- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأربعاء, 31 آب/أغسطس 2016 17:38
بشرى برتو
نسمع ونقرأ، منذ بعض الوقت آراء تقول إن ثورة تموز لم تكن مبررة. وكثر ترديد هذه الآراء حتى على لسان من خدمت الثورة مصالح فئته، لا سيما في أيام الانتكاسة الحالية الحقيقية. وتزايد شعور الاحباط واليأس من حصول التغيير المنشود أو من امكانية علاج أوضاع العراق المتدهورة في حالة حصوله. وتذهب هذه الآراء لتحمِّل ثورة تموز مسؤولية تتابع الانقلابات، التي أوصلت بلادنا الى وضعها الحالي، وتنسى أو تتناسى الفرق الكبير بين طبيعة ثورة تموز وطبيعة الانقلابات التي أجهزت عليها، وكذلك الظروف التي كان العراق يعيشها قبل الثورة.
صحيح ان ثورة تموز بدأت بانقلاب قام به عسكريون، لكن هذا الحدث (انقلاب) كان القوة الضاربة بيد شعب يعاني الفقر وظلم نظام اقطاعي، وما يتبع هذا النظام من اضطهاد سياسي. فقبل ان يستتب الأمر لرجال الانقلاب تحول ما بدؤوه الى ثورة حقيقية، لا سيما الريف حيث بادر الفلاحون، وكانوا يومذاك غالبية الشعب، الى طرد الاقطاعيين من الاراضي التي كانوا يتحكمون بها دون وجه حق في أغلب الاحيان. فكان ضرب النظام الاقطاعي أهم مبررات الثورة وأضفى عليها طابعاً اجتماعياً بالأساس. ولا يقلل من هذه الحقيقة تحول الحكم الذي انبثق عنها الى حكم فردي لم يسمح بتوفير وضع سياسي سليم يلائم طابعها هذا، أو نجاح العديد من المحاولات لتفريغ الاصلاح الزراعي من محتواه التقدمي، أو توقفها وانتكاستها تحت الضغوط الداخلية والخارجية التي سحقتها في نهاية الأمر.
ومن مبرراتها الهامة الاخرى، ان الحكم الملكي كان في سنواته الأخيرة في أزمة شديدة، وخصوصاً منذ 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر، ثم قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1957. وبقيت أزمته هذه دون حل برغم تعاقب الوزارات التي كان البلاط يأمل أن تقدمه له، وبقيت الوزارات الثلاث (1) عاجزة عن ذلك.
إن سلسلة الانقلابات التي أوصلت العراق الى وضعه الحالي بدأت، بتقديري، بانقلاب 8 شباط الرجعي (عام 1963 – المحرر) الذي اعتبر ما تبعه من انقلابات امتدادا له. ولم يكن لهذه الانقلابات ما يبررها إلا اهدافها السياسية، فهي لم تطرح برامج اجتماعية وانما استهدفت، بالتعاون مع بقايا قوى الاقطاع وبإسناد من قوى خارجية، القضاء على الطبيعة التقدمية لثورة تموز. وكان أول عمل قامت به هو ابطال قوانين تقدمية سنتها الثورة. فألغت قانون الأحوال الشخصية، وعطلت قانون رقم 80 الذي استرجع 99% من مساحة العراق من قيد الامتيازات الممنوحة لشركات النفط الأجنبية.
أما القوى الخارجية، التي دفعت انقلابيي شباط وساعدتهم على تنفيذ انقلابهم وانجاحه، فكانت تستهدف اعادة سيطرتها على العراق، وكانت اهدافها المنظورة سياسية، وخدمت مصالحها الاقتصادية والستراتيجية على الأمد الطويل؛ اذ كانت معنية قبل كل شيء بمحاربة الاتحاد السوفيتي وابعاد العراق عن دائرة تأثيره، استمرار حلف بغداد ومحاربة الشيوعية داخليا(2). كما ان شعار الوحدة الفورية الذي تستر وراءه الانقلابيون أغرى عبد الناصر ودفعه لمساعدتهم مادياً ومعنوياً. والى جانب الاهداف السياسية البحتة لانقلاب شباط كانت وراءه دوافع ذاتية قوية، حزبية وشخصية، تجلت بعد ذلك في الصراعات العنيفة داخل حزبهم نفسه، والتي وصلت الى حد الاقتتال بين أجنحته والتصفيات والانقلابات داخل القوى المنفذة لانقلاب 8 شباط.
