مدارات

الاقتصاد السياسي للاصلاح الاقتصادي في العراق/ 3-7 / د.صالح ياسر

القضية الثانية: الخصخصة دون قيد أو شرط ! إقصاء الدولة وتحويلها الى مجرد خفير! 

   خطاب الخصخصة ليس جديدا فقد اصبح مرافقا لنا يوميا، بمناسبة أو دونها. غير أن الجديد الآن هو أن هذا الخطاب وما يرتبط به من سياسات ومنظّرين قد بلغ درجةً من " الفصاحة " بحيث بات طرح مسألة إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وفق وصفة صندوق النقد الدولي الشائعة في صلب أجندته.

   هكذا اصبح شائعا الترويج لمفاهيم من قبيل: الخصخصة واقتصاد السوق ومضامينه وآلياته "التحريرية" حيث يتم حصره بالخصخصة، بينما اقتصاد السوق هو نهج لتوزيع الموارد عن طريق آليتي السعر والمنافسة. وهنا، إذن، سيطر مفهوم اختزالي وضيق الأفق لمدلولات المفاهيم بحيث حلّ التبرير الايديولوجي بديل عن المقاربة العلمية الصحيحة للمشكلات التي يعاني منها الاقتصاد العراقي. حيث نلاحظ، وفي كل لحظة، كيف يتناول البعض مشكلات الاقتصاد العراقي، ولكنهم في نهاية المطاف لا يقدموا لنا سوى الوصفة الشهيرة والساحرة: الخصخصة دون قيد أو شرط،! وكأنها الطريق الوحيد للتغلب على مشكلاتنا !!. والمثير انه في بعض أوساط السلطة الحاكمة، وخارجها ايضا، تتشابك الخنادق بين " المتحاربين " من الجانبين فلا نجد ما يميّز هذا الطرف عن ذاك في موقفه من قضية حساسة، طبقية واجتماعية، رغم أن السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد !!. في ظل هذه الجلبة تضيع البوصلة لدى البعض، ويصبح الرهان على الخصخصة كما لو أنها الرهان الوحيد اليوم. بل الادهى من ذلك هناك من ينافح ويعتبر الخصخصة خيارا تقدميا ! وبديلا مضموناً للقطاع الحكومي " الفاسد حد النخاع والمكبل للاصلاح الاقتصادي " !. وقد أفصحت تلك التوجهات عن نفسها في السنوات الأخيرة، في اكثر من مناسبة من طرف مسؤولين كبار. والاغرب في العملية كلها أنها تجري في ظل هيمنة " الاستشاريين والخبراء " في الجدل الدائر، ظامراً أو ظاهرا، ويقابل ذلك غياب واضح لآراء وتصورات الفاعلين الاجتماعيين الآخرين، بل وانعدام اي نقاش مجتمعي جدي وحقيقي حول قضية لا تخص " الاستشاريين والخبراء " وحدهم بل تخص المجتمع بأسره. وخطورة هذا المدخل أنه يفضي الى فصم الترابط الجدلي ما بين التنمية والديموقراطية الذي تحتاجها بلادنا اليوم بعد عقود من العسف والاستبداد.

   بعيدا عن أية تأتأة، ليس المطلوب فيما يطرحه صقور الخصخصة سوى تصفية أي دور للدولة واخراجها من المجال الاقتصادي بأي ثمن ! وبالتالي التخلي عن الوظيفة الاجتماعية لقطاع الدولة بالتركيز على المعيار الاقتصادي وفكرة الكفاءة المعروفة. ومن اجل تحقيق " الكفاءة الاقتصادية " المزعومة وتقديمها كخيار واحد ووحيد، تستبدل الجوانب الاجتماعية وحركة المجتمع وتناقضاتة بمعادلات حسابية/رياضية مغرقة في تعقيدها من اجل قياس هذه " الكفاءة " والبرهنة على صواب مقاربة هؤلاء للاشكاليات الفعلية. في ضوء هذه الالعاب الذهنية يُختزل البشر والموارد في أرقام وصيغ حسابية، ويصبح " المعيار الاقتصادي " هو الفيصل، وبالتالي لا يهتم راسم السياسة، الذي يتكأ على هذه المقاربة، بالآثار الاجتماعية لعملية الخصخصة وما تتركه من بطالة وتهميش واستقطاب اجتماعي، في مجتمع يعاني من كل هذه القضايا ويعيش أزمة بنيوية شاملة ومتعددة الصعد.

