- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 20 حزيران/يونيو 2016 17:51
المقدمة
اعتمدَ بعضُ النّقادِ العرب، والعراقيين خاصّة، في تصنيف الشعراء حسب الأجيال، فجعلوا الشعر الستيني، والسبعيني، والثمانيني.. كما هو حال الفنون الأخرى..وشاعرُنا موضوع البحث، أدرِجَ ضمن الجيل الثمانيني، وهو جيل المشاكسة، والتغريب،جيل متمرّد على القديم بكل صوره، وتبنى شاعرُنا وفق هذا التصنيف كلّ فنون التثوير والانقلاب ومعاكسة ما يقوى على نفيه بدءا من "لا تثريب عليك". ونهايةً الى غير منظورة. أسّس مع أقرانهِ لوناً من هذا المنحى الشعري في منتدى ذاع صيته في حينه "منتدى الإسكندرية الأدبي" أستقطبَ لهُ المتمردين، والثائرين على التقوقع وتقديس القديم، بل واستضافوا من بقية المحافظات منْ يُشاكلهم في الإتجاه والتوجه. سأدرسُ ديوانه الشعري الأخير إصداراً "انتظريني عند منحدرات الكلام"، الشاعر ركن الدين يونس.
المبحث الأول:
(أنا) الشاعر..
انمازَ الشاعرُ في ديوانهِ بذكر اسمه الصريح في مواقع عدّة في ثنايا ديوانه وبين نصوصه "ركن الدين يونس"، كما تضخّمت عنده (أنا) الشاعر في الديوان:
الدلالة اللغوية لـ (أنا): أول تعريف يتبادر إلى ذهن الباحث كون الـ " أنا " – كما قال النحويون – ضميراً منفصلاً يعبر عن المتكلم المفرد، ويقابل ضمير المخاطب المنفصل " أنتَ " للمذكر و " أنتِ " للمؤنث والغائب المنفصل " هو " للمذكر و"هي" للغائبة المؤنثة، ومما يلحظ على الدلالة اللغوية لـ "أنا" تعبيرها عن معنى الانفصال والفردية، ودلالتهما المجردة توحي بمعنى التميز في الصفات الجسمية والخلقية والفكرية عن الآخَرَيْنِ "أنت" و"هو" .
ومما يُستوحى من الدلالة اللغوية لـ "أنا" وله علاقة بفلسفة العربية في تعبيرها كونه ضميراً، وهو "فعيل" بمعنى "اسم مفعول"، فالضمير يشمل كل مضمر من دواخل النفس الإنسانية، وإنما يترجم عنه الإنسان بواسطة اللغة .
الـ "أنا" اصطلاحاً :
أما دلالة الـ "أنا" في الاصطلاح فقد بينها الفلاسفة وعلماء النفس وغيرهم من دارسي الأدب، ولم تبعد كثيراً عن الدلالة اللغوية، بل جاءت إعادة صياغة لها في معظم دلالتها، ولذلك فقد عرّفها بعضهم بقوله: إنَّ "أنا" يعني الشخص المتكلم المفرد المقصود لذاته، وتقابل الآخر، ومنهم من رأى فيها استعمال ضمير المتكلم للتعبير عن الهوية والذات التي تتراءى للآخرين قبل ظهورها للفرد، وعند دخوله في عالم العلاقات الإنسانية بوصفه فرداً له خصائصه الجسدية والنفسية المميزة له عن بقية أفراد جنسه من بني الإنسان، ولذلك فقد ذهب آخرون إلى أنَّ الـ " أنا " تساوي النفس المفكرة، والتفكير عملية نفسية بحتة ومعقدة، وإنما نلمس آثارها في الصياغات اللغوية، وترتبط الـ "أنا" بعملية التفكير لكونها مجموعة من العمليات تشمل الإدراك والتفكير والتذكر، وهي مسؤولة عن إبداع العمل الفني، وإبرازه إلى الوجود استجابة للبواعث الداخلية أولاً، والخارجية ثانياً، والتي تؤدي دور المؤثر في نفسية المبدع.
