ادب وفن

ثقافة الأصوات اليومية / مازن المعموري

ماذا تعني قراءة غائب طعمة فرمان بعد كل هذه المسافة الطويلة من التجاوز الفني والتجريبي في الرواية العراقية؟ سؤال يضعني على المحكّ وأنا أقلّب صفحات رواياته التي تضج بأصوات الواقع العراقي ويومياته وثقافته الشعبية وبروز فئة الانتلجانسيا العراقية مع بدء عصر النهضة الحديثة في العراق, لكن الأهم من كل ذلك هو انطلاق الرواية العراقية من خضمّ الشارع العراقي وكأن الرواية بصفتها شكلا ثقافيا لاكتشاف الهوية الذاتية عبر ممارسة تصوير المكان العراقي في كل أعماله وخاصة في خمسة أصوات التي تبدأ بتصوير الأزقّة والشناشيل ودرابين المحلات القديمة, انها بغداد كما يراها مصور?سينمائي يقدم لك ثقافة مكان في ضوء توصيفات الأبنية والحواري وعلاقات المجتمع عبر أصوات وصور لأمكنة المقاهي البغدادية التي تتعدد صورها كما تتعدد أصواتها سرديا "مقهى بلقيس، ياسين، البريد المركزي، السومرية، حانة النصر، بار كاردينيا" فالروائي غائب, ينتمي الى مرحلة تأسيس الدولة الحديثة, ذات النظام الملكي, بمعنى انه مشغول كفرد متعلم ومثقف بتثوير وعي المجتمع, وأنا هنا لا أقصد التحريض ضد النظام, أبدا, فهو ملكي وضد ثورة 1958 لأنها جاءت بالعسكر ودمرت البداية الصحيحة لتطور مجتمع بدائي كالمجتمع العراقي, لكنه معني بتعري? ذاته الجمعية في ضوء تعدد أصواته وتنامي شخصياته الطبقية, كما هو الحال لدى الرواية المصرية التي دعمت هذا التوجه بسبب الهيمنة الثقافية لليسار آنذاك, وبروز ظواهر ثقافية قدمها الشارع العراقي وليس الكاتب , فغائب كان يلتقط فقط دون ان يؤول, فقد كان حريصا على نقل الصورة وليس تشذيبها فنيا.
يقدم لنا الروائي, شخصياته كأصوات ثقافية تمتد لتسجل اعترافا واضحا لبنية المجتمع العراقي الريفية ومدى الازدواجية القائمة بين الارث التربوي للشخصيات وحركة التحديث الاجتماعي والتعليمي في كل فئة اجتماعية تمثلها الشخوص "سعيد/ ابراهيم/ عبد الخالق/ حميد/ شريف" وهكذا نكون امام محنة المثقف العراقي الذي يحدد القضية بمقولة واضحة المعالم وتنم عن تجربة حياتية عشناها جميعا ونعيشها كل يوم هي "مشكلة المثقفين ليست القراءة, بل معرفة الحياة/ خمسة أصوات" وربما استطيع التأكيد على أن ما يقوله غائب طعمة فرمان في أغلب صفحاته يؤكد ?لك الظاهرة المغلقة للمجتمع ككلّ, فما يحدث للمثقف هو تقليد ما يقرأه واعادة انتاج ما يتعلمه من الغير دون ان يعمل على اكتشاف مكانه أولا, حيث نجده يقول على لسان أحد أبطاله "نحن العراقيين من سلالة تعيش وتموت في عقر دارها, لا تجوال ولا مخاطرة, والانسان الذي يولد في بغداد يموت في بغداد, ولا يرى شيئا حتى من العراق" خمسة أصوات, كما انه يشخص الظاهرة بشكل صريح تجاه المثقف العراقي تحديدا حين يكتب احد شخوص الرواية عن محنة المثقفين فيقول "انني مهدد دائما, واعيش ثقافيا على ما يرسمه الاخرون لي", تلك هي المعضلة الكبرى التي?حددها غائب في روايته.
المثقف العراقي ما زال عاطلا عن الابتكار والتنافذ مع العالم المحيط, بدءاً من البيئة العراقية وانتهاء بالآخر الغربي والعربي, فهو حريص على قفصه, متفاخرا بوجوده في مجتمع متخلف ومنفصلا عنه, يحسب نفسه أعلى من الناس وأرفع منزلة من أهله وذويه, لا يقاسمهم معاناتهم ويعمل خادما لمسؤوله وخطابه السياسي بذلة العاجز المكسور, وهو ما جاء على لسان امرأة تقول: "أنتم تسبون الوزراء والحكومة في الجرائد ولكن تخافون ان تدقوا باب مستغيث" خمسة أصوات, وهذا الواقع هو من يصعد الاحساس الكبير بالهزيمة النفسية للمثقف العراقي ويقدم نموذج ?لكاتب المحبط على لسان عبد الخالق "ما نفع الكتابة في مجتمع تسعون بالمائة منه أميون, والآخرون أنصاف أو أرباع متعلمين لا تدخل في عقولهم أبسط المفاهيم".
كل تلك الاحباطات التي يعيشها المثقف العراقي, شكّلها الاغتراب عن الواقع والعائلة والنظام الاجتماعي التقليدي البائس, ويأتي الاضطراب السياسي ليراكم هذه الاحباطات ويجعل الانسان مستلبا من هويته الانسانية ومكانه ومحيطه, فتوجهه نحو العدمية والسكر وتدمير الذات, بأقسى حالاته, وتحوله الى انسان فاشل عائليا واجتماعيا وثقافيا, وهو ما وجدناه في انكسار الاصوات الخمسة التي قدمها لنا غائب طعمة ونهاياتهم الطبيعية في مجتمع ضائع ومهدور.