- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 23 أيار 2016 20:08

يتخذ التجييل نسقاً في فضاء الثقافة العراقية وفنونها من الشعر والسرد والتشكيل. اذ يلحق بكل جيل "والمفهوم مفترضاً أحيانا" سمات عدة تتحدد بها أشكال وبنى وصياغات برتوكولية التلقي.
وفي فضاء المسرح ثمة مسميات يجترحها النقد أو الدرس الأكاديمي العراقي أحياناً بنعوت مثل "الرواد, وما بعد الرواد, وجيل الوسط .."، وأجيال عقدية لاحقة, ويجيل الفنان العراقي الراحل قاسم محمد في اطار جيل الستينات في نتاجه المسرحي الموزع في مجمله على الإعداد والاقتباس لنصوص "شعرية, سردية, صوفية, تاريخية, وثائقية" ما يسوغ مهيمنات صوتية ورقع صورية داخل منظومة العرض, فكان لـ "قاسم محمد" اسلوبه في الاداء المتناص والمستدعي للنصوص التراثية الذي جهد فيه الى عدوى التأصيل والتتريث الذي شهدته ذائقة العقود الستينية والسبعينية في المسرح العربي عموماً ويتأسس على ادراج النص بكل ادبيته وباختلاف موارده التجنيسية التواكل على الملفوظ وغلبته في تشكيل خطاب العرض ما يبرر لـقاسم محمد ايلاء الاداء التمثيلي طليعية ادائية في الفضاء المسرحي. وهي لحظة تاريخية لها تأميمها في عروض قاسم محمد ونمذجته وفهمه وظائف العلامات المسرحية.
وتأتي قراءة قاسم محمد مغامرة فنية وفكرية وذوقية. اذا ما ذهبت القراءة الى اجاده ومرونة في تبعيث نصه، ذلك ان النص لديه نص يخصه هو. فمن المشاع ان نصوصه لم يشتبك بها احداً من المخرجين الا ما ندر "محسن العزاوي مثالاً".
وأتت قراءة المخرج غانم حميد نص "مكاشفات" مكبلة بمخيالية وريبتوارية صوتية لنص الراحل "قاسم"، ما يعني الاحتفاظ بكل ما سكه "قاسم" من أداء بنائي واتصالي وذوقي يخص مرحلة أو حقبة تاريخية بعينها. فليس لنا ان نعيد مسرحية "كان يا ما كان" مثلاً الا في برنامج الريبتوار حسب. فهي مقيدة بلحظة ذوقية ومفاهيمية تخص عقد السبعينات ان ما طرحه غانم حميد ريبتوار/ ونستولوجيا ثيماتية وبنائية يخص نسقاً مسرحياً ترسب في ذائقته وبطانة أناه المسرحي طوال عقود متلاحقة. ولعل غانم حميد اخفق في اختيار النص "القاسمي" رغم ما يمكن تبريره من ثيم مثل "الاستبداد" وطبائعه وسلوكياته لدى "الحجاج" وما يناظره من الحقب اللاحقة ذلك ان القراءة للقراءة تشترط الفطنة والعدة المفاهيمية وانصهار الآفاق المعرفية داخل فضاء العرض وتحوله من نسق إلى آخر. مقترحاً رؤية اختلافية لقراءة "قاسم". فنص "الحجاج" له مستويات من القراءة لدى قاسم محمد بيد ان قراءة "غانم" قراءة لقراءة وهي طرس لطرس دون انتاج يخص "غانم" لذاته.
