مدارات

سجن "نكرة السلمان"..أكاديمية النضال والصمود / همام عبد الغني المراني

قضاء السلمان، مدينة عراقية تقع في عمق البادية الجنوبية، باتجاه الحدود السعودية. وهو منخفض ارضي, تشعر وأنت تتجه اليه، بانحدار قد يبلغ زاوية ثلاثين درجة. وقد ارتبط اسم هذا القضاء، ارتباطاً وثيقاً بإسم السجن الموجود فيه، حتى اصبح ذكر اسمه، حتى لو لم تُذكر كلمة سجن، تعني ذلك السجن الرهيب، المقطوع عن العالم، وعن كل ما له علاقة بالأنسان والحضارة والمدنية...يبعد قضاء السلمان قرابة مئة كيلو متر عن أقرب مدينة له، السماوة، مركز محافظة المثنى حالياً. ويتسم مناخه الصحراوي، بقسوة الحرارة صيفاً والبرد القارس شتاءً، مثل اي مناخ صحراوي....لا اريد ان اكتب عن بداية تأسيس ذلك السجن الرهيب، فقد كتب عنه الكثيرون، ممن استضافتهم الحكومات الدكتاتورية والرجعية في هذا " الفندق " المشؤوم.
لقد خصصت تلك الحكومات المتعاقبة، سجن نكرة السلمان للمناضلين الشيوعيين، تنكيلاً بهم، بعد ان يجتازوا مراحل التحقيق والتعذيب الوحشي في أقبية الأمن والمخابرات والأستخبارات العسكرية، وغيرها من الأجهزة القمعية، اعتقاداً منها، بإمكانية كسر صمودهم، ومنع تأثيرهم الثوري على شعبهم المضطهد....وامعاناً في التنكيل والأضطهاد، فإن سجن نكرة السلمان، هو السجن العراقي الوحيد، الذي مُنعت فيه مواجهة عوائل السجناء لأبنائهم، إلا بموافقة الأمن العامة. فالعائلة العراقية من اية محافظة، كان عليها ان تذهب الى بغداد، أولاً، لإستحصال موافقة الأمن العامة، وإذا حصلت عليها، تتوجه الى مدينة السماوة، ومن هناك تأخذ طريقها الى قضاء السلمان، لتحظى برؤية المناضل السجين لبضع ساعات، لتعود بعدها بنفس الطريق الى المدينة التي انطلقت منها، علماً بأن بعض المناضلين المعروفين، ممنوعون أصلاً من المواجهة، وأذكر انه طوال أكثر من سنتين واربعة أشهر عشتها في هذا السجن لم أرَ أكثر من اربع زيارات تمَّت لبعض المناضلين....
وسجن نكرة السلمان، بقاعاته العشرة الواسعة، وقاعات السجن القديم، لا يستوعب أكثر من 800-1000 نزيل، إلا ان مجرمي شباط الأسود وحرسهم القومي الدموي، حشروا فيه أكثر من ثلاثة آلاف معتقل، وكانت معاناتهم لا تُطاق، بعد آن اضافوا لهم، أبطال سجن رقم واحد العسكري، خلال جريمة قطار الموت المعروفة، بعد انتفاضة معسكر الرشيد الباسلة، بقيادة المناضل الشيوعي البطل الشهيد الخالد حسن سريع. وقد استشهد احد الضباط الأبطال في رحلة قطار الموت المشؤومة.... كما استشهد الملازم الأول الطيار صلاح احمد أثناء محاولته الهرب من سجن السلمان بمفرده، وهو يعاني من مرض كلوي مزمن، حيث عُثر على جثته الطاهرة في الصحراء بعد يومين. كما استشهد في أواخر عام 1966 المناضل جبار عنيد المنصور، الذي كان يعاني من مرض السرطان، وبعد ان فرضنا على الأدارة نقله الى مستشفى السماوة، حيث فاضت روحه الطاهرة هناك. ومعروف في كل العالم، ان السجين الذي يعاني من مرض لا يرتجى شفاؤه، ينبغي ان يخلى سبيله.
ما ذكرته اعلاه هو موجز مكثف للوجه الأسود المعتم لهذا السجن المقيت...
بيد ان المناضلين الشيوعيين الأبطال، جسدوا وجهاً آخر لهذا السجن البشع، وجهاً مشرقاً ومنيراً، راح يرعب الأعداء ويقض مضاجعهم، من خلال تحويله الى أكاديمية حقيقية للصمود والنضال والبطولة والثقافة التقدمية بكل فروعها. لقد تجسد هذا الجانب المشرق لواقع سجن نكرة السلمان بمفردات تطبيقية محددة، استنبطها المناضلون، لكي يخففوا وطأة قسوة الحياة في نكرة السلمان، وأبرزها :
1- وجود التنظيم الحزبي، فالشيوعيون، اينما حلّوا في سجون العراق المتعددة، واظنها صفةً عامة للمناضلين الشيوعيين في كل مكان في العالم، ينظمون أنفسهم وفق الظروف المحيطة بهم، والتي عادةً ما يفرضها عليهم العدو، لإفشال اهدافه الشريرة. وكان ذلك يتجسد بالألتزام وبث روح الحماس ورفع المعنويات ونشر العلاقات الرفاقية الرائعة.
