كان أبو العلاء المعرى (973-1057) شاعرا سوريا رائعا، عرف بشدة ذكائه وفرط ذاكرته وتوقّد خواطره. نظم الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، كما درس الأدب والتاريخ والفقه والأديان الإبراهيمية الثلاث والمجوسية والهندية والمذاهب المختلفة، صاغها فى أدبه وشعره ورسائله وأفكاره. عُدَّ فيلسوفا حكيما مفكرا ناقدا مجددا.
كتب عن فلسفة المعرى طه حسين وعبد الله العلايلى وأمين الخولى، ويوحنا قمير، كما كان اهتمام المستشرقين البالغ مثل نبكلسون ووليم واط وماركليوث وغولدزيهر وبوشه وأغناطيوس وكريمر وهيار وسلمون وأوخو وبروكلمان وماسنيون وبلاسيوس.. وسر اهتمامهم بالمعرى فقد ترجمة اللزوميات مثلا إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية وغيرها.
دُعِىَ إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية بعد محنته مع أمير حلب بسبب آرائه حول الدين والتشكيك بما يظن من حقائق، فرحل إلى بغداد لأنها كانت مدينة العلم ودار الخلافة وحاضرة الإسلام ومركز الحضارة وتلاقح الفكر وملتقى الأشراف والتجار والأدباء والمثقفين... إزدحم الناس على بغداد من كل أطراف الدنيا وسميت (دار السلام) حيث يقصدها الشعراء والأدباء والعلماء فى شتى الفنون والمعارف والآداب... كانت بغداد كعبة العلم والادب فيها ماء عذب وظل ظليل وعلم جم وأدب ثرى وكل ما تشتهيه الأنفس...
طه حسين في رسالته الدكتوراه اختار أبا العلاء وطبع لاحقا كتابا عنوانه (تجديد ذكرى أبى العلاء) وفيها مائة صفحة عن فلسفته. كما يصف حسين بغداد عندما رحل إليها المعرى، قائلا (كانت بغداد كباريس اليوم فلا ترى في العالم الإسلامي شابا أتم الدرس في بلده إلا وهو يتحرق شوقا إلى الرحلة إلى بغداد ودراسة العلم فيها من أصفى موارده وأعذب مناهله
). وكانت بغداد مقصد صيادي الثروات من المرتزقين بالشعر عند أبواب الخلفاء والأمراء ولكن المعري كان عفيف النفس زاهدا لم يرتزق بشعره، ولقد رد شعرا على من غمزه بمظنة السؤال قائلا:
أنبئكم أني على العهد سالم ... ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغير ما ... تيممه غيلان عند بلال
أبو العلاء المعرى كان يحب بغداد كثيرا وقد دعاه البغداديون إليها، بعد أن ظلمه أمير حلب حتى كتب (والله يحسن جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحق وعرضوا على أموالهم ودعوني إلى بلادهم)
وجد البغداديون المعرى غير جذل بالصفات ولاهش إلى معروف الأقوام
قصد المعري بغداد سنة 398 هجرية منتصف الثلاثينات من عمره وأخذ سفينة للرحيل لكن ولاة السلطان أخذوا السفينة وصادروها مما اضطره إلى طريق آخر خطير وصعب حتى وصل بغداد قائلا:
وبالعراق رجال قربهم شرف هاجرت في حبهم رهطي وأشياعي
على سنين تقضت عند غيرهم أسفت، لا بل على الأيام والساع
كما أرسل المعرى رسالة إلى خاله أبي القاسم جاء فيها (ورعاية الله شاملة لمن عرفته ببغداد فقد أفردونى بحسن المعاملة وأثنوا على فى الغيبة وأكرمونى دون النظراء)
هو القائل: لنا ببغداد من نهوى تحيته فإن تحملتها عنا فتحييتا
كذلك: متى سألت بغداد عنى وأهلها فإني عن آل العواصم سآل
إذا جن ليلى جن لبى وزائد خفوق فؤادى كلما خفق الآل
إن وجود المعري ببغداد كان سببا في الكثير من الأحداث والمنازلات الأدبية والدينية والمذهبية والفلسفية والفكرية في جو المدينة المشحون أصلا بشتى المدارس والنزعات الأدبية والعقائد الدينية والتيارات الفكرية.