التقارير والرسائل التالية المترجمة من وثائق وزارة الخارجية البريطانية السرية تعكس الوضع الذي كان سائداً في العراق خلال الأشهر التي سبقت الثورة، وموقف الحكومة العراقية من المشاكل الاجتماعية والسياسية التي كان العراق يعانيها، ودور قادة الحكم بالعراق في تعميقها، أو في الأقل وقوفهم عاجزين عن حلها.
وكتوطئة للوثائق الثلاث التي اخترتها (3) لا بد من ذكر بعض المقتطفات من تقرير(4) السفير البريطاني سير مايكل رايت، حول أحداث عام 1957 للتذكير بالمصاعب السياسية والاقتصادية التي كان الحكم يواجهها عام 1957، السنة التي تلت العدوان الثلاثي على مصر، حيث ساعد النظام العراقي اثناءها قوات العدوان بالسماح لها بالتحليق فوق الأراضي العراقية والتوقف في القواعد البريطانية في العراق للتزود بالوقود.
مقتطفات من تقرير السفير البريطاني حول احداث عام 1957
"عندما بدأ عام 1957، كان الملك وولي العهد ونوري (المقصود نوري السعيد – المحرر) يكافحون دون كلل نتيجة لأزمة السويس للبقاء على سياسة العراق الموالية للغرب، وعلى عضوية العراق في حلف بغداد، وعلى النظام نفسه (...). قطع انبوب النفط المار عبر سوريا وتعرض مستقبل البلاد الاقتصادي والسياسي للخطر (...).
أعيد افتتاح المدارس وخففت الرقابة على الصحافة تدريجياً، وقل عدد المحتجزين تحفظاً، وألغيت الاحكام العرفية في نهاية آيار. وشهد شهر نيسان عودة مشاركة العراق في نشاطات حلف بغداد (...). وخلال هذه الفترة كانت أصعب مشكلة داخلية هي تمويل الميزانية (...) ونتيجة لتفجير ثلاث محطات ضخ على خط أنابيب كركوك – البحر المتوسط في شهر تشرين الأول، توقفت صادرات النفط من الحقل الشمالي، ولن تكون الزيادة المتوقعة من حقل البصرة الأصغر جداً إلا زيادة هامشية. وحتى آذار، جابهت الحكومة عجزاً في الميزانية المالية عام 1957 مقداره (8.5) مليون باون، وهي تعلم ان عجزاً أكبر بكثير سيحصل في السنة المالية 1957 /1958.
(...) وقد باشر العراق في الواقع برنامجاً للتنمية الوطنية، فيه شيء من ميزات دولة الرفاه، ولكن نجاحه المتواصل يتطلب توفير عاملين: الأول أن تتعاقب حكومات تتمتع بدرجة كافية من الحسم، لمنع الكفاح السياسي من أجل تحطيم النسيج الوطني. والثاني ان لا تنقطع العوائد النفطية. وقد طرح عام 1957 تحذيرات في كلا هذين الجانبين، ففيما يتعلق بالأول جرت محاولتان، كانتا فاشلتين نسبياً، لإيجاد زعيم غير نوري، يحمل سياسة النظام بنجاح قدماً. وفي ما يتعلق بالثاني، أدى انقطاع خط الانابيب أثناء أزمة السويس الى اقناع الجميع بأن الاقتصاد العراقي والحياة الوطنية كذلك سيكونان بأقصى ما يمكن من الهشاشة، اذا ما سيطرت أيدٍ غير صديقة على خط الانابيب المار عبر سوريا، وإن لم تضمن منافذ بديلة للنفط العراقي. وبدا الخطر الذي يواجه العراق من سيطرة ناصر أو الشيوعية على سوريا واضحاً بشكل جلي. وبدا للنظام العراقي ان سياسات ناصر والاتحاد السوفيتي لا يمكن التفريق بينهما تقريباً.
وفي الواقع، فالعراقيون مقتنعون ان الاثنين يعملان سوية ويداً بيد. وانه لا يمكن للعراق ان يأمل بمواجهة الخطر بمفرده، وبدا ان صداقة واسناد بريطانيا والولايات المتحدة والاعضاء الاقليميين في حلف بغداد لا غنى عنها. كما ان صداقة البلدان العربية الاخرى في النضال ضد ناصر والشيوعية، وفي اسناد السياسة الموالية للغرب، عوائق هائلة (...)".
