إذا ما اعتبرنا برخت رائداً للمسرح الملحمي، فأن بسكاتور وبيتر فايس يُعتبران رائدي المسرح الوثائقي الذي أخذ يشق طريقه بثبات في عالم المسرح، بغية سحب المشاهد من الأجواء التي كان يرتادها، تلك الأجواء التي ما كان غرضها (إلا إيجاد المتعة والترفيه للمشاهد البرجوازي الذي تناول لتوه وجبة عشاء دسمة).
لقد أصبح إشراك المشاهد في الأحداث السياسية والاجتماعية السائدة، ليس في بلد من البلدان فحسب، بل في العالم أجمع من أهم أعمال أو مهام المسرح الوثائقي، ومن هنا فأن التزام الكاتب بقضايا عصره صار ضرورة لا مفر منها، وصارت مسؤوليتهُ لا تقف عند حد، إذ أن غرض الكاتب هو الزام المشاهد بموقف معين يتصف بالصدق والصراحة والشفافية في المعلومات، وعلى هذا الأساس فأن المخرج أصبح سيد الموقف وهو العقل المدبِر والمهيمن، وأصبح البديل القوي والراجح لأن يكون بديلاً واقعياً عن المؤلف تفرضهُ الانتقائية للأعمال المسرحية، كما فرضتهُ التطورات التاريخية المصاحبة للحاجات الإنسانية على مختلف الأصعدة.
ان الحاجة لدور المخرج المبدع قد فرضتها ظروف موضوعية خارجية ومجموعة من التنظيرات والممارسات النقدية والتجربة العملية التي قادها منظرون في الحقل المسرحي مما أدى إلى خلخلة أسطورة الكاتب المسرحي لصالح المخرج ليصبح في نهاية المطاف فناناً مبدعاً أثرى التأريخ المسرحي بعددٍ من المحطات التي وقفت عليها مسيرة التأريخ المسرحي.
وفي خضم هذهِ المسيرة والتطورات التي حصلت على مختلف الأصعدة ومنها المسرح، برز مخرجون أفذاذ و(بسكاتور) أحد هؤلاء المخرجين الكبار والذي ترك بصمة واضحة في الحقل المسرحي، إذ وجد نفسه محاطاً بسلسلة معقدة من التطورات الفنية والإيديولوجية مما أضطره أن يدخل العملية الإخراجية متجاوزاً في معظم الأحايين إلى النصوص المسرحية المكتوبة، والأمر لا يتعلق بعدم وفرة النصوص التي تمتلك معالجات سياسية تتفق مع مراميه بل أن قيمة الإشكالية التي ولدتها ظروف العصر هي التي دفعته الى أن يُقدم نماذجه التطبيقية ليكون نصيراً لعصره بدلاً من فنه.
ارفن بسكاتور الذي وُلد عام 1893 والذي تتلمذ على يدي رينهارت وعمل في برلين من عام1919 إلى 1938 في المسرح الشعبي ثم مسرح بيسكاتور، أخرج عروضاً تسجيلية تشرح للمتفرج بالتعليق وعرض الأحداث الحقيقية الموازية للمسرحية الممثلة، أخرج (الجندي شفايك الشجاع) و(الحرب والسلام) أراد أن يستبدل المذهبين الطبيعي والتعبيري باستخدام كل الوسائل الفنية التي توضع تحت يده، ولقد عبر عن أفكاره في المسرح في سبيل تحقيق مسرح اجتماعي إيجابي.
لقد تميز بسكاتور بخلق دراسة تستحضر تجارب القرن العشرين مستخدماً تقنيات يوائم بها التطورات السياسية والاقتصادية، وقد أاتهم بأنهُ يمثل الدعاية الماركسية بشكل يُربك العمل الفني، وبعد أن غادر المسرح الشعبي استقل بعمله وأظهر قدرة على إدخال مادة جديدة إلى المسرح، فقد أدخل التجريب بحيث أصبح سمة واضحة في أعماله واستطاع أن يكتشف مصادر تقنيات جديدة تواكب الظروف المسرحية الحديثة، كما أنهُ وقف على قاعدة مهمة وهي وظيفة المسرح الاجتماعية فاستطاع ان يبحث عن مبادئ أساسية تتعلق بالفكر والفعل الإنساني في هذا العصر بشكلٍ فني وفلسفي.
