- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 03 تشرين2/نوفمبر 2015 20:15

عندما سئل الشاعر نزار قباني، من قبل أحد الصحفيين عن السبب في رواج كتبه ودواوينه كان جوابه:"وما العيب في ذلك؟ أنني أخرجت الشعر من مرحلة الاستعطاء إلى مرحلة الكبرياء، ولذا فإنني كلما كسرت جسورا وامتدت قاعدتي الشعبية، ارتفع الصراخ، كأنه مفروض على الشاعر أن يبقى أبد الآبدين حاجبا على باب أمير المؤمنين ، او سائسا في إسطبل . أنا يشرفني أنني أنقذت الشعر من حالة الاستزلام ، وخلعت كل الملوك لأجعله هو الملك ، جعلت الملوك في حاشية الشعر بدلا من أن يكون الشعر في حاشيتهم".
لله درك يا قباني .. تريد أن يجلس الشعر على عرش الملوك لا أن يستجدي على عتبة السلاطين.
يوصف نزار قباني انه شاعر المرأة والجنس والمستقبل ، كما انه شاعر الحضارة والمدنية والتقدم والنضال في سبيل تحرير المرأة من أسار شرنقة التخلف والأنثى ، ورفع القيود عن مسار حياتها المثقلة بالمكبلات والعوارض والتقاليد. وقد واجه قباني كثيرا من العنت والمضايقات وخاصة من العقل السلفي المتخلف ، والذهنية التي تنظر إلى الجنس سرا نظرة تقديس وسلطان ، وفي العلن تعتبره ربيب الشيطان.
في ديوانه "طفولة نهد" الذي صدر في مرحلة العطش والجوع كما يسميها الدكتور خريستو نجم في كتابه "النرجسية في أدب نزار قباني" ، يقول الشاعر نزار قباني في مقدمته للديوان المذكور أعلاه:" الذي أقرره ان الشعر يصنع نفسه ، وينسج ثوبه بيديه وراء ستائر النفس ، حتى اذا تمت له أسباب الوجود ، واكتسى رداء النغم ، ارتجف أحرفا تلهث على الورق ".
ما أبدع الشعر وهو يرتجف أحرفا تكتسي رداء النغم ، وتلهث متشبثة لتحتل موقعها على الورق. وقد يصاب الإنسان بالذهول ، وهو يتلمس خطوات هذا الشاعر ، الذي كان يقود عملية نقد لاذعة تجاه مظاهر التخلف في المجتمع العربي ، وخاصة في شعر الحب الذي تناول فيه الشاعر نزار قباني دور المرأة ، وكيف انه أضاء الزوايا المجهولة في جسد المرأة، وطالب بتحريرها جسدا وروحا من سراديب الحريم ، وشريعة الجاهلية ، جاعلا من المرأة قضية بعد ان كانت سلعة. وفي أطواره الشعرية ، كان متدرجا , ولذلك فان الدكتور خريستو نجم .. وضع خمس مراحل في طريق تطور الشاعر خلال الفترة الممتدة من 1944- 1981 :
1 - مرحلة العطش والجوع : وهي المرحلة التي تقع بين الأعوام "1944- 1956"، وفي هذه المرحلة صدرت للشاعر قباني "طفولة نهد ، سامبا ، قالت لي السمراء ، أنت لي". 2- مرحلة ما بين الذات والآخرين : وهذه تمتد من "1956 / 1968" ، ومن الدواوين التي أصدرها الشاعر في هذه الفترة " قصائد نزار قباني ، يوميات امرأة لا مبالية ، حبيبتي ".
3 - مرحلة الارتواء والانطواء: وتمتد من " 1969 / 1997" ، وفيها صدرت للشاعر "مئة رسالة حب ، الرسم بالكلمات ، قصائد متوحشة ، كتاب الحب " .
4 - مرحلة التخمة وإفلاس الشعور: وقد كان فيها ديوانه "أشعار خارجة على القانون ".
5 - مرحلة الهاجس الجنسي : وهي المرحلة الأخيرة في تطور مسار الشاعر ، وقد قدم فيها مجموعة من دواوينه " احبك احبك والبقية تأتي ، هكذا اكتب تاريخ النساء ، قاموس العاشقين ، كل عام وأنت حبيبتي ، اشهد أن لا امرأة إلا أنت.