الوثيقة الأولى
خاص، تقرير حول سفرة قام بها سام فاله، المستشار للشؤون الشرقية في السفارة البريطانية في بغداد، الى الكوت والعمارة في 17 - 20 كانون الأول 1957.
رقم الايداع 134197/371FO.
من بغداد الى الكوت
(104 اميال). الاميال الـ 38 الاولى منها كانت على طريق اسفلتي جيد، والباقي من الطريق كان سيئاً، وربما لا يمكن السير فيه عند المطر، والعمل جار على تعديل الطريق.
الكوت
المنطقة كئيبة ومظاهر الكآبة واضحة. وكما قال المتصرف والآخرون الذين تحدثت معهم، هناك بطالة واسعة وينتشر الفقر والجوع الحقيقي. والمنطقة هادئة في الوقت الحاضر، ولكن فيها طاقات كامنة دائما للاضطراب. وكان الوضع خطيراً في مدينة الحي التابعة للواء الكوت بشكل خاص في السنة الماضية (5).
والسبب الرئيسي للاضطرابات هو وجود اصحاب الاراضي الاقطاعيين الكبار. فالفلاحون مضطهدون ولا يكادون يقدرون على تدبير معيشتهم، ما يؤدي الى تركهم الارض والذهاب الى المدن، حيث لا يتوفر على اية حال العمل الكثير لهم. واصحاب الاراضي الرئيسيون هم عائلة محمد الحبيب، امير ربيعة. ويبدو ان هؤلاء لا يضطهدون الفلاحين وحسب، انما ايضا يتمتعون بنفوذ يجعلهم بعيدين عن طائلة القانون. وادعى المتصرف، محمد حقي رسول، انه غير قادر على السيطرة عليهم، بسبب النفوذ الذي يتمتعون به في بغداد. ولم يسن اي قانون لتوزيع الاراضي في لواء الكوت.
ولا توجد مشاريع كبيرة للاعمار، ولكن تجري تجارب حفرية من اجل بناء جسر جديد، وهناك بعض البنايات الجديدة والمدارس ومستشفى وسراي. ولا يمكن الحديث عن شوارع في المدينة.
قمت بزيارة مشروع الدجيلة للري والاستيطان، الذي يتزود بالماء من قناة تلي سد الكوت. وهذا المشروع فاشل حتى الان. واسباب ذلك هي ان المستوطنين غير مناسبين، هذا من جهة ومن جهة اخرى ملوحة الارض دون ان يوجد بزل مناسب. لكن المتصرف قال لي انهم سيبدأون بالبزل قريباً. والمستوطنون ليسوا متضجرين جميعاً، وقد تحدثت الى احدهم وبدا ان اموره سائرة بشكل مقبول.
من الكوت الى العمارة
استغرق قطع مسافة 140 ميلاً بـ 8 ساعات في سيارة لاندروفر، برغم ان الظروف الجوية كانت ممتازة؛ اذ لا يوجد طريق مقبول، ولا يمكن السفر عند المطر.
العمارة
يعيش حوالي نصف سكان العمارة (يقدر مجموعهم بـ 5 ألفا...) في صرائف بظروف من القذارة البشعة والفقر. والعديد منهم عاطلون أغلب الوقت وأن وجدوا الفرصة فيعملون كعمال وقتيين. وتتراوح مداخيل العائلات بين 4 - 5 دنانير عراقية شهرياً.
يتطور العمل بسرعة في أعمال البزل. ويخطط المتصرف، حسين سعد، لبيع الأراضي المستصلحة بأسعار رخيصة الى فقراء الطبقة المتوسطة، من أجل بناء بيوت خاصة بهم. وفي تخطيطه يتصور بناء (400) بيت على قطع من (400) متر مربع. كما يخطط أيضاً اعطاء سكان الصرائف فرصة لبناء بيوتهم الخاصة على قطع من (100) متر مربع. ولكن لا يبدو ذلك ممكناً إلا اذا وفرت البيوت لهم مجاناً.
وفيما عدا بعض البنايات الحديثة، ومن بينها السراي ودار ضيافة ممتاز، فإن مشروع الاعمار المنظور الوحيد هو بناء جسر جديد. ويقال ان هناك خططاً لانشاء مصنع للورق ومشاريع للري. واعتقد بوجود أمل في العثور على النفط قرب المنطقة.
دخلت في مسألة توزيع الأراضي بالتفصيل. وباختصار فالمسألة كالتالي: الاراضي في لواء العمارة هي أراض أميرية (6)، افضل هذه الأراضي، ربما تزيد على مليون دونم، يستغلها الشيوخ المحليون. والظروف التي يفرضها الشيوخ على الفلاحين هي من السوء لدرجة ان العديد منهم لم يستطيعوا البقاء في هذه الأراضي وابتعدوا عنها.
