- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 27 كانون1/ديسمبر 2014 19:57

الطيور اسم الديوان الأخير للشاعر الفريد سمعان، احتوى الديوان على ست عشرة قصيدة، وحين نطأ عتبة الديوان، ونشم الق وعطر قصائده التي عودنا عليها، فإذا به محلقا منشدا للإنسان والحب والسلام، ليس لوطنه وشعبه فحسب، وإنما لكل الأوطان والشعوب المعمورة، معانقا ما بينه روحه النبيلة وبين أرواح الآخرين، بكل ما يملك من طاقة وفعالية، طارحا رؤاه الضاجة بالحلم والأمل تارة برمزية شفافة، وتارة بواقعية مستبصرة، وتبقى قصيدته "الطيور" هي الأكثر توهجا وإبداعا في مسيرة قصائده الرائعة، عبر عمره المديد الذي قضاه، فجاءت وهي تعي لوازم الشعر في عملية وعي التجديد المستمرة.
في مقال سابق لي عن هذه القصيدة بالذات، أقمت مقاربة بين طيور الفريد سمعان وطيور الفريد هتشكوك التي جسدها فلمه الشهير "الطيور" وكانت هذه المقاربة هي الأكثر قربا في توهج اللحظة الشعرية لذات الشاعر وبث روحه القلقة المتشحة بروح الانسانية التي أدانت الروح العدائية للحرب والدمار في "رمزية طيور الفريد هتشكوك، وفي هذه المقالة ستكون المقاربة بين طيور الفريد سمعان وبين طيور "صواريخ" الفريد نوبل بأصواتها الزاعقة عكس طيور الفريد سمعان النورسية الجميلة الصادحة المبتلة بالأمل والحب ورسالتها الإنسانية لكل البشر، فيما تظل طيور الفريد نوبل طيور مكروهه لا يحبها من زرعت داخل روحه بذور الخير والمحبة:
"لا شيء في الافق
وللأرض التي نسكنها
وتحتوي الأخطاء والأحزان
وكل ما تكتمه
رغائب دامية مغموسة بالغدر
والاحقاد
والقتل وحب الذات
واللعب على الحبال
والمحرمات
نائمة بغطة فاحشة بين الضلوع
منذ آلاف السنين".
إن الطيور التي أطلقها الفريد سمعان عبر المفاصل الدقيقة لقصيدته هي طيور كونية ذات صداح برقي، ولفرط الحب الذي تحمله، تحاول أن تخترق الحجب وتطوي المسافات، لأجل ان تؤدي رسالتها الى بني البشر، وهي محمرة العيون، لاحساسها العميق بتلك الفجيعة المنتشرة على كل الأرض وخاصة على بلاده المبتلاة بالشرور والاثام، داعية الى إحلال السلام والمحبة بدل اضدادها القاتلة.
وقد توضحت أفكار الفريد نوبل في طيوره القاتلة، والتي تمثلت فيها شرور وآثام الإنسان الذي تخلى عن نزعته الانسانية في هذا الاكتشاف الخطير والمدمر، وبذلك اصبحت رسالته هذه رسالة شيطانية، لا تقف امامها أي وسيلة للحد من جنونها وهي تحاول ابادة الجنس البشري، لذلك فان الشاعر الفريد سمعان وعبر الابداع الداخلي المتوثب في قصيدته، يقدم ادانته لعمل نوبل الذي فاق في قدراته أعمال القرون المظلمة...
"اواه كانت الخرائب التي تناثرت احشاؤها
كانت بيوت الفقراء
تهجر في صمت قناديل المساء
وترتدي ثوبا يليق بالانسام
والعطر
وافياء الصباح
وتفتح الازقة التعبى
لمن يريد شرفة
للضوء يعشق الاغصان والورود
وباقات الفراشات
وأصداء النواح".
وحين يسأل الشاعر، طيوره تلك وهي تجوب الآفاق، هائمة على وجهها، دون رقيب، دون عوائق أو حدود، طالبا منها ان تجيب عن الأسئلة الخالدة التي ترقد في الأعماق منذ دهور بعيدة وهي بذلك تنشد بهمة عالية لكل البشر، من أجل السلام...
" قولي لنا
ايتها الطيور التي تهيم
دونما رقيب
في عالم بلا شوارع .. ولا ارصفة
ولا علامات مرور
او شرطة مدججين بالسلاح لكنهم يعاقبون بالرصاص
قولي لنا
ايتها الاجنة المهاجرة
ردي على اسئلة
تعيش في اعماقنا".
وتستجيب الطيور لتساؤلات الشاعر وتجبره بحزن شديد ان الطيور المقززة المكروهة التي اطلقها الفريد نوبل، قد فتكت بالبشر فتكا ذريعا وكانت تلك هي رسالتها التي سلكتها في دروب الشر والعدوان والتي لم تجلب للبشرية سوى الحروب والويلات، والتي لقيت الإدانة من الجميع
"ماذا نرى؟
ماذا تقولون يا احبتي؟
الطيور حول ما يجري
وانتم تعلمون انهم يلوحون بالسيوف
لعلهم لا يعرفون
ان الصواريخ التي تاتي بلا اجازة ولا مواعيد
ودون ان تعلن عن وجودها.. جبانة
تريد ان تقنع من يرسلها
بانهم سحابة في للموت
تغتال الحدائق الغناء
اوتحاول الرقاب بالسكين
حيث يرسم الاوغاد امجادا لذبح الابرياء".
لذلك ستظل طيور الفريد نوبل طيورا ملعونة، حتى وان اصبحت طيورا ذكية او ملونة، وستظل بعيدة عن الجمال ومواطن الفتنة لأنها لاتزال منذ ان حلقت مستمرة في القتل والتدمير بينما سيظل الصراع محتدما بين طيور الخير وبين طيور الشر، وستظل طيور الفريد سمعان ناصعة البياض. جميلة المنظر، وبذلك ستصدح الحناجر والى الابد للسلام وعبثا حاول الفريد نوبل تجميل القبح الذي صنعته يداه بتلك الرشاوي التي يقدمها سنويا باسم جائزة نوبل للسلام.
لأن هذه الجائزة سوف لن تنسينا المصائب والآلام والصرخات المدوية لملايين البشر، فيما ستظل نوارس الشاعر الفريد سمعان تتسع بنصاعة بياضها وبهديلها وترتيلها، لتضمد الجروح وهي تبشر الجميع وتطمئنهم بقدوم عالم خال من القتل والدمار والخداع وتلك هي الرسالة التي يقولها الشاعر في توهج لحظته الابداعية بدون تعارض مع جذوة الشعر وانثيالات العصر، شعرا يعي مكونه ومعطاه الدلالي، واحالته الداخلية في لغة جزلة صافية تعي متطلبات العصر، وهو يئن ويتوهج، يصرخ ويضحك، لكن دون ان يتنازل من عليائه الشاعر.