أكد مسرح بيسكاتور على الموضوعية وطرح الحقيقة والوضوح وأصبح على صلة وثيقة مع الصحافة ومع مجريات وتفاصيل الحياة اليومية، كما وأنهُ أصبح لديه إيمان راسخ بأن صلة الفن بالحياة لا تستحق الاشتغال عليها إلا إذا كانت الحقائق ترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوعاتها، وعلى هذا الأساس عمد إلى إدخال التقارير الصحفية اليومية في نصه، فالإنتاج يتغير وفق هذهِ التغيرات اليومية، وعلى هذا الأساس فقد أصبح النص لدى بيسكاتور مادة مُوَثَقَة باعتبارها مادة مألوفة، وفي الوقت نفسه فهي تُعتبر متضادة جدلي، لأن الدلائل تحكمها.
ان الدليل الوثائق تنوع في مسرح بيسكاتور من استخدام اللافتات والكلمات المنعكسة على الشاشة وإلى التسجيلات الصورية والفوتوغرافية، وبكرات الصوت ومقاطع كلامية مقتبسة ومواقف تاريخية معروفة كل ذلك قلل من حجم الحوار المكتوب، وهذهِ البلاغة النقدية والذهنية التي يريدها موثقة فقدم الشاشة والسبورة، وتقلبات الأسعار في البورصة، (وبالجمع بين الفيلم السينمائي والممثل الحي أمل بيسكاتور أن يُظهر مشاكل وأوجاع الفرد في المجتمع وكأنها لصيقة بهِ بل ان مصيره يقترن بالبيئة السياسية والاجتماعية، وليس مدهشاً بعد هذا أن يرى بيسكاتور في المسرح التقليدي مكاناً غير ملائم لتوجهاته).
ان الاتجاه البصري قد اختزل الموضوعة الواسعة في أعماله فقد ركز هذا على الاتجاه البصري، إذ رأى في ذلك واقعاً مكثفاً يحمله الرمز وهي طريقة جيدة للحصول على مادة مختزلة، ومن خلال ذلك وصل إلى عملية تبسيط اللغة في طرحها للأفكار عن طريق وضع نماذجه ونصوصه على شكل إشارات في العرض المسرحي كما فعل في مسرحته (المناقشة الاقتصادية) حيث وضع صفحات الجرائد على جدران المسرح فقد كانت تُمثل المعادل الموضوعي الصوتي للمقاطع المكتوبة المطولة، وقصده في ذلك خفض مستوى هيمنة اللغة، فالفيلم الوثائقي الذي استعاره من أرشيف الدولة قد جاء لتوضيح الخلفية الفعلية للأحداث وللحصول على مصداقية الفعل، وبإمكان هذا الفيلم تحريك المتفرج بصورة أكثر فاعلية وتأثيراً من بقية وسائل العرض الأخرى.
من مسيرة بيسكاتور المسرحية فقد أخرج عدداً من المسرحيات منها:
- سلطان الظلام، تأليف: تولستوي.
- البراجوازيون الصغار، تأليف: مكسيم غوركي.
- تحت ضوء القمر الكاريبي، تأليف: يوجين اونيل.
- الملك لير، تأليف: شكسبير.