وقد استهدف قانون توزيع الأراضي في لواء العمارة لعام 1955 اعطاء %50 من الاراضي المستغَلة من قبل الشيوخ الى الفلاحين، وتبقى الـ %50 الاخرى للشيوخ. وقام الشيوخ، مستفيدين من فقرة غامضة في القانون، بتطبيقه بشكل يحصلون منه على جزء من الـ %50 العائدة للفلاحين، وذلك لتخصيصها لأقاربهم. ويحاول المتصرف العمل على اعادة النظر في القانون.
ومهما يكن من أمر، فقد حصل بعض التوزيع. ويوجد الآن حوالي 300 مالك صغير من الفلاحين، زرت حوالي 50 منهم في ثلاث مناطق مختلفة. وكان الذين تحدثت اليهم قد حصلوا على أراضيهم منذ بضعة أشهر فقط وما يزالون فرحين لأنهم أصبحوا "شيوخاً". لم تبد ظروفهم سيئة ولكن من الواضح هناك عدد من المشاكل الجدية لم تحل حتى الآن مثل الماء وتوفير القروض الزراعية. الفلاحون الذين زرتهم كانوا يسحبون الماء من الشيخ المحلي ويعطونه مقابله حصة من منتجهم. وفي احدى القرى حيث يعطي الفلاحون %25 من منتجهم للشيخ مقابل الماء. بدا هذا الترتيب يسير بشكل جيد. وفي قرية اخرى حصل جدال، كان المفروض أن لا أسمعه، لأن الشيخ كان يطلب أكثر من %25، وهذا النظام غير مرض كما هو جلي؛ اذ انه يضع المالكين الصغار تحت رحمة الشيوخ ومالكي مكائن الضخ. وتستهدف دائرة استيطان الاراضي توفير الأرض لحوالي 8000 فلاح ولكنها غير واثقة من امكانية تحقيق ذلك.
واذا ما نجح مشروع الاستيطان، وهذا ما لا اعتقده إلا اذا عولجت مسألتا الماء والقروض بشكل منهجي، فسيمكن ايقاف النزوح عن الأرض. ولا أرى في الوقت الحاضر أي أمل في توطين سكان صرائف العمارة في أرض ما. وقد يحصل ذلك لاحقاً اذا ما أصبح بالامكان توفير المياه لما يقرب من ثلاثة ملايين دونم من الأراضي الأميرية، قيل لي انها عديمة النفع في الوقت الحاضر، وهي غير مستغلة من قبل الشيوخ.
كان المتصرف والقائممقام ومسؤولو استيطان الأراضي، الذين تحدثت معهم، ممتلئين مرارة من الشيوخ الرئيسيين الذين يستغل ستة منهم حوالي 600 ألف دونم، وهم مجيد الخليفة ومحمد العريبي وخريبط الفلاح وجثير مطلك السلمان وعبد الكريم الجُوي. استغربت للطاعة والود الظاهرين من قبل سكان الصرائف في العمارة، وبدا ان نشاط المتصرف والتقدم السريع لمشروع استصلاح الهور يشكل عامل تشجيع لهم.
كما بدا أنهم اناس بسطاء يقنعهم القليل، ولكن هذا القليل أكبر من مصيرهم الحالي. وطلبوا مني عمل شيء ما لهم لأن البريطانيين هم "آباؤهم". من جهة اخرى، قال لي أحد الموظفين ان هؤلاء الناس يعتبرون "ناصر" إلهاً. وفي الموصل قيل لي انه مجرد نبي.
الاستنتاجات
الكوت والعمارة لواءان مهملان، ومستوى المعيشة واطئ بشكل مخجل، وتعود الاسباب الرئيسية للنهب الذي يقوم به الشيوخ والزراعة غير الفعالة. كما لا يشعر المرء بأي أثر لبرنامج الاعمار. ولا يوجد خطر واضح أو فوري من حصول اضطرابات، لكن هناك أساسا قويا للشيوعية والقومية الفوضوية (قيل لي في الكوت إن الشيوعيين بامكانهم أن يفوزوا في انتخابات حرة). ومن الممكن ان يتحرك هذا الوضع اذا ما حصلت أحداث سياسية خارج العراق، واذا استمرت الحكومة في رفضها اتخاذ عمل حازم ضد الشيوخ أو بالاثنين معاً. وكل من تحدثت معهم كانوا ينتقدون سياسة الحكومة بشدة وبعضهم يتصور ان بالإمكان اعطاء الحكومة فرصة اخرى بينما البعض الآخر متشائم تماماً.