   المثير في الامر أن ما يطرحه "منظرو" الخصخصة و " الاصلاح الاقتصادي " هو تأكيدهم على " عدم كفاءة القطاع العام "، ولكنهم، وللأسف الشديد، لا يكلفون انفسهم بطرح سؤال اضافي ومهم وهو لُب القضية: لماذا لم يعد هذا القطاع كفؤاً ؟ أي أنهم وعند البحث عن الاجابة على هذا السؤال، يهملون عامدين على ما يبدو: العلاقات والشروط وبنية المصالح التي انتجت قضايا النهب والفساد الذي تعرض له هذا القطاع على ايدي نهابّة النظام المقبور، وتواصله بهذه الصيغة أو تلك بعد 9/4/2003 بدعم وتأييد من سلطات الاحتلال ومنظريه ومستشاريه على الجبهة الاقتصادية في العراق، ثم ممارسات "منظري" وممارسي الحكومات المتعاقبة في ظل انعدام الشفافية في هذه المراحل، وان بشكل متفاوت، هذا طبعا اضافة الى شيوع الفساد المعمم ليصبح "مؤسسة" فريدة "نباهي" بها الامم!.

   والاهم من هذا ان الدعوات لتطبيق الخصخصة تقدم مغلّفة بتبريرات وحجج كثيرة، في مقدمتها ان الاقتصاد العراقي يعاني من ازمة عميقة، وانه لا يمكن تجاوز هذه الازمة الا من خلال القيام بـ " اصلاح اقتصادي جذري " ، هذا طبعا من دون الاشارة الى مضمون هذا " الاصلاح " الذي يراد تطبيقه، وانه لا يمكن تحقيق ذلك الا من خلال اعتماد خيار الخصخصة. ولا يكتفي منظرو " الاصلاح " بهذه الحجج بل يتكأون على حجة اخرى هي ان تجارب القطاع العام ودور الدولة الاقتصادي قد انتهى على صعيد عالمي، وان التاريخ الحالي هو تاريخ الاصلاحات الكبرى، وضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين ! لكن عندما يتساءل المرء عن التجارب يأتيه الجواب جاهزا ومعلباً: تحقيق الاصلاح يتم من خلال التجارب " الناجحة " وهذه التجارب معروف صاحبها ومنفذها وهو صندوق النقد الدولي، فهذه الوصفة هي الاكثر سحراً ورواجا في ظل هيمنة القطب الأوحد. هنا يمكن للمرء ان يفهم لماذا كل هذه الجلبة ؟. المطلوب هو واضح وضوح الشمس: تطبيق وصفة هذا الصندوق وشروطها المعروفة. وحتى عندما يأتي الحديث عن " دور متميز " للقطاع الخاص المحلي فإنه يكبل بجملة من الشروط تجعل من الصعب تبلور قطاع صناعي محلي خاص، بل ان دور هذا القطاع يجب ان يكون جزأً من وصفة الصندوق واستراتيجيته التحويلية.

   وبحسب الموجة الرائجة فإن المؤيدين لتطبيق هذه الوصفة في بلادنا ليسوا قليلين اليوم، وهذا أمر طبيعي في بلد يتحول من نمط احادي للتفكير الى التنوع، وبالتالي توقع ظهور مقاربات مختلفة لمثل هذه القضايا. لكن لا بد من التذكير بأن الكثير من المقاربات تنطلق من أوهام ايديولوجية وليس من مقاربات علمية تعود الى التاريخ الفعلي وتستخلص منه الدروس المطلوبة. وبالعودة الى التجارب التي تراكمت في بلدان عديدة، وهي كثيرة، يمكن الاشارة الى أن شروط صندوق النقد الدولي، التي طُبقت في العديد من البلدان باعتماد مبدأ " الكفاءة الاقتصادية " والتوازنات الماكرو/اقتصادية، قادت في الواقع الى عدة نتائج فعلية من بينها: ازمات اقتصادية عميقة، بطالة وافقار شامل، تهميش اجتماعي واستقطاب عميق. ومن حق المرء ان يتساءل، واقتصادنا يعاني من ازمة بنيوية عميقة هي جزء عضوي من الازمة الشاملة التي تمر بها بلادنا في لحظة تطورها اليوم، هل حقا أن الخصخصة و " الاصلاحات الاقتصادية الكبرى " المطروحة ستكون صيرورة تطور حقيقي، على عكس التجارب السابقة في مختلف بقاع العالم؟ ولا شك ان الجواب بنعم سيكون في منتهى السذاجة لأن التاريخ سيتكرر ولكن أما بملهاة أو مأساة ولن يكون، في مثالنا العراقي الاصيل، عكس الوجهة العامة لتاريخ التجارب الملموسة.

