ادب وفن

الفرار من وجه الفوضى / سامي البدري

لطالما ألح علينا سؤال إذا ما كانت الحياة تنطوي على فوضى أصيلة، أو إذا ما كانت الفوضى هي "نظامها" الخلقي، وإذا ما كان جهد الإنسان في الحياة يقوم على فرض النظام على هذه الفوضى وإعادة ترتيبها بالشكل الذي يجعل منها أكثر ملاءمة للعيش.. وهذا لا يعني القول إن موجودات أو أهداف الحياة على الأرض لم يحكمها غرض محدد، وإنما هي مقاربة للوقوف على "نظامية" هذا النظام، الذي لا يحكم ظاهره غير الفوضى، وإن كل جهد الانسان، الفلسفي والعلمي، هو ليس أكثر من محاولة فرار من وجه هذه الفوضى، بمحاولة تقنينها وتهذيبها.
حقيقة الأمر هي أن الفوضى هي الشيء الأصيل في هذا الكون، وكل محاولات الإنسان فرض النظام على هذه الفوضى، وسعيه المحموم في تهذيب هذه الفوضى، ليس أكثر من محاولة لخلع المعنى على حياته وهروب من وجه الفوضى. لقد تسلمنا مادة خام، هي الأرض بما فيها وما عليها، وعلينا استخدام أجزائها، وإشارات وإيحاءات هذه الأجزاء، في إنضاج الأفكار أولا، ثم استخدام أو تطويع هذه الأفكار في رؤى لتحقيق أو فرض نوع من النظام الذي يسهل حياتنا عليها. وتداول الأفكار هذا هو ما هدانا لاختراع اللغة، لغرض صياغة رؤانا وبناء تراتبية معمارها الاستنتاجي، وكذلك من أجل تحديد الهيئات العامة للأشياء، وبناء المفاهيم عنها والوصول بها إلى صيغها وصورها الإنتاجية.
إن الطور البدائي في حياة الإنسان وسلسلة تطور الحياة البطيئة "واليوم صارت بين أيدينا أدلة من الحفريات التأريخية والاريكيولوجية بقدر يقطع الشك تماما في أمره" يثبت لنا أصالة فوضى الحياة ومجهوليتها، وأنها، بمصدريتها، لم تكن عاقلة تماما، وأن ليس بمقدور أحد إنكار جانب من المصادفة في حركيتها… والأهم إنها كانت عجماء وبلا قاعدة من المعرفة، وبالتالي بلا أفكار… ولهذا كانت اللغة أول احتياجاتنا، من أجل توصيف الأشياء والتعبير عنها، وبالتالي التعبير عن أفكارنا عنها. وهذا ما أدركه "فنكنشتاين" عبر مقولة فكرته التي طالبتنا بالصمت عند عدم امتلاكنا لما نقوله، فتحول جهدنا لإيجاد "لغات" جديدة عند كل محطة صمت أو نقطة عجز عن التعبير؛ ولهذا سعينا لإيجاد لغة للفلسفة وأخرى للكيمياء وأخرى لعلوم الحاسوب وأخرى للأدب… وهكذا كي لا نصمت أو يطول صمتنا أو نشعر بالعجز ونصمت إلى النهاية. ولكن هذا لا يعني أن الفوضى سيئة، بحد ذاتها، وإنما هي سيئة ـ بطريقة من الطرق ـ لعدم فهمنا لها أو فهم نظام اشتغالها أو جدوى اشتغال نظامها، وإذا ما كان وجودها أصيلا ولتلبية حاجة أصيلة، رغم أن تجربة حياة ملايين السنين التي عاشها الانسان على سطح الأرض، تثبت أنها متعبة وعبثية في كل أحوالها، وحتى لو لبت حاجة لاهوتية ـ ميتافيزيقية واضحة لحد عدم الشك في هيئتها وصورتها!
فثمة وجود أصيل قائم وثابت لهذه الفوضى ـ كوجود الشجرة والحجارة وأصناف الحيوان من حولنا ـ ويفرض علينا إحساسنا به التعامل معه، لأن هذا الوجود يصر على عرض نفسه والتعبير عنه عن طريق فرض نفسه على نظامنا الحسي وتغلغله فيه والتأثير في إدائه أو آليات وعيه، وهذا أكبر من مجرد عملية توصيف لغوي أو عجزها وقنوطها. وهذا لا يعني عدم الإقرار بعجز اللغة المتاحة، إنما هو تأجيل لاستخدام هذا الإقرار، لأننا مازلنا في مرحلة التعامل مع الفرض من حيث كونه فرضا ابتدائيا أو مدخلا للتأسيس الفلسفي، رغم أنه يحمل ما يكفي من مبرراته الفرضية، وإلا لما كان فرضا أو أسس لفرضية النظر والتعامل.. ولكن بالتأكيد فإن هذا الفرض "وهو ثابت وراكز في حالة الفوضى" بحاجة للغة تعبيرية، لا وصفية، خاصة؛ ولكن انتفاء هذه اللغة لا يعني انتفاء هذه الفوضى، لأنها توطد وجودها أبدا، عبر تأثيرها في وسائل الحس وفرضها لوجودها عليها عن طريق شبكة مشاعر الإنسان.. ولهذا كانت الفلسفة الوجودية هي وسيلة التعبير عنها وعن منظومتها الحسية، لأن الوجودية لا تستخدم لغة الوصف المنطقية، إنما تستخدم لغة التعبير الفني/ الأدبي، عبر طرح نماذج الشخصيات وانفعالاتها، لا عبر وصف نظام الوقائع التي يرسمها المنطق ولغته "القانونية"، تجوزا في هذا الوصف طبعا. والسؤال هو: هل سنحتاج لعدد الملايين من السنين، التي أمضيناها في تطورنا من عصر ما قبل اللغة، لنصل إلى عصر الخروج الكبير أو النهائي من الفوضى؟ وعلى هذا السؤال تترتب مجموعة أو سلسلة من الأسئلة المتوالدة، وأهمها: كيف نضمن أن مراحل أو خطوات خروجنا من الفوضى، هي لن تقودنا إلى فوضى أخرى أو أنواع أخرى من الفوضى المتوالدة والمتجددة؛ أولا استنادا إلى وقائع حياتنا اليومية ـ التي نعيش أنصع صورها منذ قيام الثورة التنويرية والثورة العلمية ـ التي تدلل على أن كل خطوة تقدم علمي وكل إنجاز تكنولوجي "في سلسلة السيطرة على الفوضى" لها ثمنها المقابل من الفوضى البديلة أو نوع متوالد جديد منها؛ وثانيا، لأن الفوضى، في أوجه تمظهرها غير المادية "حياة الإنسان الاعماقية، بتعبير وايتهيد"، مازالت تقف عند النقطة ذاتها من الالتباس وعدم السيطرة والتشعب المحيّر.