ويبدو ان من الضروري على حكومة العراق أن تقوم بما يلي: أ- تخصيص مزيد من الأموال للإداريين المحليين للصرف على المشاريع التي تظهر نتائج سريعة. والعمل الجاري في استصلاح الهور في العمارة تحت اشراف المتصرف هو مثال واضح لما يمكن عمله. كما ان مشروع الاسكان المقترح في العمارة سيتطلب رأسمالاً، اذ ان من ستخصص لهم هذه البيوت لا يملكون إلا القليل او بالأحرى لا يملكون شيئاً. وكذلك يجب عمل شيء ما لشوارع الكوت.
ب – قانون توزيع الأراضي في العمارة يتطلب ادارة حازمة واستبعاد أي غموض أو شذرات. ويجب جعل القانون فاعلاً بشكل يجري فيه حقاً توزيع %50 من الاراضي المستَغَلة من الشيوخ على الفلاحين.
ج – يجب عدم ترك القرى الزراعية الجديدة للدفاع عن نفسها بنفسها، وإلا فانها ستقع تحت سلطة الشيوخ. وكبداية فالأساسيات الحيوية هي ضمان توفير المياه والقروض لشراء البذور وربما أيضاً السماد والمعدات، ووضع مشروع للتسويق التعاوني ولا استطيع الحكم بمدى ضرورة المكائن، ولكن اذا ما جرى استخدامها فمن الضروري اقامة مركز للمكائن وعاملين ومدربين فيه.
د – هناك حاجة لمشاريع للري من أجل مد الزراعة الى اراض جديدة، وتحسين الاراضي الحالية في لواء العمارة.
هـ - وهناك أيضاً حاجة لمعالجة توزيع الأراضي في لواء الكوت.
و – ولمشاريع الأمد الطويل قيمة كبيرة خاصة وان متصرف العمارة تحدث عن مصنع للورق.
ز – من الضروري ان تعي الحكومة الجديدة بشكل كامل الظروف الموصوفة في هذا التقرير. وربما عليها ان تدرك انها سيحكم عليها بالنتائج، وانها بحاجة للقيام بشيء ما بسرعة، أو في الأقل أن يظهروا أنهم مدركون للمشاكل وعازمون على معالجتها. وكبداية يجب أن يقوم الوزراء المعنيون شخصياً، وبشكل خاص وزراء الداخلية والزراعة والشؤون الاجتماعية والاقتصاد والاعمار، بجولة في لواءي الكوت والعمارة، وان لم يتم عمل شيء أكثر مما يجري الآن فسرعان ما سيحصل افتراض ان الحكومة (7) ليست أفضل من سابقاتها رغم كون رجالها من الشباب وأنها تخضع أيضاً لنفوذ الشيوخ الأغنياء.
السفارة البريطانية
بغداد 31 كانون الأول 1957
الوثيقة الثانية
سري: برقية رقم 204 موجهة من سير مايكل رايت الى وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 11 شباط 1958.
رقم الايداع 134197/371FO.
أقدم التحليل التالي للوضع في العراق وتطوراته:
تطرح الوحدة بين مصر وسوريا تحدياً خطيراً على العراق وجيرانه وعلينا وعلى الامريكان، ففكرة الوحدة تحضى بتأييد واسع النطاق وبشعبية هنا. انها جذابة بالنسبة للقوميين كافة بمختلف مستوياتهم، وجزئياً للمثقفين والطلاب لأسباب عاطفية، وللرأي العام غير المفكر لأنهم يرحبون، بالأساس، بأية خطوة نحو الوحدة دون اجهاد أنفسهم لمعرفة ما ستكون عواقبها.
ومن الناحية الاخرى ففي الوقت الذي يؤيد فيه الملك وولي العهد وأغلب السياسيين الذين يشعرون بالمسؤولية وأغلبية البرلمان الحالي ورؤساء العشائر الأقوياء مبدئياً الوحدة العربية وفق الخطوط الصحيحة، فانهم يرون في هذا الشكل خطراً على وجود النظام والعراق ذاته. وأصبحوا متزايدي القلق خاصة حول مسألتين:
أ- السيطرة المحكمة التي أصبحت لناصر على خط الأنابيب المار عبر سوريا. وقطع هذا الخط سيسبب ضرراً مميتاً للاقتصاد الوطني ولبرنامج الاعمار ان عاجلاً أم آجلاً. وإن لم ينقطع فعلاً فمن الممكن أن يجري الضغط على شركات النفط لدفع فدية قد تساوي الشيء نفسه تقريباً. وعلى أية حال سيتمكن من استخدام التهديد بإيقاف الضخ للابتزاز السياسي في عدد متباين وواسع من القضايا.
