ادب وفن

أماكن.. عن ولادة وموت المدن / حميد حسن جعفر

قد لا تكون الذاكرة مهيأة أو متفرغة، أو مستعدة، أو تمتلك النضوج الكافي لكي تكون قادرة على استيعاب المكان وملامحه وتقلباته. كانت الصور تتراكم من غير ترتيب، كما لو أنها مجموعة نفايات.
لم تكن هناك حالة انتخاب، أو قصدية في متابعة الجغرافيات التي تمر بها. أو التي تمر بنا. الانسان ذاته كان يشكل من خلال التناقضات. ما بين الحس المديني الذي أسسه مشروع الري المتمثل بسدة الكوت المشروع الاروائي الذي ينظم مناسيب المياه والذي سوف يتخذ أحد الأحياء السكنية القريبة من مشروع السدة تسميته من مصطلح "المشروع".
ما بين الحس المديني، والحس القروي/ الزراعي المتمثل بالاقطاعيات والشعور القبلي، المتمثل بالإمارات العشائرية.
نزعات التحديث تظهر متميزة بالكثير من التقاطعات المكانية، الشوارع الأسواق، ورغم العديد من دلائل وجود بساتين سابقة ومجموعة حدائق "مجموعة بقچ" فالنهر له سبب أساسي في نشوء المجمعات البنائية هذه الدلائل التي تؤكد بأن المكان كان وما زال يحمل اوليات نشوء المسطحات المائية/ الخضراء، مزارع القمح، والشعير والرز. ونباتات الاعلاف، القصب والبردي.
بل ان وجود شريحة اجتماعية تنتمي الى ما يسمى بـ "الجماسة"،أصحاب ومربي الجاموس يدل على وجود تجمعات سكانية بعيدة عن الانتماء الى القرى والأرياف.
فعمليات البيع والشراء المفردات الاقتصادية لا تظهر بوضوح الا وسط المدن، أما في القصبات فيكاد يختفي هذا المفصل الاقتصادي البيع والشراء, لانتفاء الحاجة اليه، حاجة الفلاح خاصة، في جغرافية مثل القرى، مما يدفع بأفراد القرية الى الذهاب الى ما ينتمي الى المدينة لصناعة عملية البيع والشراء. في القرية تكاد تكون الوسيلة الوحيدة تبادل السلع ما بين الأفراد هي المقايضة.
سكان المدن، وبسبب توفر فرص العمل / نسوة ورجالا وصبية وأطفالا /يدفع العاملون، الموظفون خاصة، بمهامهم الى سواهم. حيث يلجأ معظم سكان المدن الى الأغذية الجاهزة. حيث تنتشر في المدن ما ينتمي اليها الأفران والمخابز، المطاعم. ومعامل ومصانع التعليب.
المعدان بعيدا عن المدن لا يمكن أن يشكلوا قوة عاملة. لذلك نراهم حيث نرى المدن. وحيث نرى الأنهار والجداول والترع والمسطحات المائية وحيث الانتاج النباتي الوفير.
المعدان هم حلقة التواصل رغم انتمائهم الى مرحلة الرعي وتربية المواشي هم حلقة التواصل ما بين مرحلة الزراعة/ القرية ومرحلة التصنيع. التحويلية خاصة، لامتهانهم تصنيع منتجات الحليب، الزبدة، القشطة، القيمر، الالبان.
عند أطراف المدينة
عندما كانت تشكل الجغرافية السكانية محلة الشروع / اذ يشكل الشارع/ الجادة المنحدرة من بيته السدة المتجهة شرقاً وصولا الى جسر الكرافة/ الأنوار، هذا الشارع كان يشكل في خمسينات القرن الماضي الحدود الشمالية القصوى للمدينة حيث استطاعت سدة الكوت بسلطتها على رفع مناسيب المياه في نهري الغراف والدجيلة وعبر ناظميهما استطاعت تشكيل مسطحات مائية استخدمها الجماسة في رعي وتربية الحيوانات المنتجة للحليب ومشتقاته.
المعدان يشكلون أكثر من مرحلة تطورية للمجتمع. مرحلة الرعي، وتربية الماشية ومرحلة التصنيع الحرفي. لعدم توفر الالة، للألبان والدهون، اضافة الى توفير جزء يسير من احتياجات المواطن من اللحوم والجلود.
المدينة تحاول أن تؤسس مرجعياتها. معمل للمشروبات الغازية، معمل للثلج، معمل للكاشي، محطة كهرباء قطاع خاص. معمل لصناعة البسكويت، أفران اوتوماتيكية للصمون والكعك والمعجنات، مكننة دور سينما، مطاحن مجارش، معامل خراطة "تورنات" مكائن ري، معارض للمكائن والآلات الثقيلة، شركات.
حتى باتت المدينة تصدر ملامحها المكائن، والآلات الى الأرياف والفلاحون يتحركون صوب المدن.
هجرة هجرة
قوتان متضادتان نوع من العناد/ الاصرار.