   استنادا الى جملة الملاحظات اعلاه يمكن القول ان الرهان على خيار الخصخصة بحسب هذه الوصفة وفي ظروف الازمة الاقتصادية البنيوية، والفوضى الامنية، والاستقطاب السياسي الراهن لن يؤدي في الواقع إلاّ الى خلق الشروط لتبلور استقطاب اقتصادي/اجتماعي اعمق بكل ما يحمله هذا من اثار سلبية، ونشوء مافيات اقتصادية و "راسمالية محاسيب" ستوظف حجمها الاقتصادي المتصاعد بشكل عاصف في ضمان مواقع في البنية السياسية وهي التي تحمل الكثير من التناقضات.

   ومن الطبيعي فإن التطور بهذه الوجهة سيفضي الى حدوث تبدل في ميزان القوى الطبقي/الاجتماعي، وبالتالي نشوء علاقات جديدة بين هذه القوى والسلطة المهيمنة في التشكيلة الاجتماعية/الاقتصادية قيد التبلور. ولأن هذه التشكيلة تعيش مرحلتها الانتقالية بإتجاه هيمنة نمط انتاج هجين وملتبس وانتقالي (حيث لم يتبلور بعد بذلك الوضوح بفعل عوامل عديدة محلية ودولية مرتبطة بمن هندس التغيير من خلال خيار الحرب وما انتجه من احتلال وما افرزه من قوى طبقية مهيمنة داخليا/تابعة للخارج)، فإن هناك محاولات محمومة لانتاج القوى التي سيرتكز اليها هذا التحول. وفي حال التحول الكامل إلى الخصخصة ضمن وصفة صندوق النقد الدولي وبمباركة العديد من القوى الماسكة بزمام السلطة رغم تباين مرجعياتها، فإن البنية الاجتماعية/ الطبقية ليست وحدها التي ستتبدل بل الدولة نفسها والتي سيتغيير شكلها ومضمونها رغم انها لم تتشكل بعد في صورتها الجديدة، وهذه مفارقة اخرى. فالخصخصة واقتصاد السوق سيطلقان " من القمقم " قوى اجتماعية جديدة تتعزز مواقعها الاقتصادية بشكل مستمر وستوظف ذلك لتحقيق مواقع في بنية النظام السياسي تتيح لها ممارسة أدوار مختلفة في مختلف مستويات التشكيلة الاجتماعية، بحسب توزيع صارم للادوار والمهام والثروة والنفوذ.

   واذا تم تطبيق هذه الوصفة، وهذا سيتم حتى ولو بقوة المدفع ! في ظل الازمة التي يعاني منها الاقتصاد العراقي، فإن اندماجه بالاقتصاد العالمي، وهو اقتصاد راسمالي دما ولحما، سيكون غير متكافي من حيث الاثار التي ينتجها. وأول تلك الاثار تتمثل بانكشاف الاقتصاد العراقي على المنافسة العالمية الكاسحة، مما يؤدي (وقد تحقق بعضها ان لم نقل كلها بالفعل) الى ثلاث نتائج خطيرة:

- تهميش القطاع الصناعي واساسا التحويلي منه، حيث ستتضاءل قدرة الصناعات المحلية (وهي الضعيفة اصلا) على منافسة المنتجات القادمة من الخارج، وبالتالي الى انهيار العديد من الصناعات بل والفروع الصناعية (وهذا ما واقع فعلا)، وبالتالي تدمير أية امكانية حقيقية لتبلور برجوازية محلية عراقية، وخصوصا البرجوازية الصناعية منها. وهكذا فان " إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي"– كما جاء في المادة (1) من "القانون"،و" تشجيع تنمية القطاع الخاص"كما جاء في المادة (4) تصبح مجرد فرضيات مقطوعة الجذور وتنتمي الى واقع اخر.