ان المتلقي يشهد لطمس الرؤية المسرحية في لوح الأداء لـقاسم محمد من دون إضافة. الا في بعض مبثوثات الأداء السينوغرافي التي لم تسعف العرض في التحرر من مهيمنات قاسم محمد والطروس اللغوية والتراثية وكما سيتم التوقف قبالتها. والنص له تناصاته وطروحات المشهدية العربية في الستينات اثر إخفاق العرب في حرب حزيران / 1967 وانحلال تلك الهزيمة في فنون الآداب والفنون مستمرة لعقود طويلة واذا ما توافر مبرر نستدعيه في إشارة للروائي عبد الرحمن منيف بأن ما حدث في العراق بعد عام 2003 يناظر حرب الأيام الستة عام 1967 فان معالجات غانم حميد تظل في اطار السذاجة الفنية لتصل حد الهتافية في عرض لا يمكن ان يكون الا "تلفيقا" و"تنميطاً" و"تجيلياً" و"جهوزياً" فالفكرة قارة في ذات المتلقي عبر مسكوكة "الحَجّاج" ونظائره وتأخذ مسكوكة قاسم محمد أبعادها في انساق التأصيل والتأرخة المسرحية والذهاب الى التاريخ لينعكس ذلك الاداء الاخراجي وفقرة وانفراط الرؤية في عرض "مكاشفات"، فالمخرج غانم حميد لم يدرك كيفيات مسار العرض ليعتمد السرد الحواري والمجادلة الصوتية على مسار زمن العرض الذي تجاوز الساعة وربع الساعة فليس له الا ان يستسعف بمسكوكات/ كلائش صوتية في الجسد والصوت وجهوزية منمطة تمثلت في الفنانين "د. ميمون الخالدي, د. شذى سالم" في ادائهما الذي لا يتعدى مستويات الحِجاج الصوتي والنص الشعبوي والعلاقات الحركية التي تذهب الى مسكوكات معاشة، وهو ما عول عليه المخرج غانم حميد في محاولة لكسر الرتابة واللزوجة الإيقاعية واللجاجة الصوتية التي يستدعيها قاسم محمد من نسق الظاهرة الصوتية العربية في حينها الذائقي لديه وذلك ما اشاع استئناساً صوتياً لدى "ميمون/ شذى" ليسير التصويت والتنميط وفق مسكوكات حاضرة في خزانة الانساق العربية الثقافية عموماً ومكنونات الفنانين "ميمون الخالدي/ شذى سالم" الصوتية كونها نتاج جيل السبعينات المسرحية واعتداد تلك العروض بالنص والكلمة. حيث التوقير للقيم الصوتية وانحسار مديات واسعة للصورة المسرحية وتشكلاتها الجمالية. التي لم تجد لها أي حضور في متن خطاب "مكاشفات" ويظهر شبح الأداء الاخراجي بمسكونات أسلوبية للراحل قاسم محمد في ترقيق العرض بأداء شعبوي من "غناء/ رقص/ ألفاظ/ وأفعال" وصوتيات لا نجد لها مسوغ بنائي أو جمالي سوى اشغال المتلقي عن رقابة مسار العرض وانكشاف اللعبة المسرحية. لتدور تلك الشعبويات في تناشز ونمطيه الأداء ومثال ذلك من المسكوكات غناء المطرب الراحل "داخل حسن" والمطربة الغجرية "ريم" و"دويتو" و"حج الجذب" ومسكوكات الرادود الحسيني "باسم الكربلائي" وطقوس أدائه في عاشور والرقص او الردس الجنوبي وانماط غنائية من المحافظات الغربية وهي من سك الفنان قاسم محمد في نتاج السبعينات.
وينتهي العرض الى مسكوكة صورية/ صوتية أو خطبة لغوية "عصماء" وأخرى تسجيلية مستنزفة في مبثوثات المديات تمثل انتفاضة الشعب المصري التي يستعيدها المخرج وهو في معالجته الشأن العراقي. فليس هناك ما يبرر رفع يافطة "ارحل" للزعيم المصري الأسبق حسني مبارك، والعرض في مساره يؤثر صوب العراق ولعل المخرج في خشية ورفع صور الزعماء العراقيين بعد 2003 لأسباب موضوعية ومؤسساتية وإدارية معروفة وصور التظاهرات هي صور إشارية لا تجهد المتلقي في الإحالة الى انتفاضة الشعوب في ربيعها العربي.
