- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 21 شباط/فبراير 2015 19:36

الحداثة في أحد مستوياتها بنى وأشكال فنية وأدبية ناتجة عن صراع رؤى وأفكار لمدارس متعددة ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع النظريات والأفكار التي استند إليها التراث الأدبي للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر اللذين احتضنا الكلاسيكية والرومانسية على التوالي.
وقد تميزت الحداثة بهدم الأشكال القديمة وخلق أشكال جديدة للفن والأدب تحمل خطاباً يعبر عن التطور الحضاري الهائل للحياة المدنية في الغرب وتعدد مسالكها وتشتت أفكار واغتراب الانسان فيها كما نعتت بالغموض وجمال الرمزية والتجديد، ولأنها حملت في رحمها بذرة التجدد والتوالد السريع وكسر القواعد جاءت بعدها ظاهرة ما بعد الحداثة التي عدها بعض النقاد ثورة على الحداثة وآخرون اعتبروها إمتداداً لها.
وباعتقادنا المتواضع لا الحداثة ولا ما بعد الحداثة تمثلان إنقطاعاً تاما عما قبلهما من تراث فني وادبي وإن بدا ذلك متمثلا في مظاهرها، لأن هنالك حبلا سريا من القيم الجمالية والفكرية موصولا عبر الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ. منذ أن صنع الأنسان أول أداة للصيد وأول آنية وحفر أول حرف في اللغة، فهنالك من الآثار الفنية التي تركها قبل آلاف السنين ما يمكن أن يصنف ضمن المدارس الفنية الحديثة مثل التعبيرية والرمزية والتجريدية هذه المدارس التي تعد من اهم دعائم الثورة الحداثية في القرن العشرين "كما يخلص الى ذلك الباحث البريطاني هربرت ريد في كتابه الفن والمجتمع".
في الكتاب الشعري "سمفونية المطر" للشاعر العراقي ياسين طه حافظ الصادر عن دار المدى عام 2013 والذي هو عبارة عن قصيدة طويلة من احدى وستين مقطعا في مائة وعشر صفحات من القطع المتوسط.
يستخدم الشاعر النثر المرسل وقصيدة النثر واحيانا العمود الشعري على حد سواء ويحمل هذه الانواع الثلاثة بعداً شعريا ليبرهن على إن سحر الشاعرية يمكن أن يقدح في أي من هذه الالوان شرط الاستخدام الخاص للغة الذي يمنحها طاقة ايحائية ترسم فضاءات حلمية لصورها الشعرية. حيث يقول في مقدمته النثرية "مثل تائه دخلت المدينة في غروب شتائي ورأيتني فجأة في صخب الناس والاطارات السود في الدمار الاعمى حيث المصابيح الحادة والامنيات المحترقة".
ويقول في أبيات عمودية على وزن البحر السريع "مستفعلن مستفعلن فعلن"..
هلا رأيت الحب في بصري ولممت في كفيك خيط ندى
أسعى اليها وهي غائبة وأغيب عنها وهي بعض مدى.
ويقول"في المقهى يجلس باعة اسماك عشاق وأباطرة مخدوعون يجلس باعة اسماك افرغت الريح شباكهم بينهم شعراء خسروا حبيبات الروح".
يبدو لي أن هنالك طرفان يتجاذبان انتاج الصورة الشعرية الطرف الاول يمثل وعي الشاعر بكل ذخيرته الفكرية وانفعالاته الجمالية الساعي الى انتاج صورة ذهنية تتطور الى رمز مثالي للجمال المتعدد المضامين، مستدعيا الى هذا الغرض مظاهر ورموزاً ميثولوجية ودينية وتأريخية بوصفها دوال اشارية تتبدى في القشرة السيميوليجية للنص التي تحاول أن تدفع الرمز الى هالة جمالية مضفية عليه شيئا من القداسة والطهر الهادفة الى التوحد الصوفي في أطر حلمية و جمالية.