- تدمير القطاع الزراعي، نتيجة رفع الدعم الحكومي، بسبب شروط هذه الوصفة، مما يؤدي الى عدم قدرة المنتجات الزراعية على منافسة مثيلاتها من المنتجات الاجنبية المماثلة التي ستغزو الاسواق المحلية. وسيؤدي هذا الى حدوث استقطاب وتمايزات داخل المجموعات الفلاحية تقود الى تهميش/تدمير البعض منها وتعاظم ثراء الاخرى. ومن بين السيناريوهات المتوقعة يمكن افتراض عودة الاقطاع الى هذا القطاع تحت ذرائع مختلفة من بينها " استعادة الملكية التي اغتصبتها الحكومة من خلال تطبيقها قانون الاصلاح الزراعي "!!!.

- تعميق الاختلال في الميزان التجاري من خلال مقص التجارة الخارجية، حيث التبادل سيكون لا متكافئا نتيجة اختلاف الانتاجية في كلتا المجموعتين واشتغال قانون القيمة العالمي (الراسمالي طبعا) لصالح الطرف الاقوى، وهو هنا الاقتصادات الراسمالية المتطورة والمعولمة. وعلى هامش هذا الاختلال ستنشأ " الظروف المثلى " لتبلور برجوازية كومبرادورية وتطور الموجود منها لتشكل حلفا قويا مع البرجوازية الطفيلية الصاعدة بسرعة الصارخ في المشهد العراقي، وخلق الشروط والاسس لصعود حلف يتبلور بوضوح هو حلف البرجوازية البيروقراطية-الطفيلية-الكومبرادورية وما سينتجه ذلك من اثار على مسار التحولات الاقتصادية –الاجتماعية والسياسية الراهنة واللاحقة.

- منعا لأي التباس وسوء تفسير، سواء كان مقصودا أم لا، لا تعني هذه الملاحظات انغلاق الاقتصاد العراقي بل مع انفتاحة على الخارج والاستفادة من الجوانب الايجابية تدويل الحياة الاقتصادية، ولكن المشكلة لا تكمن هنا بل في شروط هذا الانفتاح وما هي القوى الاجتماعية التي تقف وراءه.

   وانطلاقا من الحاجات الوطنية الفعلية الملموسة للاقتصاد العراقي في هذه المرحلة الانتقالية والمعقدة، يجب الانتباه الى ان الإصلاحات المطلوبة لا يمكن أن تتم بفعل قوى السوق وحدها، بل تتطلب تدخلاً وفعلاً نشيطا من قبل الدولة، التي يجب أن تستعيد دورها التنموي دون أن تلغي دور القطاع الخاص المحلي كقطاع يعمل في إطار خطة وطنية شاملة وضمن استراتيجية تعرف اولوياتها جيدا وليس وفقا لوصفات صندوق النقد الدولي.

   وملخص القول، وحتى لا نتيه في لجة الاسئلة الساذجة والتبسيطية، علينا ان نتناول هذه النتائج بمنظور استراتيجي وليس البقاء حبيسي نظرة قاصرة تنشغل بالراهن فقط. إن التحليل العميق لاستراتيجية الخصخصة وخطابها الرنان سيكشف لنا أن الامر يتعلق بقضية جوهرية وليست شكلية وهي: تحويل الاقتصاد العراقي الى مجال لإعادة توظيف الثروات في قطاعات محددة دون غيرها، وهي تلك القطاعات المكملة لاحتياجات الرأسمال المعولم ذاته، وليس في القطاعات الانتاجية الاساسية كالزراعة والصناعة التحويلية. وهذا الاستناج نابع من حقيقة أن وصفة صندوق النقد الدولي هي بنتُ تاريخ التطور العالمي للرأسمالية في لحظة عولمتها العاصفة، وبهذا المعنى فإن هذه الوصفة تهدف اليوم الى اعادة انتاج الآليات التي تكفل وتواصل تهميش بلدان "الاطراف" وتعزيز موقع بلدان "المراكز" الرأسمالية، ولكن في ظروف تاريخية جديدة.