واحدة تشتغل على التغيير والأخرى تصر على البقاء/ الثبات مع محاولة ايجاد حاضنات جديدة بجينات قديمة.
المدينة تعج بالمتناقضات إلا ان المواءمة تبقى هي القانون الأقوى. المدينة تطلق صفارات معاملها. وأجراس مدارسها، وأصوات استدارة آلات الخراطة وحافلات النقل وآلات الحياكة والنسيج وحلج الاقطان.. القرية تقذف مفروزاتها على شكل موجات لقطعان الماعز والاغنام والابقار والتي ترعى عند تجمعات نفايات البيوت حيث تتحول شوارع المدينة الى مراع.
في الليل تختلط أصوات الكلاب بأصوات بنات آوى بصفارات الحراس الليليين وربما بأغنية هنا أو طقطوقة هناك يؤديها من يعود متأخراً الى بيته بعد سهرة في مقهى او في حديقة عامة، او بعد مشاهدة لآخر افلام الكابوي.
وما زالت بعض البساتين تعلن عن وجود حيوانات ليلية كالبومات أو برية كالذئاب والخنازير.
والمتتبع للتحولات سوف يرصد واحدة بانتباه ويترك الأخريات في خزينة الذاكرة، ليطلع عليها لحظة الحاجة. حيث التأمل واسترجاع الماضي الجميل.
واجهات أبنية تغير ملامحها عبر الطلاء، أو عبر الترميمات، تغير سحناتها من خلال استبدال الأبواب الخشبية بأخرى من الحديد. تغير الأسيجة، المحجرات والستارة، أو من خلال فتحات التبريد، مبردات الهواء، - الايركولر من خلال تحويل مداخل البيوت الى كراجات للسيارات الخاصة. "نصر، فيات، فولكا مارسيدس شفروليت".
لقد اشتدت حاجة الانسان الى الآلة لإنتاج ما يحتاجه، والى وسائل النقل، بعد الاحساس بضيق الوقت، وان العربات تمر سريعاً. فقد تحولت الطرقات الخارجية خاصة والداخلية عامة من طرقات ترابية الى طرق مسفلتة. وما عادت المسافة التي تفصل ما بين الكوت وبغداد مثلا والمقدرة بـ "180 كم" تستغرق أكثر من ساعتين في الربع الأخير من القرن الماضي، بعد أن كانت في الخمسينات، بل وحتى في الستينات لا تقل عن ثمان ساعات مع الكثير من الأتربة والغبار و"الكسافة".
اختفت عن ساحات المرائب سيارات الباص الخشبية –الشوفرليت-والانترناش- دك النجف، ولتحل بدلها حافلات الصالون –المارسيدس- والريم التي تتسع لأكثر من اربعين راكباً.
مع توفر وسائل التدفئة والتبريد والحجز المسبق والمراسي المرقمة هذه العلامات الفارقة توفرت بصورة رئيسة في اسطول النقل / مديرية نقل الركاب العامة / التي كانت تملكها الدولة/ القطاع العام/ الاشتراكي.
الجزء الشمالي من المدينة من الممكن أن نطلق عليه - الجغرافيا المتحركة - وذلك بسبب انعدام الحدود-أراض فسيحة، شاسعة. بعضها تعود ملكيته للمواطن - شيوخ العشائر/ الاقطاعيون - والأغلب الأهم تعود ملكيتها للدولة/ وزارة المالية بوابة المدينة عند الحدود الشمالية. حيث "المفرق" الذي بان اسمه حديقة النافورة.
ما من شرق. ما من جنوب. ما من غرب. فقد صادر النهر هذه الجهات وليبق على الرابعة. فدجلة بتاريخه الطويل العميق كان كافيا لأن يمنع أيّ تمدد ما لم يكن هناك عبور للنهر. ولأن عبور اليابسة أكثر ضماناً وسهولة من عبر النهر/ الماء. فقد كانت المدينة تتمدد من غير عوائق نحو الشمال.
عينا المراقب تتابعان بقلق مرة، ومرة أخرى بغير مبالاة الكثير من المتغيرات، فما بين غياب وحضور لملامح الجغرافيات، نجد المواطن نفسه ما بين شجن وبهجة، شجن بسبب توقف الذاكرة مع هدم وازالة مرفق. أو الغاء حديقة عامة. أو بناية خدمية. وبهجة بسبب انشاء مدرسة. أو بروز بناية لمركز صحي. أو نهوض معهد علمي. أو افتتاح شارع، العيون تراقب. والذاكرة تؤكد. والزمن يتغير، والجغرافيات تنفض عن أكتافها غبار الاهمال.
ما أن يمارس المواطن/ الموظف أو العامل، أو الطالب، أو عابر السبيل غياباً روتينياً/ متفقاً عليه، العطل الرسمية، الأعياد، الاجازات الاعتيادية، الغيابات حتى تبدأ الأشياء بممارسة التبدل.ليفاجأ هذا المواطن بشيء من الدهشة. حجم الدهشة والاستغراب يتوقف على حجم التغيير.
