ادب وفن

تراتيــل بابليـــة.. بــوح لسيـــرة المنافـي / إبراهيم الحجري

أهلَّ علينا الشاعر جواد وادي بديوان مهدى إلى تربة المنافي، ومن صاحب الشاعر في تلثيم طوبها وصخرها الناتئ عبر عقود من الزمن الممتد من النفس إلى النفَس لا تفصل بينهما سوى مساحة الانتظار المرة عبر محطات العبور اللانهائي للذات الممتحنة بالتجربة و الاغتراب و السفر المتلاحق الأرصفة والمماشي السحيقة المزروعة بالأشواق والأشواك وألف ميل من ترنح الكمائن ومشتقاتها المثَبِّطة لكل فرح مفاجئ قد يغافل صهد القهر والضنك الزمنيين.
العتبات بوابة أولى لاقتحام المتون الشعرية الزاخرة بالتوثب شكلا ومضمونا, لذلك فهي تدعو إلى استحضار دائم و متساوق مع مسار القراءة , ولا يمكنك أن تغوص قليلا في أغوار النصوص دون أن تلفي هذا الخيط الرفيع الذي يلف كل مكونات المنجز الشعري , فحتى ما هو هامشي دال بشكل موازٍ في إطار هامشيته , إذ لن تصمد أرض بابل كثيرا أمام جبروت الشوق لهذا الطفل الذي لن يكون سوى الشاعر و من يجايله من العابرين للحدود , حيث تركت العنان لتوصياتها و دعواتها لآسفي بتدليله و ضمه بكل تلاوين العطف المفتقد.
إنني أوصيك يا آسفي
بهذا الولد المسكون حمى العشق
ألا يجتبيك و يرتحل ..
ونشتم بذي البيات هزيم الروح وهي تتعشى لدغات السفر المر العقيم , بين عذابات سبل تصب في سبل بلا بوصــلات ولا نشيد , هزيم ليس له من صدى سوى احتراق الكلمات و ضحكات مريرة تواري ملامح الحزن المتدفقة عبر ثنايا المحكي الشعري و صهد نار النوى عن التربة والأرض التي يؤججها جحيم الشوق وربى المسافات السحيقة:
هل التيه عمّق وجد الحنايا؟ !
وهل أنت مغرمة
بفك أساور راحتيك؟ !
مقيدة والله أنت
مكبل أنا و رب العذارى؟!
إن القول الشعري موزع بين شعل تنزف لهيبا , ظاهرا أو مستترا وندوب منقوشة بإبر صماء لا تندمل , تذكي حرقتها غربة الذات و جرح القصيدة الممتد بحجم المتاهة :
رباه ما هذا الحزن
وهذا الوخز
القاتل ...
تنوء المتون الشعرية في الديوان بأثقال زمن الخيبات المتلاحقة التي عايشها الشاعر إبّان فترة السبعينيات, و يكفي أن نذكر صفعة الهزيمة أمام الصهاينة, ونكبة استياء الشعوب العربية من أنظمة الحكم السائدة مما ولد غليانا شعبيا أدى ثمنه المثقفون والشعراء والكتاب, فامتلأت منهم السجون والمقابر وفضّل ما تبقى منهم مكرها أن يغادر الأوطان مثخنا بالجروح والندوب: وحل في الأوطان شروخ في الرأس, متاه في الذات, اغتراب خارج الحدود, ضنك في الدماء يذكيه تجبر الطاغوت الحديدي؛ وسيرة من ندم الكلمات المعطرة بالضيم والعنت. كل القصائد لا تخلو من رحيق العتاب والحسرة والأسى, يختزن القلب مرارة الرحيل عن أرض مكسوة بالعار و الفجيعة و يطلق آهات الوجد و الحنين لكل أفنـــاء العراق و ما تحيل عليه من رموز وأمكنة: "بغداد, الفرات, بابل, أرض السواد, السعدون. البحرين, سرجون, الذاوية, عشتار, سومريات, دجلة الخير, قصب البردي..."، هكذا تستوي الأرض عرش وجدان الشاعر حيثما حل وارتحل ويظل سامقا عرف حضورها في الدماء , كالهواء نفسه وكالأنين المثخن بالألم بحجم الاغتراب, لا شيء يذوي في الروح سوى جلبة جرح مقدس يسكن العظم إلى الموت إن لم يكن الموت نفسه, خصوصا إن كان مصحوبا بلعنة الفراق وندم الرحيل:
بغيض .. بغيض
أنا يا رفيقي الفرات
رحلت عنك و كنت كظيما
وكنت عليل ...