   ان الملاحظات اعلاه لا تدفع بأي حال من الاحوال الى اعتماد مقاربة نقيضة للمقاربة السابقة، أي التنظير للقطاع العام دون قيد أو شرط. ان التناول الصحيح لهذه القضية يقع على مستوى اخر من الطرح، ويتمثل بضرورة اعتماد مقاربة نقدية للاوضاع التي سادت في هذا القطاع، وتحليل العوامل والاسباب الفعلية التي ادت الى هذه النتائج التي تعاني منه مؤسساته اليوم. ويبدو ان المشكلة الفعلية لا تكمن اليوم في تخصيص القطاع الحكومي أم لا، بل انها تكمن في مجال اخر يسعى الكثير من الباحثين، حتى بعض الجاديّن منهم، الى عدم الاقتراب منه. ان المشكلة هذه تكمن في بلورة منهجية واضحة تتيح التغلب على آليات النهب التي تعرض ويتعرض لها القطاع الحكومي. وهذا يشكل مدخلا جديدا ومقاربة جديدة تتيح الامكانية لاعادة بناءه استنادا الى معياري الكفاءة الاقتصادية والوظائف الاجتماعية التي تؤديها الدولة في الحقل الاقتصادي، من خلال تدعيم الرقابة المجتمعية واعتماد مبدأ الشفافية في تسيره، وتنشيط دور الفاعلين الاجتماعيين المختلفين، بما يعيد الاعتبار الى الترابط الجدلي ما بين التنمية والديموقراطية. وقد بينت الحياة وتجارب التاريخ عدم صواب المقاربات التي تنظر الى القطاع العام بكونه شرا مطلقا والقطاع الخاص خيرا مطلقا والعكس صحيح ايضا. ويعني ذلك ان البديل يكمن في استراتيجية تنموية بديلة ومتكاملة توظف كل القطاعات (العام والخاص والمختلط والتعاوني) دون اشتراط مسبق لدور قيادي لهذا القطاع أو ذاك في المرحلة الانتقالية العاصفة والمفتوحة الاحتمالات.

   ولكن هذا الاجراء وهذه المقاربة يرتبطان، في واقع الحال، باشكالية اخرى هي الدولة التي يدور اليوم صراع محتدم حول شكلها ومضمونها. فإعادة بناء القطاع الحكومي على الاسس المشار اليها اعلاه وتنشيط دور القطاعات الاخرى يفترض أول ما يفترض تأسيس دولة ديمقراطية عصرية، تمثل نفيا لدولة الاستبداد السابقة التي انتجت آليات النهب وسوء الادارة والبيروقراطية والقوى الطفيلية التي تعتاش عليها.

   هكذا، اذن، يمكن القول انه لا الخصخصة ولا القطاع العام يمثلان خيارات اقتصادية صرفة بل هما يعبران عن خيارات سياسية كبرى وخطيرة في آن واحد، تدور في جوهرها حول محتوى الدولة العراقية الجديدة، وشكلها، والوجهة التي تتخذها: اما تحت حراب صندوق النقد الدولي ونصائح منظريه، أو من خلال الارادة العراقية الوطنية والديمقراطية، أي انهما يقعان ضمن معركة البدائل التي تتصارع في هذه اللحظات المتوترة والمفتوحة. تلك هي المسألة الحقيقية، فمهما نافح صقور الليبرالية الجديدة ونسور صندوق النقد الدولي ومستشاريهم الجالسين في غرف مكيفة، فإن الامر يدور حول البدائل الحقيقية لحل المشاكل الحقيقية التي توجه بلادنا ومجتمعنا، بعيدا عن أوهام ايديولوجيا التكييف الهيكلي.

   ليس الخصخصة بطبعة دهاقنة صندوق النقد الدولي خيار العراقيين الوحيد اليوم. والمطلوب ممن يراهنون عليها القيام بقراءة صاحية لنتائج التجارب الفعلية للعقدين الاخيرين، وتجنب الارتكان الى أوهام خطاب الخصخصة وشحنته الايديولوجية الباذخة والذي هو احد تجليات " الاصولية الاقتصادية الجديدة ". ففي هذه التجارب هناك الكثير مما يفقأ العين من بطالة، وتهميش وافقار واستقطاب اجتماعي فاضح، وتدمير للقوى المنتجة، وصعود صارخ لمافيات اقتصادية تمسك بتلابيب الساسة وتطيح بهم عندما يجرأون و "يغردون خارج السرب " ، فهل المطلوب منا تكرار هذه الوصفة، بكل ما تحمله من تجارب مريرة؟ سؤال برسم الاجابة لمن يراهنون على هذا الخيار.

