ادب وفن

تقاطعات الكتابة الإبداعية مع الآيديولوجيا .. الشاعر والموقف / سيف سهيل

لماذا هذا التخصيص للشعر؟. سأقدّمُ سببين، الأول يتعلق بأنطولوجيته، والثاني يخصّ موضوع بحثنا هنا. فيما يتعلق بالسبب الأول، فربّما لأن الشعر يظل دائماً مهموماً بكثافة العبارة، بالمجاز، بالإستعارة، بالنغم، بالصورة، وبإنتقاء الكلمة (نخصّ بالكلام روائع الشعر) أكثر من أجناس الأدب الأخرى. الفكرة في الشعر للشاعر المهموم بالمعنى تجيء معجونة بعناصر أخرى، وتقدّم مكثفة للقارئ أو المستمع، الذي يحاول أن يجمع شتات تركيزه وهو يتشظى مع قصيدة عظيمة.
في الكتابات النثرية مثل الرواية والقصّة، تبقى شاعرية الكاتب حاضرة إلاّ أن الفرق يغدو واضحاً مع الشعر في حالة الترجمة: كما لو أن الخسارة التي تتعرض لها دلالات القصيدة في حالة نقلها إلى لغة أخرى تكون أفدح من تلك التي تضيع في الأعمال النثرية.
هناك نقطة ثانوية أيضاً، وهي أن التأثير المباشر، الذي يسببه إلقاء قصيدة، على جمهرة ما، يتعذر تحقيق مقابل له في حالة قراءة مقطع روائي أو قصصي، بل أن إلقاء مقطع روائي هو شيء أشبه بالكلام مع شخص أصمّ!: الشعر، وخاصة في المجتمعات التي لا زالت تجد المتعة في صوت الكلمة (phonetic)، هو نص للإستماع، أما الرواية فتظل أمراً غير ممكن دون القراءة.
زعمت بأن هذا الأمر نقطة ثانوية، لأن ما يهم في الشعر، هو ما نصرّ - نحن البلدان التي تسود فيها اللغة العربية -على إهماله، اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى: أقصد المعنى! وهو أمرٌ لا يتحقق التمعنّ فيه وتأويله إلا بأن يكون الشعر نصّاً مقروءاً.
اليوم، نحن أبعد عن أن نكون مكترثين بالمعنى، وبقيمة المعنى.. لا زلنا نركّز طاقاتنا على الإيقاع والنغمة، أو نوجّه كامل قدراتنا الذهنية نحو الصورة الشعرية (Image). هذه الأخيرة اليوم باتت تسحرنا، إلى درجة السخف!. فيما لا نعير تضمين النصوص مضامين عميقة، وهي مسألة لا يجب فصلها عن كلا العنصرين المتقدّمين.
عزوت كلمة ثانويّ لإنّ المشكل يخصّ البلدان المجبولة بالظاهرة العربية ويلحّ في طرحه على ساحتها.
نقاشنا هذا، يطرح ذات الإشكاليات التي غالباً ما طرحت في التنظيرات الأدبية مراراً وتكراراً، ولاسيّما في الأدب العالمي. أي وما دمنا نهتم بمحتوى الشعر (Content) و بمادة موضوعه (Subject-Matter) إذاً سيكون من المفترض علينا أن نتناول علاقة المعنى بموسيقى القصيدة، وعلاقة المعنى بالصورة، وهو ما إستغنينا عن الذهاب فيه، هنا، إلى حدٍّ بعيد، وبعبارة أوسع شمولاً، لقد حصرنا أنفسنا في نقاش المتقابلة التالية: معنى/مستوى فني، في العمل الأدبي.
يحدّد إيليوت وظيفة الشعر الإجتماعية إنطلاقاً من الآلية التي يؤثر بها الشعر على المتلقي والقارئ. لقد أعطى لهذه الآلية وزناً أنطولوجياً كأنطولوجية الشعر، ووصل بذلك إلى تبيان تأثير غير مباشر للشاعر على مجتمعه. إستبعد من تحليله لوظيفة الشعر الإجتماعية هذه، إقتصاره على موضوع بعينه: سياسي أو ديني أو علمي أو فلسفي و ركّز على مسؤولية الشاعر تجاه لغته، التي من خلالها يحدث تغييراً في مجتمعه. يحصر إيليوت هذا التغيير بضرورة وعي المجتمع باللغة التي يتكلم وبالثقافة التي عمودها الفقريّ هذه اللغة. في تحليل هذا الكاتب الكبير، يجد المرء شيئاً من الإرباك: فهو من جهة، يشير إلى أن تركيزه على دور العواطف والشعور الذي يضطلع بها الشعر، لا تفيد بعدم حاجة الشعر إلى معنى ومحتوى عقلي، بينما نجد جلّ تركيزه موجّه إلى حفظ وإستمرار ما يدعوه "اللغة الحيّة" (Living Language). تحليل إيليوت له دلالته التاريخية هو الآخر لقد كان معاصراً لصعود نجم الميول والتوجهات القومية في أوربا، فلا غرابة حينئذ حين نتلمس في حديثه حرصاً وحماسة مبطنة نحو الإرث الحضاري والثقافي وخشية من ضياعه. على الرغم من توقفه عند المستوى الثقافي، الذي يمثل به الشعر وجهاً وحيداً وجزئياً من وجوه وظيفته الإجتماعية، فإن حديثه عن التأثير غير المباشر للعاطفة والشعور يفتح مجالاً أرحب في التحليل عند إستبيان علاقتيهما بالمعنى. وعلى أية حال، نحن نرى، أن يصبح للشعر، وللعمل الإبداعي ككل، وظيفة، أي من الضروري أن يكون هناك معنى. وبالتالي أن يتخذ الفنان أو الشاعر موقفاً إزاء ما يدور حوله.
