ادب وفن

إستلهام قصة يوسف شعريا... قصائد بعض الشعراء إنموذجا / داود سلمان الشويلي

لقصة يوسف نكهة خاصة لكل من قرأها في القران بالنسبة للأجيال التي جاءت بعد ورودها فيه، أما قبل ذلك، فانا على يقين بأنها كانت تجد صدى في نفوس عرب الجزيرة، أو العرب الذين سمعوا بالقصة من خلال التوراة أو "التلمود" التي سطرت فيهما، وهذه النكهة متأتية مما تقدمه القصة من موتيفات كثيرة تهم الناس، مثل الحسد، والغرام، والحلم، والمؤامرة، وغير ذلك من الموتيفات التي حفلت بها الاسطورة/ القصة.
واستخدمت في الشعر مثل هذه الموتيفات الأسطورية، بطرق عدة ومختلفة، وفيه - أيضا - يجري تحويلها وتحويرها لتعبر عن مغزى معين، فراح الشعراء يعيدونها بعد ان ينتجوها وهي تختلف عما جاءت به في النص الأصلي.
في كتابي "الذئب والخراف المهضومة" نوهت إلى جملة من الأمور التي من خلالها يجب أن يأخذ التناص مداه بين النص الأول، أو مجموعة النصوص، والنص الثاني، ان كان ذلك في الشعر القديم، أو كان عند شعرائنا في هذه الأيام، وقد قال قديما الشاعر عنترة "هل غادر الشعراء من متردم ..."، إذ ما زال الشعراء ينتجون ما تم إنتاجه بطرق ووسائل شتى، حتى بات المكرر في هذا الموضوع يعبر عنه لأغراض سايكولوجية عديدة ومتنوعة.
مهما تكررت موضوعات الشعر المستند على هذه الأسطورة/ القصة، رغم صعوبتها، يبقى هناك جديدا في الإنتاج الشعري، في الرؤى والصور الشعرية والتناول، لأنها قصة لا تستهلك نفسها، بل تجدد موضوعاتها في كل يوم.
تقسم القصة حسب تناولها شعريا إلى مجموعة من الموتيفات، كل موتيفة تجد نفسها قد لبست لبوس القصيدة المكتملة لا اقصد من حيث طولها - لأن شاعر تلك القصيدة رأى أن هذه الموتيفة كافية لان تخدم غرضه الشعري، وأيضا انه وجد أن القصيدة بهذا الطول كافية لان توصل المعنى الذي رغب إلى المتلقي.
يمكن تقسيم الشعر الذي ستتناوله هذه الدراسة إلى مجموعة من الأقسام، وكل قسم مسؤول في تناوله عن واحدة أو أكثر من موتيفات القصة الأصلية.
إن أسطورة/ قصة يوسف الأصلية إن كانت في التوراة أو التلمود أو القرآن تنبني على شخصيتين اثنتين، هما: يوسف وأبيه الذي قص عليه حلمه، والذي حزن وابيضت عيناه على فقده، ثم يوسف والذئب الذي اتهم بافتراسه حيث يتحمل الذئب وزر افتراسه كذبا وبعدها يوسف وامرأة العزيز، وكل ثنائية من هذه الثنائيات تؤسس موتيفة معينة تبني عليها القصيدة موضوعتها.
ويوسف هذا يحلم كثيرا بحيث يسميه إخوته كما جاء في التوراة بـ "صاحب الأحلام"، وحلمه هذا هو أحد أسباب تأليب إخوته عليه.
تتناص قصيدة الشاعر علي لفتة سعيد "يوسفنا" مع موتيفة الكواكب الساجدة، فتقول القصيدة:
إنّي رأيْتُ أحدَ عشرَ ضوْءاً
حين لامسْتُ الغيْمَ فنطقَ بلغتي
أريدُ أن أقْصصْ عليكَ ما أدْركْتهُ
لعلّ الأرْصفةَ دليل السّفر
...... الخ
لأنّي رأيْتُ أحدَ عشرَ حرْفاً
في دفاترِ الحُلمِ
يرْسمُ حدودَ البلدِ المقْسومِ
...... الخ
لأنّي خضْتُ أحدَ عشرَ حرْباً
رأيتُ فيها إحدى عشرة بقْعةَ دمٍ
...... الخ
إنّي رأيْتُ الضّوْءَ والماءَ
سيقولونَ أضْغاثُ أحْلامٍ.
حيث تتصاعد القصيدة من الضوء، النور الذي خلقة الله قبل البشر، ثم الحرف، وهو الأبجدية السومرية قبل أي أبجدية في أي لغة، ثم الحرب الذي أول ما بدأت بأبناء ادم، ثم يعود بنا الشاعر الى الضوء والماء بعد الحرب، فيقفل عندها قصيدته بالنور كما بدأها بالنور "الضوء"، وفي هذا المقطع يحاول الشاعر جاهدا ان لا تلبس حروفه ملابس الحرب:
"وجدوه يمسكُ بالحروف
كي لا ترْتدي ثوْبَ الحرْب".