2-تنظيم حياة النزلاء، وتوزيع العمل، وتحديد المسؤوليات، بحيث ينهض الجميع بواجباتهم، سواءً بتوفير الخدمات او حملات النظافة، وتوفير الخفارات الليلية لتفقد الزملاء، ومساعدة من يحتاج للمساعدة خلال ساعات الليل، الى جانب الأحتياط والأنتباه لأي تحرك معادٍ قد يستهدف النزلاء ليلاً.
3- استلام الأرزاق اليومية بشكل لا يسمح بالتلاعب بحقوق النزلاء، الى جانب استلام البريد وتوزيعه.
4- وبغية التواصل والتعرف على أحداث الوطن والعالم، هناك لجنة خاصة لإلتقاط الاخبار من راديوات صغيرة، أُدخلت سراً، وتهيئة نشرة اخبارية يومية تُقرأُ صباح كل يوم بعد الفطور، وفي الأشهر التسعة المشؤومة عام 1963، كان يجري تداولها وقراءتها سراً. واذكر ان الصديق المناضل جاسم المطير، كان يقود هذه اللجنة ويواظب على اصدار النشرة يومياً.
5- وكانت هناك نشاطات دراسية متنوعة، فهناك صفوف لتدريس الأقتصاد السياسي والأشتراكية العلمية، وتاريخ الحركة الشيوعية والعمالية العالمية، وصفوف لتدريس اللغات، كالأنكَليزية والروسية وحتى العربية.
6- كما كان هناك نشاط فني ومسرحي وغنائي، اذا توفر من يجيد هذه الفنون. وقد حدثني الزملاء، عن أماسٍ جميلة، يوم كان المناضلان مظفر النواب وسعدي الحديثي في نكرة السلمان. وكنا نقيم الأحتفالات في المناسبات الوطنية، كذكرى ثورة 14 تموز، والأول من ايار، وعيد تأسيس الحزب، وعيد الجيش، والأعياد العامة الأخرى، عيد الأضحى وعيد الفطر.
7- وكان النشاط الرياضي حاضراً هو الآخر، ككرة القدم والسلة والطائرة، وكان الرفيقان كمال شاكر، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني، وعبد الوهاب طاهر من اللاعبين المتميزين في كرة القدم، وحدثوني، ان فريقاً من القضاء، اجرى مباراةً مع فريق السجن، حضرها قائمقام القضاء ومدير شرطة البادية ومدير السجن، وجرت المباراة على ساحة السجن، التي تقترب من الأبعاد النظامية لساحة كرة القدم الأعتيادية. كما كانت هناك طاولة أو اثنتان لكرة المنضدة.
8- وتشرف لجنة التنظيم على علاقتنا بالإدارة، وتحرص على ان تبقى هذه العلاقة ايجابية، لتسهيل امور حياتنا في الداخل. ولم تتوتر خلال فترة وجودي في السجن، إلا مرةً واحدة، أثناء عملية " نفق نكرة السلمان " التي كتبتها بالتفصيل، في سبع حلقات، من سلسلة " أيام لا تُنسى "، على موقع الإتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة الامريكية، والتي عالجناها بهدوء وحكمة في حينها.
9- وحين تقرر نقلنا الى سجن الرمادي والموقف العام في بغداد، بعد 17/تموز/1968، اخفينا عدداً من اجهزة الراديو والكتب والكراريس السياسية، وبعض الأدوات الاخرى، في اكثر من مكان في السجن، تحسباً لعودتنا مرة ثانية، لعدم ثقتنا بحكومة البعث المجرم.
10-كما كانت لدينا ورشة للحدادة وأخرى للنجارة، وطبابة يديرها بعض رفاقنا الأطباء، كما كانت تصلنا ادوية جيدة من تبرعات تجمعها عوائلنا ورفاقنا في بغداد، حتى ان ادارة السجن وبعض مسؤولي القضاء يستعينون بنا في هذا المجال، ناهيكم عن حراس السجن وعوائلهم أحياناً.
لقد حوَّل المناضلون الشيوعيون الأبطال على مر السنين وتعاقب الأنظمة، سجن نكرة السلمان الى مدرسة حقيقة للنضال والصمود، وثبتوا تقاليد وعلاقات وممارسات ايجابية، عززت ثباتهم وصمودهم، وراح حتى العدو يحسب حساب سجناء نكرة السلمان وقوة شكيمتهم.
هذا بإيجاز هو الوجه الاخر المشرق لحياتنا في هذا السجن الرهيب، والتي ساعدتنا كثيراً، الى جانب ايماننا الراسخ بمبادئنا وافكارنا، على الصمود وتجاوز حياة نكرة السلمان التي لا تطاق.