ولعله من المهم أن نؤكد هنا أن مشكلة الفوضى هذه، في أساسها ـ بالنسبة لوعي الإنسان ـ هي مشكلة فلسفية صرف، رغم تمظهرات بعض جوانبها بصور مادية "التي عالج بعضها المنجز العلمي والتكنولوجي"، مثلما زادت بعض جوانب هذا المنجز من بعض أوجه الفوضى، أو استحدثت أوجها جديدة لها، ولهذا فإن علاجها يحتاج لفلسفة إجابات ـ تجيب على أسئلتها أو تملأ فراغاتها ـ لا فلسفة تنظيم أو تقنين، على طريقة هيغل، لأن ثقل الحياة "ضغط مشاكلها، أو اشكالاتها، إن شئنا الدقة" لم يعد يخدمه فرض نوع من النظام أو المزيد منه، إنما إجابات ناصعة وتفسيرات نهائية… أو وضع حدود قاطعة نهائية، على طريقة الفهم الدستويفسكي في الأخوة كرامازوف: ليس الهي هو ما أرفضه، إنما أريد أن أعيد إليه تذكرة الدخول فقط!، لأن حضارتنا "أصبحت عاقلة أكثر مما يجب" وعقلها هذا صار هو مصدر الإزعاج، أو لنقل إنه لم يخدم خطوات تقدمنا باتجاه السلام الروحي الذي ننشد وأن نضع نقطة في نهاية سطر حيرتنا.
وإذا ما قفزنا ـ حارقين المراحل ـ لنصل إلى السؤال الأصعب: هل كانت "تذكرة الدخول" ـ بدورها ـ نوعا من حالة هروب من فوضى أخرى؟، فإننا سنجد أنفسنا في وضع من يسير عاريا في شارع مزدحم بمقاهي الأرصفة، وقد فرغ زبائنها من كل أحاديثهم، ولم يعد أمامهم غير النظر إلى بحر الشارع، بحثا عن موضوع يشحنهم بشهوة الحديث من جديد، لأن هذه التذكرة، ورغم كبر حجمها وسحر فخامة خطوطها، وبهجة ألوان قلوب الحب التي تزين زواياها الأربع، إلا أنها لم تكن أكثر من دعوة للوقوف في خلاء أبكم، بلا مظلة ولا وسائل راحة وتسلية، لانتظار "غودو، صموئيل بكت" الذي لا يأتي أبدا! والمشكلة ليست متأتية من عدم قدوم "غودو" هذا، وإنما من إصرارنا على انتظاره حتى النهاية: حتى آخر رمق، وحتى نهاية الرغبة فينا ومنتهاها، لأن "قدراتنا الفلسفية" في هذه المرحلة، لا تسمح لنا أو لا تمدنا بأكثر من قدرة الإصرار على انتظاره!
لماذا لا يريد "غودو" هذا القدوم؟… أو لماذا عدّل عن هذا القدوم أو أسقطه من حسابه؟ أم تراه هو لم يكن أكثر من وهم اخترعه "صموئيل" كل منا، هروبا من وجه الفوضى التي تحيط بنا من كل جهة؟
والسؤال بكامل مباشرته، وفجاجته أيضا: ترى ماذا أفعل، أنا وأنت و"بوزو، صموئيل بكت، ورفاقه الثلاثة" وجاري المسن وجارتك المتوسطة العمر، والشابة التي تعبر الشارع الآن تحت المظلة الوردية، وعامل النظافة الذي يكنس جزء الشارع الذي أمام بيتك في هذه اللحظة، إذا لم ننتظر "غودو"؟ الجواب: نبحث عن طريقة للهروب من وجه الفوضى.. والسؤال التابع أو المتولد: بالبحث أو بانتظار "غودو" مخلص، مخلص من الفوضى طبعا، ببساطة لأن الفلسفة إختنقت والعلم لم يعد قادرا على غير إحكام قبضة الاتفاق البورجوازي على ما تبقى من وجودنا، وليس فرديتنا وحريتنا وحسب؟