والطرف الثاني لا وعي الشاعر الذي يجره الى انتاج صورة حسية تمثل جمالا انثويا ارضيا بسمات انسانية تعد تكثيفا لتجارب الشاعر الشخصية واستجاباته اللاشعورية.
حيث يقول:
هكذا أقبلك وأنت أرضية
هكذا أتعبدك وانت سماوية نائية
ويقول:
"لا استطيع أن أميز بين القداسة فيك\ وبين الجسد".
متخذا من هذه الصورة الرمز نفقا زجاجيا يدخل من خلاله العالم الشائه مؤكدا رفضه من جهة ومن جهة أخرى اتخاذه مظلة يمارس تحتها الحد الأدنى من حريته في التفكير والكتابة تأكيدا لوجده الإنساني.
كان ذلك على مستوى الصورة الشعرية التي هي منتج لغوي أما على مستوى اللغة نفسها فإن الشاعر استخدم اللغة المعتمدة على الإيقاع الصوتي بوصفه باعثا سمعيا يستدعي الذاكرة الجمالية لدى المتلقي ويقيم وشائجه معها.
وتارة يستخدم اللغة المرئية إذا صح القول أي اللغة المعتمدة على التداعيات الذهنية كما في قصيدة النثر والتي تعتمد على الإيقاع الداخلي الذي هو ليس نظاما سمعيا تتحسسه الأذن البشرية بل تناغم ذهني تبثه صور جمالية تجد صداها في أعماق النفس فيتماها مع إلتواءاتها وتعقيداتها وجروحها وتمردها وما تقنع واختبأ من حالاتها وأهدافها المعلنة والمضمرة
إن تكثيف اللغة يؤدي. الى سعة مديات الفضاء الشعري تأثيرا وإيحاءً، ومحو بعض التفاصيل من الصورة الشعرية يؤدي الى زيادة إحتمالات الايهام وتوسع الهوة بين الحقيقة التقريرية والصورة المبهمة تمنح الجمل الشعرية لمسة من الجمالية الملغزة الصامتة.
تقترب سمفونية المطر من الناحية الاسلوبية الى الشعر الدرامي من حيث الوصف والسرد واستخدام اكثر من صوت شعري احيانا . تهدف الى رسم خارطة شعورية للعالم المأزوم المرتبك وتتبنى رؤية فلسفية تقترب من المنطق تارةً وتبتعد تارةً اخرى منفلتةً الى الميتافيزيقا طائرةً بأجنحة الاساطير التأريخية للوصول الى قيم جمالية محاطة بالغموض والتجريد.
يقول:"هل تعرفني هل تذكر عاشقة تفنى من حبٍ
يتلامع فوق الاسود خيط احمر
يوما خيط شذري
يوما خيط ذهب
اعرفني الان
جسدي مملكة النار
وحين يغادرني اللهب
تلقاني شاحبة ً
تحمل اوفيليا السحب".
ان فضاءات الشاعر تتسع الى ما لا تراه العين مجتازةً الزمان والمكان في رؤية صوفية للوصول الى غايات جمالية مستحيلة تروي عطش الاسئلة التي تكمن في وعي الشاعر وتبحث عن الخلاص في التلاشي أو في التطهر من آثام الواقع تحت المطر الذي إتخذ منه الشاعر عنوانا لقصيدته بوصفه رمزاً متعدد المداليل رغم ان كلمة المطر لم تظهر في المتن الا قليلا لكنها قد تكون جوابا لأسئلة ضامرة في اعماق النص الشعري حيث يقول بأسلوب مسرحي :"كل سيعود إلى حيث أتى الحب، يعود لفراغ العالم يبحث عن مفقودين عن أرواح أخرى ظلت تائهة بعد الطوفان موسيقى المطر الليلي تعلو وتشاركها الاشجار الموسيقى، المطر، النار، الموسيقى المطر النار".