ب – التعاون الروسي – السوري طويل الأمد وأثره في مسألة تطوير مياه الفرات الأعلى. هذه مسألة أهم من دجلة بالنسبة للري في العراق.
وتسير الأحداث الآن نحو تشكيل حكومة قوية برئاسة نوري (رغم ان هذا ليس مؤكداً) وربما بقاعدة واسعة قدر الامكان. واذا ما تسلمت الحكم وزارة كهذه، فستكون أهدافها الحفاظ على الروابط مع الغرب والابقاء على استقرار الوضع الداخلي، واما منع استخدام القبضة القوية أو كسرها ان استخدمت(8). وفي المطاف الأخير فانهم قد يفضلون كسرها عوضاً من الخضوع.
وكخطوة اولى في هذا الاتجاه، طار الملك الى عمان لرؤية حسين (ملك الاردن في حينه – المحرر) بهدف انجاز شكل من الاتحاد بين الأردن والعراق. وهم يأملون أن ينضم حاكم الكويت، بمساعدتنا بشكل ما الى هذا الاتحاد أو في الأقل يقدم مساعدة اقتصادية له وكذلك أن يشارك سعود (ملك السعودية آنذاك – المحرر) أو يساند العملية بشكل ما. ولكن من غير المحتمل أن تشعر الحكومة القوية بقيادة نوري بكفاية ذلك، بحد ذاته، لتوفير الأمن للعراق اذا ما بقيت القبضة القوية على خط الانابيب وتقليص تدفق مياه الفرات.
وفي كل هذا يتجه العراقيون بنظرهم إلينا والى الامريكان للحصول على دعم لكل خطوة عن بعد وبهدوء، وللدعم الكامل في حالة حصول أزمة كملجأ أخير. وهم يعتقدون، ويفترضون أننا نتفق معهم في اعتقادهم، أنه إن قدر للعراق ان ينهار فسيكون من المستحيل حتى مع استخدام القوات البريطانية، أن تقاوم الكويت لفترة طويلة، الحركة السياسية التي ستكون على أبوابها.
في عملية الابقاء على استقرار الوضع الداخلي يبدو من المهم ان تربط الحكومة، أو اية حكومة غيرها، بين الحزم وادخال اجراءات اجتماعية عديدة ذات طبيعة تقدمية. وقد طرحتُ هذا الرأي على ولي العهد والآخرين، وأعتقد انهم متفقون. وطرحت أيضاً ان تضم الوزارة، ان تشكلت، عدة وزراء من ذوي الآراء التقدمية في ما يتعلق بالشؤون الداخلية وآمل أن يكون ذلك مقبولا أيضاً.
وستشعر الحكومة الحالية، أو الحكومة الجديدة برئاسة نوري، بقلق خاص بالتأكيد عند مواجهتها المهمات وتطبيقها للأهداف المذكورة في الفقرة 3 أعلاه، وخاصة في المسائل التالية:
أ- تحقيق بعض التقارب بين العراق والكويت أو، في الأقل، تقديم بعض العون من الكويت الى أي اتحاد يتم بين العراق والأردن.
ب – توفير آفاق لزيادة انتاج وتصدير النفط من الحقل الجنوبي بأسرع ما يمكن، وكذلك الحصول على مساعدة خارجية بالتغلب على صعوبة أي طارئ اقتصادي، اذا ما قطع خط الأنابيب في هذه الأثناء.