وثمة نوع من الارتباط بين الـ "أنا" و"الذات"، فقد عرفت الأخيرة بكونها مجموعة من الآراء والمعتقدات التي يكونها الفرد ليُعبر بها عن هويته من خلال البيئة التي يعيش فيها، ولما كانت تلك الآراء والمعتقدات مصدرها الفرد فإنه من البدهي اتصافها بالنسبية، إذ إنها تعطى صاحبها تصوراً خاصاً لذاته وإمكاناته وسماته ومجمل فاعلية شخصيته، ولذلك فقد عرف بعض الفلاسفة الـ "أنا" بمجموعة الأحاسيس التي يشعر بها الإنسان والتي تذكره بها ذاكرته لتدفعه إلى القيام بما يحقق ذاته .
وفي مجال التعبير الأدبي تأخذ هذه القضية بعداً أساسياً، إذ إنَّ من النقاد من أرجع فضيلة الأدب إلى " كونه معبراً عن الذات، وأنَّه يمثل مع التجربة كلاً متماسكاً يكاد يكون فيه الأسلوب بصمةً لصاحبه، حتى انه ليتعذر علينا الفصل بينهما، بل إنَّ الأسلوب قد يكتسب قوته من طبيعة الشخصية التي استخدمته " وربما أكسبت قوة شخصية الأديب التعبير الأدبي قوة ليست متوافرة عند استعمال غيره لها، وهذا يعود إلى جملة من العوامل، من أهمها السياق ونمط النص " وكم من عبارات كان لها أثرها في النفوس لم تكن لتحدث هذا الأثر لو لم تصدر عن شخصية بذاتها، وان الأديب ذا الشخصية القوية المؤثرة يخلق للكلمة باستخدامه إياها مجالاً واسعاً، ولا يلبث الكثيرون أنْ يجدوا أنفسهم واقعين في إسارها، فمن حيوية الشخصية وقوتها تستمد الكلمة حيويتها، وهي بهذه الحيوية والقوة تؤثر في الآخرين، وتفرض نفسها عليهم "، واستنادا إلى ذلك فأن دراسة النص الأدبي من خلال ربطه بنفسية منشئه التي يعنى بها المنهج النفسي في نقد الأدب وتحليله يمثل احد المناهج في التحليل الأسلوبي، وإلا فهناك من الأسلوبيين من عقد مناط اهتمامه في دراسة النص على الأسلوب بمعزل عن صاحبه، كما وجدنا عند "ستاندال" في الأسلوبية البنيوية.
(أنا) الشاعر في الديوان:
ماذا ترتجي من شاعر متمرد، يثورُ على كلّ شيء حوله، إذ يحسّ أن كل شارع ليس شارعاً وليس كل حانةٍ حانة، وليس كل صوتٍ فيروز..؟ شاعرٌ يعيش التخييل والتغريب في دقائق حياته، يجدُ حالهُ في حراكٍ دائم بين سطورٍ وصورٍ تفلتُ منه أغلب الأحيان مع أوّل نعاس، أو مع أوّل خيط للفجر. شاعرٌ جاءَ في زمن التقديس لكل أصولي، أرادَ أن ينحتَ أسلوبه الجديد على صخر عناده.
لم تكن (أنا) ركن الدين، ذات (أنا) المتنبي، نعم لم تكن ذاتها ولو كانت كذلك لكان أعادَ القديم ولم يأت بالجدّة أو الحداثة التي يدّعيها ويثابرُ في سبيلها، أنا الشاعر هي الذاتُ النقيّة فيه وفي (الآخر)، أنا التي لا تلغي الآخر المتحفز نحو هدم كل بالٍ ورثٍ لايصلح أن يدوم مع التقنات الحديثة وماوصلت اليه علوم الأرض التي حطّمت نظريات كبيرة توارثها العِلم والعالم لقرون طويلة، فتبدّلت المعالم والمناظر، فلم تعُد الطبيعة هي التي تتحكم بقدر ما استطاع الإنسان أن يغيّر ويطوّر ويفني ويستحدث.
المبحث الثاني:
ماذا يعني الشعر لدى الشاعر؟ ما مفهوم الشعر؟ لقد حدّد النقّادُ العرب قديماً وحديثاً مفهوم الشعر كلاً وفق عصره، وما هو منهج ورسالة القصيدة أو الشاعر؟ والآن يأتينا الشاعر ركن الدين ليجعل في ديوانه مفهوماً للشعر حيث يؤكدُ أن الشعر الشعر هو "قصيدة النثر" هي الشعر المعبر عن احساسه، وأنه يتجاوز بحور الشعر العربي، ليطلق تخييله من قيود كل مقيدات العمود الشعري أو شعر التفعيلة، فهو الداعية الأول لقصيدة النثر "أنا أوّلُ منْ جُنّ بك/ وكتبَ قصيدة نثر.."، كما أنهُ يكتب ألوان الشعر في النثر منه الغزل وقصائد للوطن.