ويظل الأداء التمثيلي من نمطية تشمل حركات الجسد والصوت والفعاليات الاتصالية اذ بدت أفعال الفنان ميمون الخالدي أبعد عن رشاقة ممثل محترف ورشاقته التي يبررها العرض في تنوع شخوصه ومسوغات أفعال الصعود والنزول من سلم "المنبر" بدت في توجس الخطأ وشتات التركيز والسيطرة وحافظ "الخالدي" بمسكوكاته بجدارة وجهوزيته الصوتية المألوفة في المهرجانات الشعرية والقصائد المتلفزة دون تكيف وخطاب العرض المسرحي.
وأتى أداء الفنانة شذى سالم في جهد حواري واتصالي أنست به في التنصيصات الشعبوية من الحركات والألفاظ المرتجلة تفعيلاً منها واستدراكاً لانفلات البنية الإيقاعية التي لازمت مسار العرض ما وفر فرصاً لترداد مقولة "بروك": مرحبا أيها الضجر.. ولم تتخلص "شذى" من مسكوكاتها التنميطية وعروضها السابقة في أفعال وحركات وألفاظ، ويظل الجسد لديها فعل تشاركي حيث هيمنة الصوت واللعب على مدونات لفظية ذات نتوء سمعي ناشز مثل "يعمي، التاتو / الوشم / الصوتي / الشخصي لـ "ميمون الخالدي" حسب ويسترجع الفنانان "ميمون/ شذى" أداء ممثلي الاغارقة في اختفائهما خلف قناع الشخصية عبر خامة الصوت دون الجسد.
ويظل للفنان فاضل عباس عنصر أدائي فاعل في كسر رتابة العرض وايقاعيته في أفعال الدخول والمغادرة ورشاقته الحركية والصوتية وأدواره المتلاحقة مدركاً شذرات تلك الرقائق المشهدية.
ولم تأت سينوغرافية الفنان علي السوداني بثمار الخلاص الإيقاعي والبصري اثر كثافة النص الأدبي ومبثوثاته الصوتية فكانت علامة "القطن" التي حشدت حضورها في فضاء المسرح دون فعالية. فكانت دلالاتها مستنزفة بعد حين من افتتاح الستارة باستثناء ضربات السوط لدى شخصية "الحجاج" وجاء اعتماد الأعمدة القماشية البيضاء في حالات ومسكوكات بصرية لكثير من العروض العراقية منها والعربية. ويظل مدرج الكرسي/ المنبر في تشكله دون امتياز سيميائي فهو منصة للتباري بين "الحجاج" و"عائشة"، وكانت مشهدية دوران المسرح في اقصى درجات السذاجة والعشوائية والمجانية وحدود التوقف والرتابة لدى المتلقي وفعل طارئ لتفعيل درجات الايقاع.
ويطوف العرض بشتات الرؤية وتوفيقيتها بفعل الإلزام الاخراجي لأنماط قاسم محمد التي تتجول هي الأخرى في نصوص تراثية وتاريخية وانثرولوجية. فاذا ما كان لـقاسم محمد ان يفتح أفقاً في لحظته التاريخية/ الإخراجية, فان محاكاة المحاكاة التي شرح بها غانم حميد تؤكد بعداً افلاطونياً في الانحراف من الفكرة الأصل/ المثال/ التتريث لدى قاسم محمد، وذلك ما بات موضوع تقيد المخرج بسقف أدائي حيث ألزم المخرج ذاته باداءات تقليدية ، مسوغات توظيفها لدى قاسم محمد آنذاك الاخراجي والمزاجي. الا انها تظل ذات منحى متحفي/ في عرض "مكاشفات" للفاصلة الذوقية بينها وبين ذائقة الجمهور الحاضر أو الجديد ومنها محاولات كسر الايهام استدراكا منه أي المخرج نقل تفاعل مع الجمهور وفق مكونات ملحمية مشاعة ومستنفذة وهو ما لم تصل اليه رؤية المخرج فالعدة الملحمية لها استراتيجيتها في البناء والتواصل وردود فعل الجمهور الا ان تلك الرؤية لم يتح لها رواشح ملحمية لبساطة وانعدام الرؤية المفاهيمية لمقولات "برخت" ذات التعريشة المعرفية. حيث اكتفى الممثلان بالتواصل مع الجمهور بالوسائط اللغوية ونعتها الجمهور بـ "أنتم" و"هم"، وهو ما لم يتحقق، فيما سعى العرض إلى التغريب الذي ظل لفظياً من دون معنى فضائي او صوري.