   بعد هذه الملاحظات التمهيدية الضرورية لا بد من العودة مجددا الى " القانون " وقرائته قراءة تفكيكية وليس مسطحة. يمكننا القول ان هناك فكرتان مترابطتان في ثناياها "القانون" حتى وان افترقتا فإنهما يظهران كالتوأم السيامي!

  • ففي العديد من صفحات " القانون " اشارات الى " إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وفقاً .... متطلبات التحول لاقتصاد السوق ، وضمان توسيع قاعدة الإنتاج من خلال اعتماد آليات السوق وتحرير التجارة الخارجية والداخلية وضمان المنافسة العادلة" (المادة 1 من القانون). كذلك: "الانتقال من الإدارة المركزية للاقتصاد الى الإدارة اللامركزية" (الفقرة خامسا من المادة 2)، او:تنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي(الفقرة ثالثا من المادة 4)، او: "تسهيل خصخصة الشركات العامة" (الفقرة سادسا من المادة 4).
  • الصيغة أعلاه وحتى تشق طريقها الى التطبيق تفترض إعادة النظر في طبيعة الدولة العراقية بتحويلها من دولة مالكة الى دولة حارسة أي تغيير دورها وحصره في إطار تنظيمي صرف باعتبارها هنا بمثابة " شرطي " يقوم بحماية هذا النمط الجديد من التطور الذي تراهن عليه الرؤية الجديدة ممثلة بـ " قانون الاصلاح الاقتصادي الاتحادي".

   ومن خلال الاقتباسات اعلاه يبدو المعنى واضحا هنا: إقصاء الدولة والرهان على القطاع الخاص. والخيار هنا ليس فنيا كما اعتاد " منظرو الاصلاح" طيلة السنوات الماضية الترويج له، بل نحن أمام مقاربة إيديولوجية. وثمة فرق واضح بين تقديس السوق واقتصاده وآلياته ، والدعوة الى اقتصاد مفتوح ومندمج في الاقتصاد العالمي على اسس المساواة.

   وفي لحظة التطور الملموسة التي تمر بها بلادنا فإن تفعيل النمو وتعظيمه ورفع معدلاته لا بد أن يحكم خيارات التغيير وأهدافه ومجمل الإصلاح والتحديث الاقتصادي ولاسيما التكنولوجي والصناعي والزراعي و " ضمان تنمية اقتصادية شاملة ورفع مستوى المعيشة لإفراد المجتمع وزيادة فرص العمل" التي يؤكد عليه " القانون ". لكن النمو الفعال المستدام، في مثل الظروف التي يمر بها العراق، لا يمكن تحقيقه بتقزيم دور الدولة الاقتصادي والاستثماري خصوصا وإنما يتحقق هذا النمو بتعظيم هذا الدور نوعيا وكميا وليس نوعيا فقط، يؤكد ذلك الانعكاس السلبي لتراجع الاستثمار العام الصناعي لا على أداء القطاع العام الصناعي فحسب، وإنما على الاستثمار الوطني الإجمالي والنمو الاقتصادي العام. والمثير للانتباه ان " القانون" لا يضم بين ثناياه اية اشارة الى القطاع الصناعي التحويلي وكأن الاصلاح غير معني بذلك. وهنا يمكن كشف التناقض البنيوي الناظم بين اهداف الاصلاح وآليات تحقيقه أي ما هي القطاعات التي يراهن عليها صائغو هذه الطبعة من "الاصلاح". وطبيعي ان هذا الوضع ناجم عن انعدام وجود استراتيجية اقتصادية – اجتماعية تعرف اولوياتها واهدافها الرئيسية بوضوح.. فمثل هذه الاستراتيجية لم تتبلور بعد لحد الآن وربما لن تتبلور خلال الفترة القريبة المقبلة. ومن يقرأ استراتيجية التنمية الاخيرة سيلاحظ ذلك بالتاكيد.