رأينا بأن الوظيفة تغيرت بتغير الظروف والأحداث والزمان، وإرتبطت، على السطح، بالموضوع، لذا فالموقف لا يخضع للتنميط. اليوم، وبشكل عام.. ما طبيعة هذا الموقف؟ ما هدف هذه الوظيفة؟ الإجابة تقع في التاريخ وخارجه! علينا أن نغادر التاريخ من حيث هو موضوعٌ، مادته البسيطة حدث؛ وأن نبقى داخله من حيث هو حركة: يجب علينا أن نكون تاريخيين الإنسان يصنع مسيرته. أي أنّ الإجابة عن تساؤلنا، تتضمن الإنتقال من التاريخ كدراسة وفهم إلى التاريخ كحركة وواقع جدلي.
نعتقد بضرورة تبلور الموقف عن وعي الأديب بمشكلات واقع مرحلته الراهنة، ومحاولة الإنتقال إلى واقع جديد أسمى. لذا فطبيعته العامة نقد، رؤيا، إدراك، وقلق بمشكلتي الحرية والمصير، أي بالدرجة الأرأس هي طبيعة إنسانية بلا ريب. وطبيعة الموقف هذه تسلّط الضوء على ماهية غائية الوظيفة الأدبيّة التي من المفترض أن يضعها الفنان نصب عينيه، وهي الإنسان ووجوده وما يتصل بهما من إشكاليات الحرية والمصير والرقي.
عندئذ، يتشاكه الموقف مع المسؤولية - مسؤولية تجاه المجتمع والعالم.ولأن الفن والأدب، وبخاصة الشعر، لا يعنى بأي تحليل منطقي أو تاريخي بل يتوجه مباشرةً إلى نظرة حق (أي يبتدئ من نتيجة)، زاعماً بتملّك الحقيقة وساعياً لتأبيد اللحظة، فهو غالباً ما يعبّر عن ما هو عابر بإشتراطات المطلق ويصغه بإملاءات الأزلي. حتى الشك يتحول من أداة معرفية داخل حقل الفلسفة المتسائلة إلى يقين أداتي داخل حقل الكتابة الأدبية. نلاحظ مثلاً، أنّ "قصص بورخيس تنطوي في النهاية على الإرتياب وااللايقين والتكرار والمتاهة كقيم ثابتة وليس كأشكال فنّية". وهكذا حين يكون الأديب مسؤولاً أمام المجتمع أو العالم فعليه أن يصغي مباشرةً إلى صوت الحقيقة الحق الذي إما أن يأتيه من المستقبل ويلغّم التاريخ بالمعنى، أو يهمس له عن طريق نظرته العميقة تجاه مأزق كيانه (من حيث هو إنسان) من بعيد، قادماً من نقطة قصيّة في مشاريع (غايات) الوجود. وسواء تلبّست هذه الحقيقة شكل حرية تاريخية أو أنطولوجية فإنها تجعل - الأديب - "الإنسان الذي هو محكوم بأن يكون حرّاً، يحمل على ظهره ثقل العالم بأكمله، إنه مسؤول عن العالم وعن نفسه". وفي الشكل الغائي للتاريخ الذي يتمحور حول حقيقة إنسانية معينة (كالحرية مثلاً)، سيكون من المحتمل جداً، أن يلتقي موقف أديب ما مع آيديولوجيا ما.

الموقف، المعنى والآيديولوجيا، المستوى الفني

يلتقي الأدب المسؤول مع الآيديولوجيا، بمعناها العام، في النقطة التي تغادر فيها هذه الأخيرة تشبثها بالحاضر، وتتجه نحو أهدافها المستقبلية. أي حين تستخلص أو تستحضر أهدافها الطوباوية. حين تترك وراءها الأطر الفكرية الضيقة للتحزّب، ونرجسيتها المفخمة في تبجيل الذات، وتتسامى نحو ما تظنه، هي، بأنه حقيقة التاريخ والمجتمع. ومع هذا، لا يكفي للأدب المؤدلج أن يكون مسؤولاً حين يُكْتَب بإملاءات حقيقة مطلقة لا تتموضع في المجتمع والتاريخ ولا تتجه نحو الإنسان كجوهر.في الآيديولوجيا القومية نجد إستبعاداً للمختلف عرقياً. إن الحقيقة التي تصبو إليها الإتجاهات القومية، توجد وتنبني على رفض الآخر المختلف عرقياً، أي أنها تستبعد كلّية الحقيقة النوعية للجنس البشري.