وهكذا يستخدم الشاعر التناص للاستفادة من واحدة من موتيفات قصة يوسف في قول فكرته عن واقعنا العراقي المخضل بالدماء.
وتتناص الشاعرة "زينب الخفاجي" في قصيدتها "عراق" مع موتيفة يوسف الحالم، وحلمه في انه رأى الكواكب والشمس والقمر يسجدون له:
"لوطني تخر الكواكب
والشمس
والقمر له ساجدين".
وهكذا تخر جميع الكواكب للوطن المعبد بدماء الشهداء.
اما موتيفة يوسف والذئب، فالشاعر "علي نوير" يستفاد منها في عملية التناص، حيث يتساءل الشاعر وبخشية: هل تعود اوروك التي أكلها الذئب مرة ثانية.
"يا أبانا " أنكيدو؛
نخشى ألّا ترجع ثانيةً "اوروك"
لقد أكلها الذئبُ و نحنُ عنها غافلون".
واوروك هنا اقرأها أنا المتلقي، ولا افرض قراءتي على أحد، هي العراق الذي نخشى عليه ان لا يعود ثانية كما كان مخضلا بدماء الشهداء.
ويتناص الشاعر "غالب الكسار" مع الاسطورة / القصة في موتيفة يوسف والذئب ويبني اجواء قصيدته على هذا الخوف العظيم من الذئب وسمعته، وكيف انها كانت كذبا، حيث يلتجئ إلى وكره حماية له من الآخرين الذين أصبحوا اشد من الذئب ضراوة، وكأنه يريد ان يؤكد المثل العربي الذي يقول: كالمستجير من الرمضاء بالنار:
"لشدة
خوفه
من الذئب
تسلل
الى مغارته".
هكذا أصبح حال العراقيين، حيث راحوا يطلبون الحماية من العشيرة والمذهب، وما عرفوا انهما تفرقهم كشعب كان موحدا قبل اليوم على حب الوطن.
وموتيفة "قد القميص" قد استخدمها أكثر من شاعر في قصائده، حيث راح يتناص مع الاسطورة/ القصة في هذه الموضوعة، فنجد الشاعر العراقي قد اتكأ في بناء قصيدة تمتثل الى روح الحداثة ولا تنسى الموروث، الاصالة والتراث، وها هو الشاعر "سلمان داود محمد" يقول في قصيدته يخاطب فيها حبيبته بالقول: ان "الزليخات" - وليس زليخة واحدة - قد جرحن قميصه، ويحذرها من الخوف من اغوائهن، او من سرقة الكحل، لأنه سيبقى لها حتى تلقي القبض عليه:
"لستُ من الكافرين بدين الأظافر
لكن "الزليخات" جرحتْ قمصاني...
فلا تخافي من اغوائهنَ
ولا من سارقات الكحلة من عين الليل...
سأبقى أكتبني بالممحاة حتى تعود حدائقكِ
وتلقي القبض على ورودي...".
فيما يقول الشاعر "علي لفته سعيد" في قصيدة له:
"لا أبْحثُ عن قَميصكِ
لأقدّهُ
لسْتُ عاشقًا
يقفُ خلْفَ البابِ
ليسْرقَ عرْيكِ
خذي سوادَ النّوافذِ
وكلّ زينات القرى
وما تدلّى من وجْنتيْكِ
لن أكونَ طيْركِ
حتى تحطّينَ في عشّ حقولي".
لأنه يراهن على أنها ستأتي إليه، وتحط في عش حقوله، وهذا لا يبحث عن أي قميص ليقده ، فيكون شاهدا على علاقتها به.
فيما يتناص الشاعر "رياض عباس العصمي" في قصيدته "مـــــواء صــــرخة" مع أسطورة/ قصة يوسف في موتيفة واحدة منها هي موتيفة " القميص المقدود" هذه، حيث هناك رغبة لدى الشاعر ان يقد قميص "التأني" قبل ان تنزل إلى الشارع شهوته لتقرص عري البنات ، وهذا له دلالة في ان الأمر أصبح لا يطاق:
"تحف بي رغبة للعناق
وبي رغبة لقدّ قميص التأني
قبيل ان تنزل للشارع شهوتي
تقرّص عريّ البنات".
والشاعر "عبد العظيم فنجان" في قصيدته "قصيدة حب إلى زليخا" من ديوان "كيف تفوز بوردة" يدرك جيدا ان قصة يوسف هي اسطورة يتمنى ان يلتقي مرة اخرى بحبيبته التي أسموها "المرأةَ الملعونةَ" في اسطورة ثانية بشرط خلوها من الاملاءات المكبلة له، ليعود مع الذئب لأنه شاهده الوحيد على براءة ذلك الحب الذي فيه قد أملوا عليه أن يكون مفسرا للأحلام الملفقة.
