ادب وفن

عن «ظاهرة الغربة والحنين» في الشعر العربي / د. فيصل المقدادي

ان التأليف الأدبي شعرا كان أو قصة أو مسرحية أو نقداً. هي القابلية الفذة من الرجوع المتلقي الى حيث طفولته. الى ألعابه في بيته والطبيعة وتسبر أغوار المؤلفات الابداعية المميزة لكبار المؤلفين، يتحدث عنها بعد تحليلها والاحساس بها، خاصة تلك المتضمنة للأحداث والمشاهد المعبر عنها بلغة شعرية بوضوح عن الشعور باللذة الممتعة أولا والقلق والخوف من مجهول في آن واحد، مع تنفس الهواء النقي بحرية ومرونة. وحين نقرأها تدفعنا إلى الاحساس العميق، بل ودعوتنا إلى الخوف أيضا على مصائرنا نحن البشر، في كوننا أيضا محاصرون وعلى الدوام ضمن أسوار بيوتنا ومدننا وحدود بلداننا العالية جدا، وقد تنتهي قراءتنا للأثر الادبي: قصص أو نقد أو شعر أو مسرحية، بهدوء وسلام، ولكننا في حقيقة الأمر نبقى ملازمين للحالة الدرامية وتبقى هي أيضا ملازمة لنا.. خاصة مع اليقين بأن انساننا يولد حراً، لكنه يستمر مستعبداً ميتاً رغم ان الأسماء مثبتة في لائحة الاحياء.
ان الكتابة عن "ظاهرة الغربة والحنين في الشعر العربي"، للكاتب د. صبيح الجابر انما تنطلق أولاً، من ان مفهوم ".. الغربة أو الاغتراب هما ذلك الاحساس أو الشعور الذي يتولد في وعي الانسان ويتسبب في ولادة الألم الداخلي والقلق المضني واعاقة التفكير وتعكير المزاج النفسي الذي يولد شعورا بغربة كل شيء، وكل ما يجري حوله والشعور بالوحدانية والضعف والانعزال والتهميش".
وحول هذا يذكر ابو الفرج الاصفهاني:
رحم الله من دعا لغريب مدنف قد جفاه كل حبيب
ورماه الزمان من كل قطر فهو لا شك ميت عن قريب
وعلق ابو حيان التوحيدي على هذا: "أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وابعد البعداء من كان بعيدا عن محل قربه".
وقد جاء الاحساس هذا بقلم المؤلف معبرا عن تطور تكنيك في تخيله وتحليله للقدرة على استخدام التلقائية التي تستدعيها مخيلته الادبية والسياسية وتميزه بالخبرة التعليمية- الجامعية في القدرة على تنظيم تلك التلقائية الشعرية بانسيابية مركبة بين:
1- غربة الشعراء المشردين وحنينهم في العصر الجاهلي.
2- الغربة والحنين عند شعراء الدولة الاسلامية.
3- غربة المحدثين وحنينهم: البارودي، محمود درويش، وسميح القاسم والجواهري والبياتي وسعدي يوسف، وما يجمعهم مع ايلوار.
ولهذا فان المؤلف تمكن من نقلنا بابداعه حيث يشاء بين التلقائية: الواقعية والطبيعية، المتأسسة اصلا على مخزون تجربته الادبية - السياسية والصحفية العميقة مع اعطاء حيز معقول للصدفة لان تلعب دورها المهم والاساسي مع شيء من التعديلات التي تغني العمل بالطبيعية الواقعية المقنعة.
ان عملا ادبيا كهذا قد نجح إلى حد بعيد ضمن تجاربه من اثارة احساس عميق يختفي وراء كل ما هو شاعري وكل ما هو جمالي في حدودهما، انها بشاعة الخوف في مشهد حنين الغربة، طوعية ام قسرية مع التحولات الانسانية الى وحشية غريبة بالرغم من انه كان يمكن فهم الحقيقة الكامنة خلف كل اساليب التعبير الاخرى التي مر بها كل شاعر، مع القدرة على امكانية الاشارة الى رؤية الوحش في الغابة، وما يحيطنا من اخطار على القيم الانسانية في كل زمان ومكان وهذا ما يؤخذ به المؤلف في تبيان وتفسير تحولات بعض الشعراء، من الابيض إلى الاسود في حياتهم الابداعية ايضا والتنقل بين شروط الكلمة الشعرية والصورة في دلالاتها "المحدودة" في غربة التعبير الرمزي، كما عند نازك الملائكة مثلاً:
أين نعدو
وهو قد لف يديه
حول اكتاف المدينة
انه يعمل في بطء
وحزم وسكينة
ساكبا من شفتيه
قبلا طينية
غطت مراعينا الحزينة.
ان هذا بالطبع يشبه دور الفنان المسرحي التغريبي "البرختي" بالذات المتميز والمتمكن من خلق تغريب دوره وتحوله الى حياة فنية صادقة محفزة للتفكير، وليس مهما بعد ذلك ان يكون الممثل الفلاني متمكنا من الغناء أو الرقص أو المبارزة أو التمثيل الايمائي، ذلك لان الهم بالدرجة الرئيسة هو التمكن من خلق ومعايشة كل هذه العناصر مع الفعل النفسي في العمل الادباعي مثلا، مع اجراء المقارنات الضرورية مع اشباهه والتناقضات في الدلالة غير المحدودة، خاصة عند ايلوار او رامبو. وبذلك كان يمكن ان يغني باختلافه دراسة الموضوع وتكامله ويعمق أبعاده.