وقد استمد الكائن الشعري قوته, هنا من قدرته على تفعيل ما تختزنه الذاكرة من صور الماضي التليد سواء بالعراق أو الجزائر أو المغرب, وهي المناطق التي تقتسم الحضور المكاني للشعر والكتابة وطقوسهما, وذلك عن طريق توظيف ظاهرتي الإحالة والتضمين الشعريين, ونلفي الأولى ترد في قصيدة "سلوتي البراق .. والفرات نديمي" إذ يستلهم الشاعر قصة الإسراء والمعراج من القرآن ليستعين بها بشكل مخالف دلاليا, ويستعمل الثانية في أماكن متعددة من المنجز الشعري خصوصا حينما يحيل شعريا على شهريار وشهرزاد والعنقاء وبابل والوأد..
قالت لنا العنقاء
إنك لا محالة قادم
فجرا لتخصب شهرزاد
وشهريار مشرد
ويبدو أن الشاعر ينقل القارئ من لذة التناول الفني إلى عناء التجربة, وما أقساها، يؤلمك الإبحار كثيرا, خلال هذا المسار الإبداعي حتى إنك تقترب شعريا من ذاتك الممهورة بالسهو فترتعش من وطأة الغياب الجسدي الذي يقابله الحضور الروحي في كل أشياء الوطن البعيد/ القريب.. يتحول الوجد الذي طال بغداد وبابل والفرات ودجلة إلى صبابة تحتوي آسفي الحضن الذي فضل "وادي " الإنسان والشاعر أن يتمدد بين خمائله الدافئة:
ونلعق من حلاوتها أسارير
التعلق وافتتان العشق
والفرح المندى فيك
يا آسفي البهاء ...
لم يكن هذا التماهي الشعري المكاني وليد انسياق شعوري لحظي, بل له امتداد داخل التجربة الشعرية ينطلق من رجفة الوداع إلى سطوع اللقاء الموعود شعريا عبر الوصل الدائم الحلقات, وصل يؤججه الحنين العميق وصدق التجربة, ولا تكاد تخلو قصيدة أو سطر أو شذرة من نداء الأرض, صارخا في كل المشاهد كأنما التجربة الشعرية كلها جاءت لترضيه, وحتى إن صـب في نهر غيره, فإنها لا تعدم سهبا من السهوب أو رافدا من الروافد المؤدية إليه, لذلك نجد هذا التواؤم الشعوري الشعري يختزن العديد من التجارب الإنسانية التي عاشها الشاعر رفقة شلة من مواطنيه, وهو بعد ذلك إقحام للذاتي بالإنساني وهنا تكمن قوة المنجز وشعريته المتفردة التي تبلور تجربة المنافي الطوعية في شكل امتداد روحي يرشح بكل ألوان التماهي في زمن كاد الاغتصاب يكون لغة الحوار
يتوغل القول الشعري عند جواد وادي في تفاصيل الرؤيا الموحدة لكل المتناقضات في ذات واحدة تكتنز التصور المشبوه للعالم المرئي واللا مرئي من كائنات المعنى الذي يفيض عن كأس العناء الذي يشرح الذات ويمزقها من جراء الغيابات المتعددة عن ساحة الفعل الداخلي العميق للأرض والتتبع القريب لروح الانتماء, ومن ثمة يطرح المنجز الشعري سؤال جدوى الكينونة خارج أنفاق السيرورة المتزامنة وأحداث الوطن البعيد/ القريب داخل هوية اسمها الشعر