ورغم ملاحظاتنا على هذا التناول وهذه التقسيمات ، إلا أن الأمر لا يعدو أن يكون انغماسا في النظريات " يرمينا في جفاف الدراسات العلمية ومتاهات التحليلات السيكولوجية ". ولأن قضية المرأة احتلت فضاء واسعا في شعر نزار قباني ، فقد انهالت عليه الانتقادات من العقل السلفي ، لكن العقل المتفتح ، العقل العربي الجديد ، استوعب الأطروحات النقدية وتعامل معها بأسلوب أكثر وضوحا ، وأعلى نضوجا ، وارقي توقا لفهم تلك الأناشيد التي تلهث نغما ، وتعدو منتشية لتغرس حروفها على ورق صقيل . ولذلك فقد أتحفنا الكاتب "انسي الحاج" بهذه العبارات التي يفوح منها عطر الجمال وذائقة الفن الإبداعي ، وهذه الثورة العاطفية التي فجرها الشاعر قباني:" نزار قباني الراسم فم الحب وطنا ، المخترع قاموس غزل على قياس الكرامة عوض الذل ، والفرح عوض النواح ، والتحدي عوض الاستسلام ، والإنسان العربي الجديد بعد عصور التكايا والحريم والسبايا والعبيد".
ولأن نزار قباني ، جند شعره وأدبه وثقافته المعرفية ، ونشاطه الاجتماعي ، لصالح حق المرأة في أن تكون إنسانا كامل الإنسانية ، له كل الحقوق ، يشارك أبناء جلدته في صناعة التاريخ كما تصنعه الشعوب ، والمرأة التي يريدها نزار قباني "المرأة الساحرة اللامتناهية اللا محدودة التجدد والسحر ، كلما اقترب منها طالت مسافاتها ، فتصبح هي المرأة الممكنة والمستحيلة في آن".
وهكذا كان وجه الأرض لم ير العشب ، لولا أنها مرت من هناك: مررت .. أم نوار مر هنا لولاك وجه الأرض لم يعشب.
إن انسي الحاج وهو يمر بنا على هذه المفازة ، ويستخرج الكنوز التي احتوتها دواوين نزار قباني ، إنما يعيد إنتاجها بلغة أدبية غاية في الإبداع والسحر والجمال . ان الحديث عن نزار قباني لا تستوعبه هذه الأسطر الفقيرة ، لأنه الخيال الواسع ، والنهر المتدفق عطاء ، والغيث المنهمر سبلا . "وانك لتعجب أشد العجب عندما تلمس في أدب هذا الشاعر روح طفولة وبراءة في عالم من الرجس والشهوة ، روح صفاء وجلاء في غياهب صفيقة من الدنس والمجون".
نزار قباني شاعر امتلك لغة استطاع من خلال هذه اللغة أن يحول "الشعر إلى قماش شعبي يرتديه كل الناس"، وله آراء هيمنت على نتاجه الشعري والأدبي ، ودفعته إلى تشكيل مواقفه في الشعر واللغة والأدب ، وهو يضع الإنسان في مقدمة اهتماماته ، والإنسان في لغة قباني يستحوذ على ذائقته الشعرية ويحتل موقعا لا يدانيه موقع آخر ، ولأن المرأة هي الإنسان الذي يمثل النصف المضيع والمهمش والمحجوز خلف ستائر القضبان والأبواب المقفلة ، فقد أخذت من شعر نزار قباني اغلب أناشيده وحروفه وقوافيه ، "المرأة كانت جسرا للتعبير عن نفسي " هكذا يقول قباني ، فالمرأة عند قباني هي الجسر الذي عبر من خلاله ، إلى ضفة المجتمع ، وكانت المرأة جزءا من حياته ، لأنها تسربت في مسامات جلده: قد تسربت في مسامات جلدي مثلما قطرة النـــــدى ، تسرب نزار قباني ، لا نستطيع أن نلبسه رداء غير ردائه ، والثوب الذي توشح بجلبابه ، كما إننا لا يمكن أن نمنح الشاعر هوية غير هويته التي كانت أرشيفا لتاريخه الأدبي والثقافي ، نزار قباني ، احتفظ بهويته ، لم يتزحزح ولم يرض أن يكون إلا نزار قباني ، ولذلك قرأنا له "ومنذ بداياتي كافحت لكي لا أكون نسخة بالكربون عن أي شاعر آخر ، لأنني أؤمن بأنه لا يمكن أن يكون هناك غير متنبي واحد أو فاليري واحد أو اليوت واحد ، وكل نسخة أخرى تكون مزورة".