وقد علمت ان شركات النفط قررت العمل على ميناء الفاو، ولكن هذا يتطلب سنتين وثلاثة أشهر لإنجازه. ولو كنا نواجه تهديداً مشابهاً لاقتصادنا أو طارئاً من طوارئ أزمان الحرب، فعلينا، افتراضاً، ان نحاول بكل الوسائل وبعملية سريعة نوعا ما انجاز العمل في فترة أقصر. وقد اتصل بي وزير المالية حول هذه المسألة، واقترح عليّ مناقشتها مع السيد هريدج من شركة نفط العراق الذي سيكون هنا غداً. وأرى ان علينا النظر الى هذا الأمر بسرعة وجدية. وحتى في حالة عدم حصول تهديد مبكر لخط الانابيب السوري، سيكون لمجرد معرفة ان هذا الالتزام سينفذ بسرعة، أثر في تحقيق الاستقرار، خاصة اذا ما نجح الجهد في تقصير فترة الانجاز، مثلاً، لسنة واحدة. وهناك اجراء ثان ينبغي النظر اليه، وهو امكانية مد خط أنابيب بأسرع وقت ممكن من حديثة الى الخليج الفارسي؛ فبذلك يمكن ان يضخ نفط كركوك الى الخليج في حالة حصول طارئ. وسأناقش هذا الأمر أيضاً مع هريدج.
وفي ما يتعلق بالكويت، اطلعت على برقيتكم رقم 322. ولكن، وكما نرى الأمر من هنا، فان القول بعدم استطاعتنا ممارسة الضغط على حاكم الكويت للانضمام الى الاتحاد أو تخصيص أموال له، لا يتوازى مع خطر الوضع أو متطلباته. وأعرض، مع الاحترام، اننا لا يمكننا أن نأمل الى ما لا نهاية في المحافظة على الكويت، ونبقى مرتهنين بهذا الأمل. ولا أن نحدد أنفسنا بدور محامي العائلة الودود. فاذا ذهب العراق فستذهب الكويت بالتأكيد، وبالعكس فاذا استطعنا أن نبعد الخطر، عن طريق المساعدة المقترحة من الكويت، فلن نحافظ على العراق والكويت معاً وحسب وانما أيضا سنضع أسساً لحل القضايا الاخرى في الخليج الفارسي.
الوثيقة الثالثة
سري للغاية، برقية رقم 321 موجهة من السير مايكل رايت الى وزارة الخارجية البريطانية ومؤرخة في 26 شباط 1958.
رقم الايداع 234198/371FO.
دعا ولي العهد سفير صاحبة الجلالة في عمان (الموجود الآن هنا لبضعة أيام) كما دعاني الى اجراء حديث في البلاط بعد العشاء ليلة أمس. وكان في حالة من التوتر وأبقانا معه لمدة ثلاث ساعات. اعتقد ان سبب نرفزته هي الأخبار القائلة باعتراف الامريكان بالجمهورية العربية المتحدة (يراه مستعجلاً)، واذاعة خطاب ناصر واستقباله في دمشق، ورسالة يدعي انها من الملك حسين تستنكر تعيين نوري على الوزارة العراقية الجديدة (سوف ابلغكم اذا ما تبين ان لهذا الحدث مغزى مهماً).
ولكن مع طرح هذه العوامل الثلاثة جانباً، وحقيقة انه يصاب أحياناً بفترات من الكآبة، يجب أن يؤخذ قلقه العميق مما يخبئه القدر، وشعوره بالخطر على النظام وعلى مستقبل العراق بالحسبان الجدي.
وهو يعتقد اذا ما استمر سير الاحداث الحالي دون ايقافها، سواء داخل العراق أم في الاقطار المجاورة، سينهار الوضع دون رجعة في فترة أشهر معدودة، وبكل تأكيد قبل نهاية العام. وسيكون تأثير نجاح ناصر ودعايته قوياً.
وقال ان الملك فيصل أخبره في اليومين الأخيرين انه يواجه اختياراً بين خطين، وعليه أن يقرر بسرعة وطلب النصح منه. وقال ولي العهد لنا انه، ولأول مرة في حياته، شعر بعدم قدرته على تحمل مسؤولية تقديم النصح لفيصل. وكان واضحاً ان الخطين هما: أ- أن يسمح للحكومة الحالية، وهي ليست قوية، أن تبقى في الحكم وبذا ينتظر الأحداث وهي تتدهور انتظاراً سلبياً. ب – أن يأتي بمجموعة قوية يرأسها نوري، وتضم كما يتصور توفيق السويدي والجمالي (فاضل الجمالي – المحرر) وأرشد العمري ومرجان (عبد الوهاب مرجان - المحرر) وعبد الكريم الازري وآخرين.
ولكنه، دون أن يقول صراحة، ترك لدي فهماً ان هذه الحكومة لن تشكل إلا على أساس وضع سياسة حازمة ونشطة تجاه سوريا. ومن المؤكد أن تؤدي في أحسن الأحوال الى التدخل بالقوة. وطلب مني ولي العهد أن اجري، أنا شخصياً أحاديث مع أغلب المذكورين، لأكّون حكمي الخاص عن آرائهم. وكان يرغب في أن يتحدث أكثر هؤلاء بأنفسهم معي.
