أتذكر, عندما ظهر نيلسون مانديلا, على شاشة التلفاز, بكى وهو يتحدث من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة, وطالب رؤساء العالم العون والحاجة لدعم اقتصاد بلده الفقير, كأنه يتذكر، بعد 27 عاما من المعاناة في السجن الشعب البائس الذي حلت به النوائب..
أدركت كم هي بليغة لحظة الصمت.. مانديلا رجل عظيم, وليس قديسا, الرجل الذي حقق المجد والعظمة من خلال انضباطه الجسدي والعقلي, فجاء كفاحه منارة للأمل، للناس المضطهدين في جميع العالم بعد قرارا واعيا، ترك العنف والحقد وقام بإجراء المصالحة مع نظام الفصل العنصري.
يتزامن الفيلم الجديد الذي يدور عن السيرة الذاتية لنلسون مانديلا "مانديلا: المسيرة الطويلة إلى الحرية" للمخرج البريطاني "جاستن كدويك" مع رحيله إلى دنيا الخلود سمح لنا بالتعاطف والتضامن مع كل الشخصيات الوطنية ـ التاريخية التي انحازت إلى خدمة الشعب .. لأن مانديلا كان عبقريا قياسا إلى الإنسان العادي البسيط في جنوب إفريقيا, كان قدوة, بحسب أقوال رفاقه والحراس، وكان حسن الاطلاع على الوضع الدولي وتضامن العالم مع قضية شعبه لدحر الفصل العنصرية , وكان أيضا مستوردا للأفكار الجديدة من خارج السجن, ولكونه محامياً ناجحاً أخذ يدافع عن السجناء ويكتب مطالبهم وينتقد إدارة السجن، لذا لبت إدارة الفصل العنصري مطالبهم بإبدال السراويل القصيرة بالطويلة على سبيل المثال.
حاول المخرج " جاستن كدويك " أن يسلط الضوء من خلال سرده لتفاصيل مهمة من سيرة حياة مانديلا الذاتية, وهي تجربته النضالية كشخصية تاريخية, فيعرض المخرج , لقطات بطيئة متداخلة, حالمة, عن طريق تحريك الكادر الذي يتحرك بحرية في المشاهد الأولى للطفولة والقرية ( كونو ) واللعب مع أصدقائه قرب الكوخ الصغير ذي طوب الأحمر على هضبة مغطاة بأشعة الشمس الذهبية المائلة إلى الاحمرار.
تتشابك حياة مانديلا في تسلسلها التاريخي مع الأحداث الحاسمة من تاريخ بلاده , عندما ينتقل مع زوجته إلى منزله في جوهانسبرغ في عام 1941, وينتمي إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ثم يلتحق في حركة المقاومة، وفي نفس الوقت يواظب على دراسة القانون، وأسس أول مكتب محاماة للسود في جنوب أفريقيا, وأصبح محامياً بارعاً يدافع عن الفقراء والمظلومين ويحرض ضد العنصرية بحرق جوازات السفر مما أثار غضب قضاة البيض.
في بداية الستينات أصبح مانديلا مراقباً ومطارداً من قبل سلطات النظام، فغادر البلد بعد أن تم تجريف بيوتها وأكواخها من قبل سلطات الفصل العنصري تمهيداً للفصل بين الأجناس أي الفصل بين الأفارقة والبيض ومنع الاختلاط والزواج, في حين ترك مانديلا زوجته وأطفاله يتمادون في النضال ضد الفصل العنصري الذي فرض تعلم لغة الافريكانس, ونشاهد من تدرج الإحداث كيف يساهم مانديلا في تحريض الطلبة والخروج إلى الشارع على الإضراب وعلى اعتصامات عمال المناجم والطلبة، مما أصاب المدن بشلل العمل والحركة, كما ونشاهد كيف أطلقت قوات النظام العنصري النار على المحتجين وسقط ما يقارب ألف إنسان في اضطرابات كانت ترمز إلى بدء النهاية.. إلى العنف الثوري.
كان العنف الثوري أو الكفاح المسلح ضروريا لمواجهة النظام العنصري, فالمخرج كدويك يملك خبرة ودراية لتحفيز "المشاهد اليوم" عن أحداث الساعة من دون تكرار الحقائق المعروفة ولا ينساق وراء انفعالات المشاهدين بل يعرض الوقائع التي تخلق الانفعالات والتأمل في روح المشاهد.
في هذه الحبكة المتقنة، وساعدت كفاءة السيناريو على إخضاع مادة الفيلم إلى جملة حقائق ووقائع لكي تبدو أكثر ضرورة كالصراع السياسي، فنشاهد كيف يجري الحكم على مانديلا بالسجن مدى الحياة في جزيرة " روبن " , وخلال فترة إقامته في السجن خضع مانديلا ورفاقه للقيام بالأشغال الشاقة في محجر جير الكلس, وأصبح السجن بمثابة مدرسة للنضال السياسي, والاتصال بالخارج, من خلال زيارة زوجته (ويني) التي تشرح له كيف أن الناس يطالبون باستمرار الحرب برغم الأوضاع التي باتت تسوء يوما بعد يوم , وفي احد المشاهد التي اعتمد عليها المخرج حين ألقى القبض على مجموعة من الشباب وتم إرسالهم إلى جزيرة " روبن " .. كانهم يعاتبون مانديلا بإيجاد حل، فيرد وهو يلوح بقبضة يده قائلا :" الوحدة هي القوة".
وخلال التفاوض بين مانديلا ـ وهو في السجن ــ كزعيم المؤتمر الوطني الأفريقي مع مسؤولي النظام العنصري الذين اضطروا للجلوس معه لإطلاق سراحه مقابل وقف العنف والتخلص من ظاهرة الاضطراب ومقاطعة منتوجات نظام الفصل العنصري.
مانديلا في ذلك الوقت كان يحاول التوصل مع السلطة الى التخلي عن العنف وتبنى عملية السلام , ومن جانب آخر كانت زوجته، العضو في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تختفي تحت الأرض، ثم في السجن وحتى إطلاق سراحها ضد فكرة الجلوس والتفاوض مع سلطات نظام الفصل العنصري , فيقرر مانديلا الطلاق من زوجته لصالح الصراع السياسي , بعدها تلت حملة هجوم عرقية على احياء السود مدعومة من سلطات النظام العنصري لضغط على مانديلا لقبول شروطهم , ويلقي مانديلا خطابا تاريخيا من على شاشة التلفزيون في جنوب أفريقيا يحض أتباعه على التخلي عن صراع العنف وتبني عملية السلام قائلا: " لا يمكننا كسب الحرب, ولكننا نستطيع الفوز في الانتخابات"!.