ان تشكل معمارية الحوار وتفاوت أطوال أبياته يعزى إلى تجريبية الشعر العربي الحديث ومستوياته الرمزية التي تخص القارئ للفضاء الورقي في فيزيقية الكتاب الورقي اكثر منه المتلقي أو المتفرج لحراك الفضاء المسرحي وتجادله السيميائي وتنوع الأداء العلاماتي من بصريات وسمعيات ومستويات تجريدية. فثمة مسافة أدائية واستقبالية وتواصلية بين الفضائين وذلك ما لم يفطن الية الشق النصي المختوم بانساق الشعر والشعرنة الراشحة ومخرجات الثقافة والعقل العربي فالنص له اركولوجية وتراكمية بدءاً من مرجعيات الإعداد لدى قاسم محمد، مثل مسرحية "مكاشفات" لـخالد محي الدين البرادعي ومسرحية "ابن جلا" لـ "محمود تيمور" ما يبرر حضور الشعرنة ومقولاتها في المسرح العربي وتراتبيته الجيلية "محمود تيمور البرادعي، قاسم محمد" وما رشح من قراءات وإعدادات وعروض لم تنته نحو "مكاشفات" غانم حميد، حيث نتيقن مضارعة الحاضر للماضي في تأكيد سلطة او سلطان الحكاية على مشهدية خطاب العرض المسرحي ونخلص إلى توكيدية تبعية والتزام النص المسرحي بخزانة التاريخ وعتبات البداية الفتية للمسرح العربي في الاعتماد على التاريخ بمعطياته القيمية. ان قراءة التاريخ وأحداثه تشترط وعياً معرفياً واسعاً في تثمير العلوم والآداب والفنون ونظريات التاريخ والمعرفة وهو ما افتقدت اليه مجمل النصوص التي شرعت في إنتاج النص وتجنيسه "تدريمه" لفضاء المسرح العربي الذي وقف على حواف الإدانة والهجاء الشخصية "الحجاج" ونظرائه من دون قراءة لسمات ومسوغات الاستبداد وأدوار "الرعية" في إنتاجه.
ويختم عرض "مكاشفات" انتاجه من المسكوكات في إشارة صريحة إلى نصوص اخراجية شهدتها فضاءات المسرح الوطني ولعل أقربها إلى الإشارة هو عرض المخرج كاظم النصار "أحلام كارتون" فيما يخص علامة الإشارة إلى وقت الرحلة والبوابة والمدينة في الميناء الجوي.
ونتيجة عدوى المسكوكات التي حملها عرض "مكاشفات" والإخفاق الإنشائي والرؤيوي نستذكر مسكوكة قيمية توازي مسار العرض مدونة في الدرس الاخراجي قبيل عقود سبعة حين يشير "ماريان جالاوي" إلى مستلزمات فطنة المخرج ومسؤوليته في اختيار النص المسرحي حين يدعو "إلى اختيار نص جدير بالعمل والمشاهدة حتى يمكنه ان يطالب عددا كبيرا من الناس بالمساهمة في طاقاتهم ووقتهم الذي لا يعوض من اجل تقديم مسرحية ومشاهدتها"!