في آيديولوجيا الأصوليات الدينية نرى أن الحق يُطلب في العودة المستمرة نحو الماضي، الماضي الإلهي لتحقيق يوتوبيا سماوية لفرقة أو طائفة أو دين متسيّد!.في المقابل ماذا نجد في الماركسية مثلاً؟
"إن كل خطوة إلى الأمام بإتجاه الحضارة هي خطوة إلى الأمام أيضاً بإتجاه الحرية" يقول، آنجلز. والحقيقة فإنّ هيغل كان يقول بنمو الحرية أيضاً كقصدٍ للتاريخ، إلاّ أنّ ماركس، كما نعرف، تقدّم بمضمون مادي- إقتصادي عوضاً عن "روح التاريخ" الهيغلي. إنّ ما يؤهل الماركسية إلى أن تتفق مع تقديم فنٍّ مسؤول هو إستنادها إلى النظرة النقدية للشروط الإجتماعية من موقع الواقع التاريخي، إنها النظرة التي مازالت فعّالة، وإن كانت جزئيّة اليوم، في مجتمعات الغرب المعاصر.
أرجو أن لا يفهم بأنني أُنفي كل إمكانية في أن يكتب قوميّ روايةً تحمل معنىً إنسانياً كونياً، لكنّه إذ يفعل فإنه سيكتبها حينئذ خارج قيود أيديولوجيته بالتأكيد! وماذا عن إسلاميّ يحاول كتابة قصيدة يؤنسن فيها روح الربّ! هذا موقف يشبه موقف الحلاّج، ولا مكان له ضمن آيديولوجية إسلاميّة.
لكنْ علينا أن ننبّه إلى أنّ التركيز على المعنى (الفلسفي والآيديولوجي) والقضية يجب أن لا يلهينا عن الجوانب الأخرى من البناء الفني للعمل، التي بدونها لن يكون العمل فنياً. في مجموعة "آخر الأشعار: الحث على إبادة نيكسون والإشادة بالثورة التشيلية" لبابلو نيرودا، تمّ كتابة القصائد على أساس المضمون كما يشير إليه عنوان المجموعة. يقول نيرودا في المقدّمة (ترجمة الطيب الرياحي): "أودّ أن أبين أنّ هذا الكتاب، وكذلك (كتاب) "أغنية البادرة الجميلة"، لم يعيرا إهتماماً لظاهرة إنتقاء العبارة ولم يطمحا إلى التقيد بها.. . وليظلّ متذوقو الجمال المرهفون.. يموتون من سوء الهضم"!. مع هذا وعند مراجعتي للنصوص الإسبانية، وجدتُ أنّها كُتِبَتْ بغنائيّة، سقطتْ بالضرورة من ترجمتها العربية. أعتقد إنّ المسألة مسألة تعويض: حين تُبَسّط الصورة، وتقلّ التلاعبات اللفظية، لحساب وضوح المعنى، على الموسيقى أن تأتي وتحلّ المشكل؛ إنها روح القصيدة بأية حال. هذا ما أستوعبه نيرودا، الذي يرى مسؤوليته كشاعر في أن يتصدى لأعداء الإنسانية: "إنّ واجب الشعر تحويله (يقصد نيكسون) بمفعول الإطلاقات الموقّعة والمقفاة، إلى خرقة يعسر وصفها". ولولا هذه الغنائية لكانت القصائد أشبه بحديث عام، تندر فيه الصور الأخّاذة، كما نقرأها في النسخة العربية.
نلمس هذا التفاوت عند أدونيس، رغم أنّ تجربته الفكرية والشعرية تضع نصب عينيها مكانة أولى للمعنى التفاوت بين النصوص التي تشتغل على اللغة العالية وارتباكاتها وتفجراتها، حيث يبهت المعنى أو يلغّز ويصير غامضاً حدّ ضياعه، وبين تلك التي يصل فيها أدونيس حد التقرير المنطقي والفلسفي، دون أي إعتبار لموسيقى أوصورة أو تلاعب لغويّ، وطبعاً تندرج بين هذا وذاك، تلك النصوص التي لا تضحي بجانبٍ على حساب آخر، بل تأتي متوازنة متكاملة.
في بداية قراءة قصيدة أنسي الحاج، "صاح الأولاد "يا ! يا !"، يظهر لنا مضمون آيديولوجي صرف، يقدّم نفسه مباشرةً دون أدنى معاناة في التأويل، ونستشعر دعوة مبطنة وتعليمية للعنف:
"قالت الصغيرة:
-أنا أضع القنابل
تحت أبواب الرأسماليين
لأنّي شيوعية
وأنت؟"
كلّ هذا يتبدد عند المضي في القصيدة إلى نهايتها، حيث يقلب الشاعر رأينا إزاء معناه، ونصبح مجبرين على التعاطف. يحدث هذا عندما يتسامى بالآيديولوجيا مما هو آنيّ، إلى ما يمثل آفاق مُطلقاتها ومبرراتها التاريخية، من خلال بناء فنّي وجمالي متزن.