وأن يكن بيسكاتور قد أسس لهذا الشكل من أشكال العروض المسرحية، فأن بيترفايس قد رسخ هذا الأساس وجعل منهُ كياناً له خصوصيته، وُلد بيتر فايس في المانيا في مدينة نواوز قرب برلين عام1916 واضطر إلى الرحيل مع عائلته إلى لندن عند مجيء هتلر إلى الحكم ومن ثم هاجر إلى تشيكوسلوفاكيا آنذاك، ثم استقر بعدها في السويد، بدأ يتعلم الرسم والكتابة والتي أصبحت سائدة وبارزة أكثر من أعمالهِ الأخرى، كتب العديد من الأفلام التجريدية القصيرة. وقد أكد ذلك في إحدى مقابلاته على أنهُ كان رساماً سريالياً وان أفلامه الأولى كلها سيريالية وتجريدية وقصيرة في الوقت نفسه، كما وأنهُ انتقل إلى السينما الوثائقية التي أعتبرها نواة لما كتبه فيما بعد للمسرح، إذ أنهُ كتب العديد من المسرحيات، وقد اشتهرت مسرحيته المسماة (اضطهاد ومصرع مارا كما قام به نزلاء المصحة العقلية في شارنتون تحت إشراف المركيز دي صاد) أكثر من غيرها من المسرحيات كما كتب مسرحية (ليلة مع الضيوف)، وكتب فيما بعد مسرحية (التحقيق) وهي عبارة عن محاكمة للزيف البشري أمام أعين الجميع، شهود ومتهمون وقضاة بلا أسماء باستثناء المجرمين الأساسيين وأصحاب الشركات والاحتكارات التي كانت تمول هذهِ العملية الوحشية في سبيل وقف حركة التأريخ والرجوع بهِ إلى عهد البربرية.
ولم تكن مسرحيات بيترفايس تُعرض دون أن تُحدث ضجة وهذهِ سمة من السمات الظاهرة في كتاباته المسرحية. ففي أواخر عام 1966 قدم مسرحية (أنشودة غول لوزينا أوانجولا) التي أثارت في البرتغال ضجة كبيرة عند عرضها لأول مرة على (مسرح سكالا) بالسويد عام 1962. فقد وصفت وزارة الخارجية البرتغالية هذهِ المسرحية في تقرير رسمي لها بأنها مسرحية لا تعكس أي إحساس بالمسؤولية، كما هاجمتها الجريدة الرسمية في البرتغال.
هذهِ المسرحية التسجيلية قدمها بيترفايس في شكلٍ جديد يتصف بالجرأة والمباشرة والموضوعية والخشونة هذا الشكل الذي أسماه بـ (مسرح السوق السنوية) مستعملاً فيه إمكانات المسرح القديم من كورس وخيال ظل وأقنعة وأسلوب التمثيل الصامت، وناقلاً فيه السياسة بمشاكلها المعقدة واقتصادياتها الصعبة من المستوى العام ومن العادية الصحفية إلى مستوى الفن الخالص على خشبة المسرح.
وفي مثل هكذا أسلوب اشتغل عليه بيترفايس تحقق فيه التوازن بين جفاف المسرح التسجيلي بكل ما يعرفه من حقائق علمية وإحصائية وبين المعالجة الشعرية للواقع ورؤية العالم من خلال روح الشاعر الواعية في كلٍ شاملٍ ومتكامل. واستكمالاً للفائدة أرى من الضروري تثبيت أهم المؤشرات التي وردت في الموضوع.
أولاً: التأكيد على العناصر البصرية، المنظر، الإضاءة الحركية واستخدام وسائل وتقنيات جديدة بغية استقطاب المتلقي إلى المسرح.
ثانياً: اعتماد الخلفيات الاقتصادية والسياسية كمنطلق للفعل الدرامي من خلال الاستيعاب النظري للفكر الماركسي، واعتبار المسرح أداة مهمة تُطرح من خلاله الكثير من القضايا الحساسة وفي الوقت نفسه يؤدي وظيفة اجتماعية جليلة.
ثالثاً: الكشف عن العلاقة بين التأريخ وتوثيق الفعل بتفاصيله الحياتية من أجل خلق علاقة جدلية بين العرض المسرحي والجهود واستخدام طرق وأساليب مختلفة، كالخبر في الجريدة والفيلم، والتقارير الصحفية...الخ.
رابعاً: عدم الاعتماد على النص ومغادرته في بعض الأحيان واستبداله بمؤثرات بصرية، أفلام صامتة، صور منعكسة على شاشات كبيرة للحصول على مصداقية الفعل لتحريك المتفرج وتفعيل الموقف النقدي من خلال تكييف المسرح لمطابقته للبيئة.