيح.
تقول القصيدة انه وبعد صلب السيد المسيح فتحوا قلبه فوجدوا برتقالة ناضجة، وعندما شطروها الى نصفين وجدوا موجة، وعندما فتحوا الموجة وجدوا داخلها سمكة، وعندما شقوا بطنها وجدوا الخاتم، أي ان الاسطورة تقدم الفعل بصورة تتابعية، ويفضي الفعل هذا الى فعل آخر يشابهه في اللفظ والمعنى، أو يختلف عنه في اللفظ، وهو الفعل "فتح" و شطر".
في أغنية شعبية عراقية "وعالمية" يرددها الكبار والصغار ويتغنون بها، وفي الوقت نفسه هناك أغنية شعبية بعنوان "يا خشيبة نودي نودي، أو يا خشبة روحي وعودي، أو أي اسم آخر، تتحدث عن الكعكة الموجودة في الصندوق المقفل، ومفتاح قفل الصندوق لا يعرف أين، حيث تبدأ الأغنية بأن تحيل البحث عن المفتاح الى شخص آخر، أو حيوان، أو مكان، أو شيء آخر الذي عنده الطريق لهذا المفتاح، ومن خلال كل هذا تفضي الى دعوة المطر أن ينزل.
تقول الأغنية:
"يا خشبة روحي وعودي
وديني على جدودي
يعطوني ثوب وكعكة
والكعكة بالصندوق
والصندوق بدو مفتاح
والمفتاح عند الحداد
والحداد بدو فلوس
والفلوس عند العروس
والعروس في الحمام
والحمام بدو قنديل
والقنديل واقع في البير
والبير بيريد الحبل
والحبل بقرون الثور
والثور بيريد شعير
والبستان بدو مطر
والمطر بقلب الغيم
يالله يا غيم مطرها".
وللأغنية هذه صيغ عدة داخل القطر العربي الواحد، أو في عدة أقطار عربية، أو أجنبية.
هذه الأغنية الشعبية هي تفصيل آخر لتلك الاسطورة و صورة أخرى لها، على الرغم من أنها لا تمت لها بصلة الفكرة، أو المعنى، أو اللفظ، إلا أنها ترتبط معها في أنها تريد أن تخفي شيئا لا يمكن الوصول إليه، فتبحث عن ذلك، فيفضي البحث إلى بحث آخر، حتى يفضي في النهاية إلى الله.
ولتوسيع المعنى في قصيدته، استخدم الشاعر الأسطورة، والأغنية الشعبية، حيث استخدم الأسطورة في المنظور العام والمرئي، واستخدم الأغنية في المنظور المخفي غير الظاهر للعيان.
تلتقي الأسطورة والأغنية الشعبية في أنهما يوظفان حيلة الاحتواء أو الإحالة، فالأسطورة تعتمد حيلة الاحتواء، المسيح يحتوي على قلب, القلب يضم برتقالة، البرتقالة تضم موجة، الموجة تضم سمكة، السمكة في جوفها الخاتم ثم الخاتم.
فيما الأغنية الشعبية تعتمد الإحالة، اختباء الكيكة في الصندوق، فيما الصندوق يحتاج الى مفتاح، المفتاح عند الحداد، وهكذا تحال قضية حفظ الكيكة في النهاية إلى الله.
أسطورة صلب المسيح التي قدمتها قصيدة العبسي اعتمدت أسطورة النبي سليمان والخاتم وهذه الاسطورة تذكرنا بأغنية "ياخشيبة نودي نودي" العالمية ،وهكذا يبني العبسي قصيدته من أسطورة سابقة، ليصل في النهاية إلى الخاتم الذي أهداه لحبيبته في أعياد رأس السنة.
نجد الشاعر قد اتبع إلى حد ما أسلوب الأسطورة والأغنية الشعبية في الإحالة.
في القصيدة قد فتحوا قلبه، فوجد فيه برتقالة، وعندما شطروا البرتقالة وجدوا موجة، وهو تكرار باختلاف اللفظ، مع اتحاد المعنى "فتح وشطر"، فتحوها "العودة للفتح" فوجدوا السمكة، وعندما فتحوا السمكة وجدوا الخاتم.
فيما الأسطورة تقول ذلك، سليمان قد صاد السمكة، وعندما فتحها وجد الخاتم فيها.
إلا أن الأغنية الشعبية التي هي في ثقافات شعوب ومجتمعات عديدة تخبرنا عن الإحالة التي تصل إلى الله، تلك الإحالة التي تكرر الفعل كما تكرر القصيدة ثيمة الفعل.
وهكذا نرى كيف ان مأساة الصلب قد تحولت الى فرحة إيجاد الخاتم في قصيدة "قلب المسيح"، وهذه الفكرة تعيدنا الى الغاية من صلب المسيح، وهي ان يعم العالم الفرح والسرور البشرية ، لان في صلبه كما تقول أدبيات الدين المسيحي قد حمل عنا أوزارنا كلها ، ومن ضمن تلك الأوزار الذي اوقع المحبين ، ضياع الخاتم ، فكان ان تم إيجاده.
ولو سألنا أنفسنا كيف تتضافر الأسطورة والاغنية الشعبي في ان تكونا المنهل الأساسي للقصيدة، نقول :ان خاتم الشاعر العبسي في القصيدة يوجد في بطن السمكة التي وجدوها في داخل الموجة، وهذه الموجة كانت داخل برتقالة، والبرتقالة كانت موجودة في قلب المسيح.
هذه الإحالات تذكرنا بأسطورة سليمان والخاتم وبالأغنية الشعبية، فكلاهما يحيلان إلى الآخر، الأسطورة تحيل إلى فعل قادم غير معروف النتائج، والأغنية تحيل شيئاً ما معروف النتائج.
يتكرر في القصيدة الفعل "فتح" ومشتقاته ست مرات، منها واحدة يتغير في اللفظ ويبقى المعنى، وهذا التكرار متأت من تأثر القصيدة بالأسطورة، وبالأغنية الشعبية في العقل الباطن.