وواصل ولي العهد قائلاً، في الوقت الذي يشكل فيه الاتحاد مع الأردن ضرورة لا يمكن تفاديها وتثمنه الدوائر المسؤولة في العراق، بدأ الحديث ضده يلاقي تشجيعاً من العناصر المعادية وخاصة على أساس ان الاردن سيشكل ثقلاً اقتصادياً على العراق، وسيؤثر سلباً على مستوى معيشة الشعب. والأمر يتطلب من وجهة نظره خطوات ثلاثاً:
الأولى، تعزيز الاتحاد اقتصادياً، وذلك يعني الحصول على مساعدة خارجية.
الثانية، اشراك الكويت بالاتحاد لأسباب اقتصادية وللتأثير المعنوي.
الثالثة، استمالة سوريا بالقوة إن لم تكن هناك وسيلة اخرى.
وكرر بعدم وجود امكانية للمحافظة على الوضع في العراق لفترة طويلة، إن لم تتحقق الخطوتان الأولى والثانية في الأقل وربما الثالثة أيضاً. وإن من الاحرى بالهاشميين ان يسقطوا وهم يناضلون بشرف.
(...) ورغم ان ولي العهد أخذ يتحدث في النهاية بهدوء، إلا انه تمسك بتقييمه الأساسي. وقد استقبلنا مجدداً صباح هذا اليوم وأعتقد ان السبب الرئيسي هو أن يظهر لنا انه استعاد هدوءه وتوازنه، ولكن رأيه لم يتغير.
(...) وأنا الآن اقوم باجراء الاحاديث مع أغلب الذين سماهم ولي العهد. وسوف اجري تقييماً جديداً للوضع بعد انتهائي من ذلك. وقد أطلب منكم، عندئذ، توجيهات اضافية. وربما أقوم بزيارة قصيرة الى لندن للتحدث حول القضايا المطروحة. وتبقى الصعوبة الأساسية في المحافظة على شجاعة وحزم الموجودين في القمة، وتوجيههم في الوقت نفسه بالابتعاد عن القيام بمغامرة طائشة. ولا استطيع أن ارى كيف يمكننا أن نأمل في القيام بهذين الأمرين ما لم نستطع أن نحقق التالي:
أ- اظهار وجود أمل بشيء ما بالنسبة للكويت.
ب – تقديم ضمانات موثوقة بالمساعدة الاقتصادية والمالية لتعزيز الاتحاد.
ج – البدء بأعمال التعزيز المبكر للقوة الجوية العراقية (9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثقافة الجديدة العدد 283 تموز/ آب 1998.
الهوامش:
(1) وزارة علي جودة الايوبي ووزارة عبد الوهاب مرجان، ثم وزارة نوري السعيد (الهوامش وضعتها المترجمة للتوضيح – ث ج ).
(2) عبَر علي صالح السعدي، احد قادة الانقلاب، عن ذلك بقوله "جئنا الى الحكم بقطار امريكي".
(3) اختياري لها لم يكن، لانها اكثر الوثائق السرية البريطانية تأكيداُ على ما ذهبت اليه، ولكن لسهولة توفرها لدي. ولا شك ان لدى وزارة الخارجية البريطانية وثائق عديدة اخرى تحوي دلائل اقوى واكثر وضوحاً من هذه الوثائق.
(4) التقرير السنوي 1957 من سير مايكل رايت (سفير المملكة المتحدة في بغداد) الى السيد سلوين لويد (وزير خارجية المملكة المتحدة)، بغداد رقم 78 خاص، 24 نيسان 1958. رقم الايداع 134195/371FO.
(5) اشارة الى انتفاضة 1956.
(6) اراض تملكها الدولة.
(7) حكومة عبد الوهاب مرجان التي استقالت في آذار 1958.
(8) تلميح لرغبة العراق في تغيير الوضع في سوريا، فقد ورد في رسائل اخرى ذكر عن نية نوري سعيد، القيام بتدخل عسكري في سوريا، كما وردت مسألة البحث عن بديل للوضع فيها .
(9) كانت هذه المسألة موضع جدال طويل بين الحكومة العراقية وبريطانيا وكانت بريطانيا تماطل فيه وتوجد حول الموضوع وثائق سرية عديدة.