أنه يكسرُ قيود البحر والوزن، بل يكسرُ قيود اللغة لينحتَ لغةً جديدةً تشير اليه وحده.
ثانياً – دلالة الوطن في الديوان:
تغنّى الشعراءُ في مختلف الدهور والعصور بالمطر، ولكل طريقه ومنحاه وأسلوبه، وهذه المرّة نقرأ "المطر" صورةً جديدةً مبتكرة في هذه النصوص، فمرةً تكون دلالة المطر تعبيرا عن وحدة وطن بين معبد ننماخ وسهل نينوى، إذن هو سبيل لهذه الوحدة المنشودة التي تتحدى التمزيق والتفرقة بمختلف صورها وأشكالها. ومرة اخرى تكون دلالته بما يشابه أمزجة الناس يحمل التطرف فيتحول الى أعاصير. وتتحول صورة المطر الى دلالة التنقيب حيث يبحث عن الآثار المسروقة!؟ وهكذا تتلون صورة ودلالة المطر حسب الموضوع، وما يمكن أن توظّفَ فيه دلالة المطر بألوانه وصبغاته ومعانيه ورسائله المتنوعة المتعددة.
المبحث الثالث:
جان دمو، أيقونة الشاعر:
ونحنُ نقرأ ونتصفح الديوان، نجد أن جان دمو قد أرخى ظلاله على صفحاته وبين سطوره، بل وفي ثنايا الصور، الأيقونة "جان دمو" يعرفهُ العراقيون، ويشكّلُ لدى الناقد والمتلقي العراقي كونه ظاهرة حياتية أكبر مما هي شعرية،فهو من المتمردين والمشاكسين بل هو صعلوك من الدرجة الأولى، وتذكرني هذه الظاهرة الفريدة، بظاهرة الشاعر الكبير عبد الأمير الحصيري، المتمرد والمجدّد والصعلوك.
الشاعر جان دمو كما هو معروف لدى الجميع من جماعة كركوك "سركون بولص، فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، يوسف الحيدري، صلاح فائق، جليل القيسي"، بل أنه الظلال الوارفة في أماكن مقدسة شعرياً لولا أن نكهته لم تكتمل شعريتها في مقهى حسن عجمي،وفي ثنايا شوارع بغداد وأزقتها، بل يتجلبب فيه عطر الحانات وأغاني السكارى على أرصفةٍ كانت منابر تصدح وتغرد فيها حناجر تعصف بالتجديد. من "أسماله" تتعرف عليه، يمطر شعراً وصوراً غير مقروءة، من قبل، يحوّر رطانة اللغة ليبتكرَ لغةً بموسيقى أجمل وبرموز أذكى من أسئلة السلطة. رجلٌ لم يصمت، بل دوّن مفردات حياته وتنقله بين كركوك وبغداد والموصل، بل يذكر بفنتازيا متفردة كل مايقع عليه بصره. وباختصار يشكّل المنجز الثقافي لهذا الشاعر ظاهرة فريدة ومهمة تستدعي من المؤسسة الثقافية الوقوف عندها وأن تعطي لهذا المبدع حقوقه بعد وفاته!
الخاتمة:
مما قرأناهُ، وسمعناهُ في "انتظريني عند منحدرات الكلام"، يحثّ الشاعرُ خطاهُ، وصوره وتشظي مأساته، فتجد الديوان يسع أكبر من حجمه وأكبر من صفحاته، فمنْ يقرأ بياض الديوان سيكتشف زفراته ولواعجه وجنونه تنثال عليك شلالاً من الحزن الممتزج بابتسامة سخرية، شاعرٌ وظّفَ خاطرهُ وقلمهُ في سبيل قضية، جعلها رسائل يبرقها مع بريد العشّاق.. وكذلك يمكن أن تقرأ فكر بلدان الشرق في الديوان. وكذلك الصور المتعاكسة والمتنافية. شكراً للشاعر الذي أمتعنا وأشعلَ شمعة في هذا الفضاء المظلم!