   نحتاج إذن في اللحظة الراهنة من تطور الاقتصاد العراقي الى مقاربة عقلانية، واقعية تنطلق من معالجة المشكلات الفعلية. الفكرة المحورية البديلة إذن هي الجمع بين دور السوق ودور الدولة في مواجهة العديد من المقاربات الإيديولوجية الأحادية الجانب التي أما تقدس دور السوق بالمطلق أو دور الدولة بالمطلق. وكما اكدنا سابقا فقد بيت التجربة التنموية العالمية انه لا يمكن لآليات السوق لوحدها ان تحقق كفاءة الإنتاج والعدالة الاجتماعية وخصوصا في بلدان تعيش في مراحل النمو وإعادة البناء، مثلما هو الرهان على دور وحيد للدولة في هذه العملية.

   في اللحظة الراهنة تواجهنا جملة مشاكل واختلالات، ووجود بطالة مرتفعة، والجانب الأمني وتقيداته المعروفة ولذا يمكن القول انه لا يمكن تحقيق إعادة الاعمار ولا إطلاق تنمية مستدامة ولا اطلاق عملية ديمقراطية من دون دور نشيط للدولة وتحفيز القطاعات الأخرى: الحكومي والمختلط والتعاوني.... الخ.

   وثمة ملاحظة مهمة هنا لا بد من ذكرها ونعني بها التعددية الاقتصادية وكيف يتوجب النظر اليها. لاشك ان وجود قطاعات اقتصادية مختلفة، والإقرار بها والتعامل معها، هو انعكاس لواقع طبقي واجتماعي موضوعي في بلادنا والذي سيستمر لفترة طويلة، ولتطلع هذه القوى الى شغل مكانها في الاقتصاد الوطني وفي عملية التنمية ثم انعكاس هذا الدور في المشاركة السياسية وتحمل أعباء المرحلة وتحدياتها. واضافة لذلك فان لتبني مفهوم التعددية الاقتصادية آثارا إستراتيجية تتجاوز الحقل الاقتصادي لتمتد الى الحقل السياسي ممثلا بالتحالفات السياسية المطلوبة وأهمية ترصينها على أساس مصالح ملموسة، في إطار التحالفات الطبقية والسياسية الواسعة التي تشكل الكتلة التاريخية في الظروف الراهنة حيث اندماج غير مسبوق بين المهام الوطنية/الديمقراطية والاجتماعية/ الاقتصادية. ومن هنا فإن النضال في سبيل انجاز هذه المهمات، بالمعنى التاريخي، يمثل مهمة راهنة تستقطب أوسع الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية من برجوازية تقليدية وطنية وبرجوازية صغيرة مدينيه وعمال وفلاحين وكادحين من شغيلة اليد والفكر..الخ. ولهذه الأسباب، وغيرها كثير، فان طرح موضوع التعددية الاقتصادية ينبغي فهمه ليس باعتباره ينطلق من مناورات تكتيكية قصيرة النظر بل من اعتبارات إستراتيجية ذات طابع موضوعي.

   نعود الى "القانون" ذاته مجددا، فقد يلاحظ القارئ انه يتحدث –أي القانون- عن العلاقة بين هذه القطاعات ولكنه في الواقع ينطلق من مقاربة ايديولوجية للامور منحازة مسبقا للقطاع الخاص ومسكونة بامكانية ان يلعب هذا القطاع الدور القيادي للاصلاح في المرحلة الانتقالية. غير ان الواقع الفعلي للقطاع الخاص ولاسباب عديدة لا يستطيع انجاز هذه المهمة اليوم.

   أما بشأن " الإصلاح المنشود" فهو مشروط بمناخه، لذا ليس صحيحا الحديث بالعموميات كما جاء في "القانون". فمنذ سقوط النظام الدكتاتوري و " الإصلاح " جرى حسب وصفة صندوق النقد الدولي: " التكييف الهيكلي والخصخصة دون قيد أو شرط " ومشيئة خبرائه حيث جرى التركيز على جملة مهام كبرى يمكن حصرها في:

  • إزالة الاختلالات في ميزانية الدولة والميزان التجاري.
  • المطالبة بتحرير التجارة.
  • إجراء تغييرات هيكلية (خصخصة وإصلاح المؤسسات العمومية).

   هذه الوصفة لم تنظر وللأسف الى ظروف العراق الخاصة بحيث لا يجوز ان يكون الإصلاح هدفا بحد ذاته بل جزء من إستراتيجية تنمية شاملة.

