ادب وفن

كاظم السماوي.. بين أنسنة الشعر وأممية النضال / طالب عبد الأمير

مرت قبل أيام الذكرى السادسة على رحيل "شيخ المنافي"، الشاعر العراقي كاظم السماوي.
وهو وإن لم يكن الوحيد من مبدعي العراق الذين ارتحلوا في المنافي، بعيدا عن الوطن الذي نزفوا حياتهم من أجله فناً ومعاناة والقائمة تطول، لكن السنوات الاخيرة من حياته، في منفاه الأخير كانت شديدة القسوة والإحساس بالتغرب، اذ عاش في ستوكهولم وحيدا لا أنيس له سوى ذكريات مشحونة بالألم، بعد أن فقد أفراد عائلته الواحد تلو الآخر، حيث اغتال عملاء نظام صدام في سفارة العراق في الصين، ولده نصير في عام 1991 حيث كان يدرس، وتوفيت زوجته حزنا على ولدها، وأُختطف ولده البكر رياض في بغداد، بعد ان جاء اليها عائدا من دراسته في المانيا، وزج به في الحرب العراقية الايرانية، ثم توفى بعد سنوات لاحقة مصابا بالسرطان. وفي لندن، وقبل عام ونيف من رحيل الشاعر الابدي، توفيت ابنته الكاتبة والفنانة تحرير السماوي، بعد ان دفعت قسطها، هي الاخرى، من المنفى، لأكثر من أربعين عاماً قاسية ختم حياتها المرض الخبيث، وهي في ذروة عطائها الفني والادبي.
بعدها يُسدل الستار، في مغتربه الأخير، السويد، على اكثر من نصف قرن، هو زمن منفاه الطويل. هذا المدى الذي مر خلاله قطار عمره بمحطات عديدة: من بيروت الى بودابست الى برلين إلى بكين الى نيقوسيا ودمشق، وآخرها ستوكهولم التي توقف فيها قلب الشاعر في يوم آذاري، من عام 2010 بل في منتصف الشهر تماماً، والذي عادة ما تفوح صباحاته في بلادنا، بروائح الربيع وتتفتح زهوره فيها، لكن هنا على حواف الشمال الباردة، كان الصقيع يلف المدينة الغافية بين مياه الجزر الكثيرة المنتشرة هنا وهناك، رحل السماوي كاظم عن عمر ناهز التسعين عاماً. وقد صدقت نبوءة الشاعر، بأنه لن يعود الى الوطن الا بعد سنوات طوال قضاها في المنافي. وقد عاد، اخيراً الى الوطن، لكنه عاد اليه جسدا بارداً ليدفئه ثراه، حيث دفن في السليمانية.
كنت قد التقيت الشاعر كاظم السماوي في اكثر من مناسبة، ولكنني حاورته، في الشعر والصحافة وفي مسيرته النضالية، الانسانية مرتين. في المرة الأخيرة كنا نجلس في الهواء الطلق على احدى مصطبات حديقة الملك وسط العاصمة ستوكهولم.
وكالعادة حينما يلتقي صحفي بأديب أو فنان وقد عاش كلاهما المنفى، سنوات طوال، يطفح السؤال التقليدي المثقل بأحمال الزمن وتداعياته، عن المكان النقيض، او الضفة الأخرى الحاضرة، النائية عن ضفة الوطن، ليس بقياس المدى الزمني والمكاني فحسب، بل وبالأحاسيس والمعاناة. وفيما بين الضفتين بحر شاسع ورحيل متواصل بين تموجاته وعصف رياحه العاتية.
- ماذا سلب منك المنفى وماذا أعطاك؟
- "المنفى مهنة شاقة"
هكذا بدأ السماوي اجابته، بعد صمت قصير، مستشهداً بقول الشاعر التركي ناظم حكمت ومسترسلاً في توضيح فكرة المنفى، الشفافة البسيطة والمركبة، الشديدة التعقيد في آن واحد، بأن:
- "المنفى هو اغتراب الانسان عن جذوره ومحيطه، وربما عن وشائجه الفكرية حتى. إذ أن الانتساب ليس فقط للأرض والوطن، بل وللفكر ايضاً. ولكون المنفى حالة اضطرارية، ينبغي على المنفي خارج حدود بلاده ان يحرص على التواصل مع محيطة، بكل الوسائل. عندما أُسقطت عني الجنسية في العام 1954، تصورت بأنني سوف لن اعود الى وطني الا بعد عشرات السنين. خاصة وان السلطة التي قامت باسقاط جنسيتي، كانت تبدو راسخة في مكانها". قال السماوي: على اثر إسقاط الجنسية عنه، بدأت حينها رحلة الشاعر والمناضل كاظم السماوي ليعيش في المنافي سنوات طوال، اكسبته، برغم معاناتها، معارف جديدة، على الصعيدين الفكري والنضالي، كما وصف ذلك، مشيراً الى أن البلدان التي عاش فيها، منحته رؤية جديدة وثقافة مكنته من الاطلاع على ما لم يطلع عليه في بلاده او مما لايجده في الكتب، حسب تعبيره.