صادف يوم وصوله موت الشريف الطاهر والد الشريفين الرضي والمرتضى، وحصلت قصص ووقائع منها إنشاد الأشعار في المتوفى شاعرا بعد آخر، حتى قام المعرى بقصيدته الرائعة ومطلعها:
أودى فليت الحادثات كفاف مال المسيف وعنبر المستاف
وما أن سمع الشريفان ذلك، حتى هزت كيانيهما، فنزلا إليه إجلالا سائلين: (لعلك أبا العلاء المعرى)، قال (نعم)، فأكرماه وقدماه ورفعا مجلسه ثم استأثرا به
مع ذلك كله كانت بغداد تمتحن الوافدين وهكذا كان الإمتحان صعبا مستصعبا في المعري لكنه نجح بتفوق وتميز نادرين، فينتزع منهم وهو الاعمى الاعتراف بقدراته التي تفوق قدرات المبصرين، فسمّوه منفردا (أعجوبة الدهر وفريد العصر)
عشق المعرى بغداد وماءها، قائلا:
شربنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا
عُرضتْ عليه كتب بغداد من (مدينة العلم) و(بيت الحكمة) وكثير من خزائنها فكان كما قال ابن الفضل (جعل المعرى لا يقرأ عليه كتاب إلا حفظ جميع ما يقرأ عليه). حضر المعرى المجالس الكثيرة المتنوعة في بغداد، فجالس الأدباء وحاور الفلاسفة وأصحاب الملل والمذاهب ولم يكتف بالقراءة عنهم بل كان يذهب إليهم ويحاورهم مباشرة بتحدٍّ جرئ وحوار صريح وجدل علمي، ومن أهمها حواراته الجدلية مع إخوان الصفا ببغداد.
من أهم ما صنفه تلك الفترة هي اللزوميات وسقط الزند ورسالة الغفران وباتت حكمه الكثيرة مضربا للأمثال
منها: في سقط الزند
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى ظن أني جاهل
فوا عجبا كم يدعى الفضل ناقص ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل
إذا وصف الطائي بالبخل ما در وعبر قسا بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدى إن دهرك هازل
ألّف في بغداد (سقط الزند) لأكثر من ثلاثة آلاف بيت شعر، نالته شهرة كبيرة وفيها الغزل والوصف والزهد والفلسفة والحكمة والأديان. طه حسين (نعتقد أن العرب لم ينظموا في جاهليتهم وإسلامهم ولا فى بداوتهم وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة للمعرى في حسن الرثاء):
غير مجد في ملتي واعتقادي.. نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس.. بصوت البشير فى كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت.. على فرع غصنها المياد
صاح هذى قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
إن حزنا في ساعة الموت أضعاف سرور فى ساعة الميلاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين فى طويل الأزمان والآباد
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد
قبيح بنا وإن قدم العهد هوان الآباء والأجداد
وللمعرى رسائل كثيرة منها إلى داعي الدعاة نشتكين الدرزى الذي رفض عروضه زاهدا، وفيها رسالاته إلى اليونان، و(رسالة الملائكة). ومن أهمها (رسالة الغفران) وفيها يزور الجنة والنار ويسأل الشعراء الذين دخلوا الجنة وهم من الملحدين ثم يزور النار وشعراءها سائلا عن سبب عدم الغفران لهم ثم يناقش ابن القارح وآراءه لينقد بدع زمانه ومناقشتها ثم رفضها ثم يأتي ليذكر أدباء ونقاد ليناقشهم مع سخرية واستهزاء بأدب وفطنة. بقى المعرى عاشقا لبغداد متأسفا على تركها متمنيا الوفاة فيها، قائلا
يا لهف نفسي على أنى رجعت إلى هذى البلاد ولم أهلك ببغدادا
كذلك قال المعرى
فبئس البديل الشام عنكم وأهله على أنهم قومى وبينهم ربعي
وعند خروجه من بغداد خرج معه الكثير من البغداديين لتوديعه فقال قصيدته في وداعها:
نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع
وبقي يذكر بغداد ويرى انها لا تقارن بغيرها من العواصم:
متى سألت بغداد عني وأهلها فاني عن أهل العواصم سآل
ويحن إلى ربوعها:
يا عارضًا راح تحدوه بوارقه ... للكرخ سلمت من غيث ونجيتا
لنا ببغداد من نهوى تحيته ... فإن تحملتها عنا فحييتا
يا ابن المحسن ما أنسيت مكرمة ... فاذكر مودتنا إن كنت أنسيتا
سقيًا لدجلة والدنيا مفرقة ... حتى يعود اجتماع النجم تشتيتًا
خيلاء المعرى اوقدها ضجيج عاصمة الدنيا وتزاحم الخلق والأهواء والمهارات
قال مفتخرا وهو في بغداد
إني وان كنت الأخير زمانه آت بما لم تستطعه الأوائل
ولعل هذا التفاخر والنزعة لاستعراض النفس والبراعات اللغوية التي لا تجارى هي من دفعت أبا العلاء إلى بغداد لينازع أدباءها شرف البلاغة وينتزع منهم وهو الأعمى الاعتراف بقدراته التي تفوق قدرات المبصرين ثم ما لبثت أن أطفأها العمر والعزلة في المعرة، اذ لم يعرف عن المعري افتخارا بعد رحلته عن بغداد رغم غزارة ما أنتجه في معرة النعمان.
