ادب وفن

«رقصة على استحياء» .. المساخرة والمفارقة / جمال نوري

يقول ياسين النصير وهو يتحدث عن التجارب الشعرية الحديثة: نحن بحاجة ماسة في هذه المرحلة الى السخرية , حتى من الذات, لأن ما يجري لا تستوعبه المصطلحات القديمة للكتابة والرسم والموسيقى واللطم. فالسخرية هي الفن الأكثر شعبية الذي يلائم سياقات المفارقة التي ترسمها حياتنا السياسية والثقافية والأخلاقية, وعن طريق السخرية والتهكم يمكننا أن نؤسس لـ "دعوة صريحة لاستيقاظ الوعي وتنبهنا الى ما نعيش فيه".
ويسترسل النصير محددا السخرية كأحد أهم وجوه الحداثة اذ يقول "تعد السخرية اليوم أحد أهم وجوه الحداثة التي ترى الأشياء على أوجهها المتقلبة حين يخفي الظاهر منها عشرات المواقف التي تختبئ تحت هذه البيرية او تلك الأقنعة, لذا فشيوع ظاهرة السخرية في الثقافة العراقية دليل عافية, وعلينا تطوير أدواتها, وعلى المثقف ان يعي تماما ان له دورا مهما في كشف الأستار التي تغطي وجوه ممثليه الواقعيين. فالتهكم والسخرية سلاحان ثقافيان , وان اختلفا بالدلالة فهما يحتكمان معا الى وجود مرحلة معقدة من تحولات الواقع العراقي الدراماتيكية".
ويرى النصير ايضا ان شكل القصيدة يستجيب لدواعي السخرية اذ "لا يولد فن السخرية نصوصا طويلة , وانما ينشئ المقطعية كطريقة سريعة وبليغة للقول المكثف , من يريد ان يوصل حكمته يقولها بأقل الكلام"..
ويذهب حاتم الصكر واصفا بناء القصيدة الساخرة الى القول: "يقوم بناؤها على تقديم الموضوعات الواضحة في تناول ساخر, يعلن النكتة بمستويين لفظي يستلها من معناها القاموسي او المتداول ليضعها في سياق جديد يولد السخرية , وتركيبي ينزاح من صورة او عبارة ليصنع الموقف نفسه".
في مجموعة الشاعر الشاب ايهم محمود العباد يشتغل الشاعر على اجتراح السخرية والمفارقة في تحد خاص وتعامل استثنائي مع اللغة التي تغادر منبريتها وطرق البوح المألوفة لتدشن ضرورة ان يكون شعرنا ساخرا , ومتهكما , ومريرا ,وكاريكتوريا حيث يرتفع اداء المفارقة لكي تصبح القصيدة بكل محمولاتها اداة سخرية من الواقع والنسق المتواتر بكل جموده, ويستهل الشاعرفي عتبة العنوان مفارقة أن يكون الرقص على استحياء مع انه وسيلة معروفة للأفصاح والحركة المتوثبة وقد يبدو اختيار الشاعر حسب الناقد الدكتور احمد الظفيري انها رقصة "على استحياء ستتبعها رقصات اخرى تكون اقل حياء" ولعل ما يشغل الشاعر في مدونته الشعرية هذه هي روح التهكم التي يستهل بها عتبة التصدير الأولى للشاعر فريدريكو غارسيا لوركا أذ يقول "أكثر الأفراح حزنا.. أن تكون شاعرا" ولا يتوقف هنا ليفصح عن مكنونات المفارقة التي تبدو حسب اوجست شليجل "المفارقة شكل من النقيضة"، أو قد يتفق مع ما يذهب اليه صموئيل جونسون "طريقة من طرائق التعبير يكون المعنى فيها مناقضا او مضادا للكلمات"، وفي التصدير الثاني يختار الشاعر عن وعي ودراية مقصودة ما قاله الشاعر جاك بريفير:
كلنا سنموت
الملك والحمار وأنا
الملك سيموت من الضجر
والحمار من التعب
وسأموت أنا من الحب..
ويفصح قرينه في قصيدة "انتحال" عن أسئلته الجدلية القائمة على محاورة الواقع والنص فيتمثل له كائن ظريف جدا يسر في اذنه "أذن الشاعر" قائلا :
حزنك يشبهني
فمن انت ؟
ويرى شليجل "اننا لن نصل إلى المفارقة الا بعد ان تكون الأحداث والحياة بأسرها مدركة وقابلة للتمثل بوصفها لعبة وحشدا من المتناقضات اذ تكون المفارقة ليست هي الصراع بين تلك المتناقضات فحسب , بل هي الوعي الشديد بالتناقض القائم داخل الذات وخارجها".