واجهة دار، انشاء دار حكومية، تبليط شارع، مد شبكة مجار، مياه أمطار أو مياه ثقيلة. أو مد شبكة مياه شرب. الغاء ساحة. أو شطب حديقة أو قطع شجرة أو حدوث طفح مجار، أو ظهور بائع شاي جوال. عند رصيف مهمل، ظهور حافلات نقل ذات موديلات حديثة.
الغاء اسطبل خيل قبل أن يظهر بدلا عنه مهبط لطائرات هيلكوبتر. الأمراض المستوطنة والبيطرة، لتنهض بدلا عنها صيدلية بلاط الشهداء والمركز الصحي المتخصص بالأمراض المزمنة والمستعصية.
غياب مخزن للمشروبات الغازية، ثم تتصاعد أبنية تنبئ عن دار عرض سينمائي وقسم داخلي/ دار سكن للمدرسات والمعلمات يتحول الى دائرة مكافحة الاجرام مكتبة عامة تصير مديرية لشرطة المحافظة.
دور سكنية ذات حدائق عامرة وأطرزة بنائية متميزة. أبواب خارجية من الحديد المزخرف، حيث بإمكان عابر السبيل أن يرى - من غير قصد - ما في باحة الدار من طيور مغردة أو داجنة أو غزالة، وأن يرى أطفالا يلعبون،أو نسوة يرتبن طبخة النهار.
هذه دار سكنية - قد تكون فريدة - اذ تنتمي ربما الى شيء من التراث، تتحول الى مجمع سكني متعدد الطبقات. مكان منتج للفوضى والنفايات والتناقضات، صبايا يدخلن دور الانوثة. فتيات سافرات. فتيات بعباءات، فتيات في مقتبل العمر، يتخلين عن حمل الحقائب المدرسية ليستبدلنها بحمل الأطفال الرضع.
العالم يطيح بالمتغيرات
ان المئات من البيوت التي تضم عشرات الالاف من الكائنات البشرية والعشرات من الشوارع والازقة والدكاكين والمخازن، لا يمكن أن تحيا من غير بناية مدرسة. من غير مركز صحي. من غير مركز شرطة، من غير اسواق، من غير دائرة حكومية تدير شؤون مواطني هذا الحي.
هل كان المصمم معتقداً انه يقوم بتصميم قرية حديثة للسكن فقط. من غير خدمات للصحة أو الأمن أو التعليم أو الترفيه. من الممكن أن يرد هذا المهندس أو المصمم قائلا. ان الحي هذا ما هو الا فندق أفقي!
المواطن الذي بحاجة الى مفصل يقف خارج السكن عليه أن يذهب حيث يريد. ولأن المكان مقفل جغرافياً. ومسكون اجتماعياً فلم تكن هناك أي فرصة للخروج على منطق السكن والسكن فقط. وعلى أهالي المشروع أن يذهبوا الى حيث المدارس. والمراكز الصحية، وحيث الأمن. والفعل الترفيهي وحتى يومنا هذا - ونحن في الألفية الثالثة - قد يتذكر المواطن ولحظة انحداره مع الجادة الهابطة من مشروع سدة الكوت مساحة واسعة من الخضرة - انها وكما اتفق -حديقة المصرف/ المتصرف أو المحافظ مع وجود اعدادية البنات وبناية حماية الأطفال.
ثلاثة شوارع أخذت الكثير من الاستضافة التي تفتقدها جميع شوارع المدينة وأزقتها وجاداتها الا ما يمكن أن يشكل حالة استثناء.
أول شارع هو شارع الكورنيش، أو شارع النهر، وأخيرا شارع الضفاف حيث يبتدئ بحديقة المتصرف لينتهي عند بيت حنون الناصر. أو عند بناية السراب التي كانت قائمة الى ما بعد ثورة 14 تموز 1958. ثاني الشوارع الثلاثة هو شارع المحافظة. يبدأ ببناية المكتبة سابقا لينتهي بمرآب النقل الخارجي ما بين بغداد والكوت، حيث ساحة العامل. ثالث الشوارع- الشارع الوسطاني - شارع المشروع. يبدأ ببيت المحافظ لينتهي بدائرة البريد القديم. كل الشوارع لها أرصفة. كل الشوارع الرئيسة والفرعية مبلطة بالإسفلت، كل البيوت تنام ليلها على صوت خرير المياه المتدفقة من بوابات سدة الكوت الست والخمسين.
الشوارع الثلاثة الرئيسة تمتد من الشمال الى الجنوب او بالعكس عندما يكون المواطن متجهاً نحو الشمال. فهي تمتد من الجنوب الى الشمال لتخترقها شوارع فرعية مستقيمة تهبط منحدرة من شارع الكورنيش لتتوقف عند شارع المحافظة او تتصاعد مرتفعة من عند شارع المحافظة ليتوقف صعودها عند الرصيف الآخر لشارع النهر.
حيث الضفاف/ المسناة.