وأصبح شيئا من الهجاء في (اللزوميات)، فهو بعد عودته للمعرة ولزومة بيته، الزم نفسه وشعره بشئ من التشاؤم على نفسه وأعماله وصار يطرق مواضيع فلسفية لم يألفها أدب العرب كمثل تبشيره بالنبتانية:
فلاتاكلن ما أخرج الماء ظالما ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضَرب النحل الذي بكرت له كواسب من ازهار نبت صحائح
وهناك مقولته المشهورة عندما وصف له الطبيب فروجا في مرضه فتحسسه وصاح: استضعفوك فأكلوك ، هلا أكلوا شبل الأسد
وفي ذلك تصريح استعراضي من أبي العلاء فمن ذا الذي يريد أكل شبل الأسد حتى لو اصطاده أو اصطاد الأسد نفسه! ثم أن الثيران تؤكل وهي ليست بالضعيفة جسديا!.
ومضى ابو العلاء في شعره
عللاني فان بيض الأماني فنيت والدهر ليس بفان
وله رسائل عديدة وأجوبته الكثيرة لما وصله من الأمراء والزعماء والفقهاء والأدباء وأصحاب المذاهب والفرق والمقالات.
ولعل في تباين نفسية ابي العلاء في مقاميه في عاصمة مثل بغداد حيث انفتاحه وزهوه وافتخاره وتفاؤله وبين عزلته في بلدة صغيرة مثل المعرة مادة خصبة لعلماء النفس ليتدارسوا تأثير البيئة على مزاج الإنسان وعاداته اليومية بل وعلى معتقداته الدينية والفكرية خصوصا إذا كان ذا إعاقة جسدية كالعمى الذي ابتلي فيه ابو العلاء منذ صغره (مثل بشار بن برد وطه حسين) وشدة الإبتلاءات والمحن التي عاناها، وآخرها قصة وفاته الغريبة بسبب مناقشة الأديان عقليا، تاركا أثرا ما يزيد على سبعين مصنفا.
حيث لم يتزوج طيلة حياته.
وقد رثاه أكثر من ثمانين شاعرا آنذاك منهم القائل
العلم بعد أبى العلاء مضيع والأرض خالية الجوانب بلقع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى أن الثرى فيها الكواكب تودع
رفض الحياة ومات قبل مماته متطوعا بأبر ما يتطوع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى للعلم بابا بعد بابك يقرع
ومن أروع القصائد هي للشاعر الكبير محمد مهدى الجواهرى فى ذكرى أبى العلاء وفيها:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
إن المعرى بصير بين عميان تمايز عنهم بحكمة وفلسفة ونقد خرق الحجب وتجاوز المحرم وأباح الممنوع فوصل إلى معدن المعرفة وأساسها العقل وهو يقول (لا إمام سوى العقل)، موصيا أن يكتب على قبره (هذا جناه أبى على وما جنيت على أحد) لتكون وصيته خالدة للأجيال مثيرة جدلا مستمرا كما أثاره في حياته.
_____________
عن موقع «ايلاف» بتصرف