ويعلن الشاعر مستهلا قصيدته "مطلع يرفض الخاتمة" التي تبدو قصدية المفارقة واضحة في عتبة عنوانها ..
الطيور
تبتكر سماءها في أبريل
الحرب
آلة رمادية ..
الأعشاش
مواقد مطفأة.
جثة طازجة في تايتل الجريدة
جثة متفسخة في خزانتي القديمة ..
جثة ملونة على حبل الغسيل ..
وفي هذه القصيدة هنالك وعي متفرد ومخاطبة فجائعية لواقع أصبح أكثر خرابا وفسادا من "الجثث المتفسخة في خزائني القديمة" ولينسحب بعد ذلك هذا الخراب الى الواقع والمستقبل بشيفرات يتقن الشاعر اضرامها وتوجيهها ..
واذا كان الدكتور فرج ياسين ينظر الى تجربة الشاعر ايهم محمود العباد باعتبارها محاولة "تقترح شعريتها عبر الاقتراب من الحياة اليومية ومعايشة الأماكن الحميمة والوجوه والعلامات المشفرة وبتقانات السرد والمفارقة والسخرية والفرائدية والتناص والتشكيل المنفتح على فضاءات تجريبية لافتة" فإن الطاقة التهكمية تبلغ ذروتها في قصيدة رواية موضوعة اذ يقول فيها
إذا ما ارتعشت أطرافك
وأنت تقص على احفادك
أخبار الطغاة ......
فإن بسطوا أيديهم إليك
لتبايعهم.......
فأضمم يدك إلى قلبك
ولاتشاركهم ما أخطأوا ..
في حق البلاد..
ويخاطب الشاعر والده ناصحا أياه بلغته السلسة ان يبتعد عن قراءة التأريخ الملغوم بالدكتاتوريات ..
أبي
لا تقرأ التأريخ
أكثر من هذا الحد
أخاف عليك
من دكتاتوريتهم المزمنة..
وفي قصيدة أيقونة على صدر الوطن يناجي الشاعر وطنه ويتحدث عن البعاد والغياب والجراح الى ان يقول مناشدا وطنه بكل ما لدى الشاعر من لوعة واشتياق
سألتك ألا تموت
كي لا اموت وحيدا
أمام عرينك ..
وتتفاعل السخرية في قصيدة "العالم اون لاين" مع الموصوفات المتتالية للرؤساء بحيث تصبح السخرية هدفا واعلانا عن احتجاج الشاعر وكما يرى ماكسي بيريوم بأن المفارقة "هي احداث ابلغ الأثر بأقل الوسائل تبذيرا" والشاعر لا يبذر هنا كثيرا في مفرداته فهو يذكر لنا احداثا متعاقبة عن رؤساء يرمون قبعاتهم ساخرين من ميثاق حقوق الإنسان وآخرون يفتحون ازرارهم ليفكوا طلاسم شيفرة الموناليزا ..
رئيس يرمي قبعته ليقرأ ميثاق حقوق الإنسان
رئيس يفتح أزراره ليفك شيفرة الموناليزا
رئيس يدفن رأسه في مؤخرة ابي الهول
رئيس يفترش صدر نيكول كيدمان
وفي قصيدة تخويل تبلغ مستوى السخرية حافات اليأس والقنوط حين يناجي الشاعر قائلا:
أيها السادة
ماذا تبقى
بعد ان اشعلتم اعماقنا الآسنة
ما دام دمنا لا يساوي
برميل نفط واحد
فامسحوا أحذيتكم ببكائنا
وأنصرفوا...
الى ان يستدرك الشاعر في قصيدة "أسماء وإشارات"
واصفا بلاده :
هذه بلاد
يكسوها العجز الوطني..
وقد لايتسع هذا المقترب لمقاربة مواطن السخرية والمفارقة التي تحتشد بها المجموعة الشعرية "رقصة على استحياء" ولكنها تستجيب لمعطيات القصيدة الحديثة في سعيها الدؤوب لانتقاد الواقع والتهكم من متغيراته وتحولاته العجائبية وربما اراد الشاعر برقصته الخجولة ان ينضم الى بقية الشعراء الذين أبوا إلا ان يقولوا كلمتهم وان لايسكتوا وليتجنب معهم ماقاله بروتولت بريشت
"لن يقولوا كانت الأزمنة رديئة, بل سيقولون: لماذا سكت الشعراء".