"اكتسبتُ خبرة واسعة من خلال اطلاعي على حياة الكتاب والأدباء العالميين الكبار في الخارج، وكان قسم منهم منفياً وعاد الى بلاده، وهذه الخبرات منحتني معارف غير التي تسلحت بها وانا في الوطن".
تعرّف الشاعر كاظم السماوي على زعماء وشخصيات عالمية مناضلة، وادباء كبار، ذكر منهم اسم كيو موسو الذي كان رئيسا لاتحاد كتاب الصين، والشاعر والمناضل التركي الشهير ناظم حكمت، وفي المؤتمرات العالمية التي شارك فيها التقى أسماء لامعة مثل الشاعر الفرنسي الكبير لوي اراغون وغيره. وعن علاقته بهذه الشخصيات، قال السماوي انها وسعت آفاق معرفته ونقلته الى آفاق أخرى، كانت تعتبر مجهولة بالنسبة اليه في السابق. ومنحته ايضا، امكانية الاطلاع على ثقافات لم تكن لها جذور في العراق.
- "مثلا، عندما خرجت من الوطن، لأول مرة في خمسينات القرن الماضي، اطلعت على الاوبرا، هذا الفن الراقي الذي لم يكن معروفا في بلدي، ولا حتى في البلدان العربية الأخرى حينذاك، وتعرفت على الحركات المسرحية التي لم نكن نعرفها سوى على نطاق ضيق. وكذلك حضرت حفلات سيمفونية راقية كثيرة".
كان السماوي من الناشطين في حركة السلم العالمي، وقد اسهم في تأسيس حركة السلام في العراق عام 1952 التي مثلها في مؤتمرات دولية عديدة. وبعدما سحبت منه الجنسية العراقية، وكان حينها في بيروت، تمكن من السفر الى المجر، بمساعدة من حكومتها التي منحته الاقامة ليعش في بودابست عدة سنوات:
- "وبعد ان تعلمت لغتها أصبحت عضوا في اتحاد الكتاب المجريين. وكنت أكتب قصائد وما أكتبه كان يترجم الى المجرية، ثم تُرجمت قصائد من ديوان كتبته في العام 1950 الى المجرية، وصدرت في كتاب عام 1956 من قبل احدى دور النشر في المجر".
بعد انتصار ثورة 14 تموز العام 1958 عاد السماوي الى العراق، وأعيدت اليه الجنسية وفي العام 1959 عين مديراً عاماً للاذاعة والتلفزيون في الجمهورية الفتية، لكنه، وبعد ثلاث سنوات من عمله في الوظيفة استقال منها، محتجا على بعض الممارسات التي كان يرى فيها تعارضاً مع أهداف الثورة، حتى انه سُجن لعدة اشهر، لكنه ظل وفيا لمبادئ تموز وزعيمها عبد الكريم قاسم، حيث طلب منه ان يكون سفيراً في المجر، غير انه رفض المنصب، مفضلا البقاء في العراق وعمله في تحرير صحيفته "الانسانية".
بعد انقلاب 8 شباط المشؤوم عام 1963 ومجئ البعثيين الى سدة الحكم، تم اعتقاله مجدداً. وبعد اطلاق سراحه غادر السماوي العراق العام 1964، وكانت رحلته هذه المرة الى جمهورية المانيا الديمقراطية، وهي الثانية في قطار المنفى، ولم يعد الى الوطن حتى العام 1973 على اثر اعلان الجبهة الوطنية بين حزب البعث، "الذي جاء الى الحكم ثانية في العام 1968" والحزب الشيوعي. لكن مكوثه في الوطن لم يدم طويلا، كما هو عمر الجبهة، حيث بدأ البعثيون بحملة دموية شرسة ضد حلفائهم الشيوعيين، وكل قوى اليسار والديمقراطية، فرحل الى الصين ومنها الى المنافي الأُخر، يتنقل بين بلدانها، حتى رحيله الابدي في ستوكهولم 2010.
كان السماوي كاظم، شاعرا كبيراً في مقدرته البلاغية واتقان أدواته الشعرية ومضامين قصائده الانسانية. شاعراً التزم قضايا الانسان وتحرره بإصرار عنيد.