"كنتُ أتناوبُ مع الذئب في حراسة طيفكِ من قطعان الجوع العاصف، التي تهبّ من أرواح إخوتي، وكنتِ المرأةَ الملعونةَ، التي قيلَ: إنها تسكنُ الآبار.
كنتُ أهربُ من أبي، ومن العائلة، لأقفَ عند حافةِ أبعد بئر: أنظرُ إلى داخلها، فأتعرّفُ على نفسي العميقةِ وارتجفُ، لأنني كنتُ اقابلُ رعبي وجها لوجه، فأهربُ منه وأفكرُ فيكِ، في سموّ وجهكِ، وفي عبقريّةِ جسدكِ العاري، وهو يتلألأُ في القعر، وقد فقدتُ عقلي، وتجلّى هُيامي على أشدّه، عندما انبثقتْ ذراعاكِ من أعماق خيال الماء، فجأة ، فقفزتُ نحوكِ قفزتي المجنونةَ التي رسمتْ قدري، وغيّرتْ مصيري. ما حصل بعد ذلك كان مُلفقا، لأن المؤرخين أقفلوا الأفق، وحوّلوا أشواقي، غرامي وجنوني إلى تبتّلٍ جاحدٍ، لأنني حين دخلتُ في متاهةِ جمالكِ التقيتُ بأكثرِ أحلامي طيشا، وأصعَبــِها تفسيرا على العالم، فعاقبوني بتفسير أحلامٍ لا صلةَ لها بطيراني في مداركِ، ولا تليقُ بخفقات قلبكِ العذب الذي، لحدّ الآن، يرنّ في جهاتِ الزمن، كما يفعلُ قلبي.
يوما ما سنلتقي، لكن في أسطورةٍ أخرى، ليس فيها املاءاتٌ من الخارج، وسنعودُ إلى البئر، ومعنا الذئب: شاهدُنا النبيل على البراءة..".
وعن ثيمة قميص يوسف الأول، قال الشاعر " حازم هاشم" في قصيدة له أن قميص عثمان هو حاملا لفتنة الحرب والنساء اللتين تلاحقانه كلما نزع قميص يوسف الامن الذي اعاد نظر يعقوب، لهذا يفر عاريا عن الحرائق القادمة من التاريخ:
"قميص عثمان يلاحقني
وأنا أرتدي قميص يوسف
كلما تعريت
شممت في جلدي
فتنة الحرب
وفتنة النساء
عاريا أفر من حرائق التأريخ".
اما الشاعر عبد الخالق الركابي فيتناص مع الأسطورة/ القصة القرانية/ التوراتية بالكثير من مفاصل التناص، فيوسف القصيدة كما يوسف الاسطورة/ القصة، وامرأة العزيز قدت قميصه من دبر كما في الاسطورة/ القصة، الا انه يختلف عنه في انه ليس جميلا، ولا نبيا كيوسف الاسطورة/ القصة، ليسترد يعقوب بصره بشم قميصه، انه ما زال في الجب يتسلى بحل الكلمات المتقاطعة ولم يخرج منه، حيث ينتظر حبل السيارة ليخرجه من غيابة الجب:
"لستُ جميلاً كيوسف
لتقدّ امرأةُ العزيز
قميصي من دبرٍ.
ولستُ نبياً مثله ليستردّ
أبي، الذي ابيضّتْ عيناه
من الحزنِ، بصرَه بشمّ قميصي،
إنما أنا: قابعٌ في غيابة
الجبّ في انتظار الحبل، أتسلّى
بحلّ الكلماتِ المتقاطعة"!
ما زال ينتظر الفرج كما يقال مثل العراقيين بعد هذه الاعوام العجاف، حيث الموت المجاني يترصدهم في عقر دارهم.
واذا كان يوسف الاسطورة/ القصة قد خرج من الجب، فان يوسف قصيدة الشاعر "خالد صبر" التي تحمل عنوان "يوسف يخرج من الجب" ما زال في البئر منذ ان "ألقاهُ الاخوة في الجُبْ" وما زال الناس تنتظر خروجه لانه:" يوسفُ الأنـْزهُ والأعْلمُ والآعْدلُ والأصْدقُ والأجملُ والأنقى" كيوسف قصيدة عبد الخالق الركابي، لهذا تقول القصيدة ان يوسف:
"يوسفُ لنْ يمْكثَ في الجُبِّ طويلا
لا بُدَّ ستأتيهِ قوافلُ عَطشى للماءْ
وسيخرجُ يوسفُ فهوَ رفيقُ الأرض العَطشى وصديقُ الماءْ".
والعراق مايزال في الجب ينتظر القوافل العطشى تأتي لتخرجه من الجب.
وتبقى قصة يوسف التوراتية/ القرآنية حبلى بالمفاصل التناصية لقصائد كثيرة يصوغها شعراؤنا وهم يبدعون في قول الشعر، دون ان ينسوا الواقع الذي يقف خلف قصائدهم فيصبغها بالدم.