هل تغيرت وظيفة الشعر لدى كاظم السماوي؟
- "الشعر الذي اكتبه تثويري، اذ كنت متاثراً بحركات التحرر التي اجتاحت مناطق كثيرة في العالم، حيث القت انتفاضات الشعوب من اجل التحرر على الشعر مهمة أخرى، وهي التثوير او الشعر الثوري المناصر للافكار التحررية. انا من هذه المدرسة، منذ ان اصدرت ديواني الاول في العام 1950 واسميته "أغاني القافلة" وحتى ديواني الأخير، لم يتغير نهجي الشعري. فلم تكن تشغلني الأحداث الذاتية، بل كانت ومازالت نزعتي هي الحرية. فالشعر الغزلي وشعر الحب، يأتي بعد ان يتحرر الانسان من الذل والعبودية. فطالما الانسان مستعبد وغير حر، لم يستسغ طعم الغزل او حتى الالتفات الى الافكار الذاتية". قال السماوي مسترسلا بالحديث، من انه لا ينتمي الى اية مدرسة شعرية من تلك المدارس السائدة التي تمثل بها بعض مجايليه من الشعراء وغيرهم ممن تأثروا بالمدارس الغربية، كالسريالية، مثلا:
- "شعري يمتاز بالوضوح والتعبير عن ارادة الجماهير. وهذا يشمل جميع دواويني. فأنا اطالب، على الدوام، بأن يكون الشاعر او الفنان واضحاً في نتاجاته ازاء الناس".
كان السماوي قد أصدر مجموعات شعرية عديدة، جُمعت في كتاب "المجموعة الكاملة" التي صدرت العام 1994 وهي الى جانب "اغاني القافلة" في العام 1950، "ملحمة الحرب والسلم، الى الامام أبدا"، فصول الريح، رحيل الغريب، قصائد للرصاص قصائد للمطر، رياح هانوي والى اللقاء في منفى آخر"، التي صدرت في العام 1993
وضوح قصائده وانسنتها أمر يتفق عليه المتابعون لشعر السماوي مؤكدين بأن جل قصائده وهبها للانسانية ولغدها المشرق، حيث اطلق عليه الشاعر اللبناني محمد شرارة لقب "شاعر الانسانية". وعلى الرغم من ان هناك من لا تتوافق أفكاره الايديووجية وآراؤه السياسية معه، أو بعض مواقفه في سياق أو آخر، الا ان ثمة شبه اجماع على ان السماوي، الانسان الذي توحد في داخله الشاعر، بما يملكه من قدرة التعبير عن مكنونات الاحساس بفيض من العاطفة الجياشةٍ، والمناضل الاممي الذي وهب شعره وحياته من اجل الانسان وعزته وكرامته، في كل مكان في العالم، فتحمل جراء ذلك السجون والمعتقلات والتشرد والمنافي، وفقدان الاحبة. يعد من الشخصيات التي غبن حقها في الحصول على المكانة التي تستحقها، على الاقل، في مدونة الذاكرة الأدبية والنضالية العراقية.
لكنه ما كان يأبه حيث انه آثر البقاء بعيدا عن الأضواء وهو في قمة عطائه الشعري، ذلك لأنه كما قال بأنه ليس شاعراً ذاتيا كي يسعى إلى الشهرة:
- "ان جل طموحي هو ان اعبّر فقط عن آمال الشعب".
كان السماوي وبخلاف النظرة التي ترى علاقة السياسي بالمثقف، غير متوازنة، وكثيرا ما يشوبها التوجس من أن يحاول السياسي الاستحواذ على المثقف وتسخيره لأهدافه السياسية، كان هو يرى عكس ذلك، فأن ما بينهما هو ترابط عضوي.
- " هناك من يسعى في هذه المرحلة الى الفصل بين المثقف والسياسي. لو اردنا تعريف السياسة ماهي؟ السياسة تسعى الى الحرية، الى الابداع، الى الطموح الانساني. وانا ارى ان السياسة والفكر متلازمان. واذا لم يعبّر الفكر عن طموح انساني سياسي ، او ، كما يصفه الاخرون، فهذا يعتبر فكراً مهوماً، ذاتيا ومتقوقعاً. السياسة تعني الانسان، في ثقافته وتحرره، وحريته ونزوعه الفكري والحضاري. بالنسبة لي ليس هناك فكر بعيد عن السياسة او سياسة بعيدة عن الفكر. ليس هنالك تجريد بين المعنيين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القيت في الامسية التي اقامها اتحاد الكتاب العراقيين في السويد، في استذكار الشاعر كاظم السماوي. ستوكهولم 26-03-2016