   وكما هو معروف، ترتكز السياسات الاقتصادية للتكييف على إعادة تشكيل الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة: فلم تعد " دالة الهدف " المعلنة لديها: التنمية وعدالة التوزيع، ولكنه (الإصلاح الاقتصادي.....؟) أما وسائل العمل فإنها تنطلق من التخفيف من المسؤوليات أو عبر السياسات المالية من خلال الإنفاق العام بما فيه مخصصات الدعم السلعي.

   التجربة التي راهنت وصفة الصندوق عليها وطبقت في العديد من البلدان وادت في بعضها الى انفجار اجتماعي (مثل ما حدث في مصر وتونس في اوائل 2011 او ما اطلق عليه "الربيع العربي")، تتيح الاستنتاج بأنها قادت الى جملة من النتائج من بينها:

1. تهميش دور القطاع الخاص المحلي فليس لديه ما يقوم به في ظل إطلاق العنان للمنافسة دون تحضير الممهدات الضرورية لها مما أدى الى تدمير الصناعة والزراعية الوطنية. ومن حق المرء ان يتساءل: كيف يطرح "القانون" مطلب ان يلعب القطاع الخاص الدور القيادي في مثل هذه الظروف؟ ربما ثمة استنتاج واحد ووحيد هو رهان "القانون" على القطاع الخاص الأجنبي أو على دور ما للبرجوازية الكومبرادورية. وهنا لا يستقيم الحديث مع ما طرحه "القانون" من مسعى لبناء " اقتصاد مترابط ومتين ".

2. اتساع شقة التباين بين القوى الاجتماعية المختلفة في النصيب النسبي من الثروة والدخل، وهذا يؤدي الى بروز الظاهرة التي يمكن ان نطلق عليها (الاستقطاب الاجتماعي) بمعنى التحديد الجامد والصارم نسبيا للمواقع الاجتماعية على سلم الثروة والدخل لمختلف الفئات الاجتماعية، وبالتالي تصادم أقدارها ومصائرها بفعل السعي المتضارب الى اكتساب طريقة محددة للممارسة الحياة.

مضمون الاصلاح..!

   بداية، وتجنبا لاتهامات "صقور الاصلاحات الاقتصادية" في بلادنا التي يحاولون من خلالها احباط اية محاولة جدية لتدشين نقاش حقيقي حول هذه القضايا ناقلين اياها من العلم الى الايديولوجيا بتكفير أية مقاربة لا تكون خارجة من معطف المؤسسات المالية والنقدية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، نود التاكيد هنا مجددا على انه لا خلاف على أن الاقتصاد العراقي بحاجة إلى إصلاح بل وإصلاح جذري. ولكن لا بد من اضافة قضية اخرى هي ان المشكلة لا توجد هنا بل في مكان آخر، ونعني بها مضمون هذا الإصلاح. فما روج له خلال السنوات الأخيرة من طبعة للإصلاح باختلاف "المدارس" التي تطرحها تشترك في الفلسفة والغايات والأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذ تهدف إلى اعتماد السوق محورا للنشاط الاقتصادي وآلية لممارسته ولتوجيهه، والترويج إلى مفهوم وممارسة الخصخصة من دون أن يسبق ذلك دراسات جدوى حقيقية. وينافح صقور الخصخصة و"الإصلاحات الاقتصادية" مؤكدين على أن هذه العملية يجب أن تنطلق من تضييق دور الدولة الاقتصادي وإعطاء القطاع الخاص الأولوية في السياسات الاقتصادية، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية ومتعدية الجنسية، مهملين حقيقة صارخة قوامها أن العديد من تجارب الخصخصة يدلل على خطأ النظرة الأيديولوجية التي تعتبر القطاع الخاص خيراً مطلقاً والقطاع العام شراً دائما.

   وبالعودة الى "القانون" يلاحظ انه يعرف "الاصلاح الاقتصادي" في المادة (1)- اولا بانه " إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وفقاً لمبادئ الاقتصاد الحديثة ومتطلبات التحول لاقتصاد السوق، وضمان توسيع قاعدة الإنتاج من خلال اعتماد آليات السوق وتحرير التجارة الخارجية والداخلية وضمان المنافسة العادلة".

   وبتفكيك التعريف اعلاه الى مكوناته يلاحظ ان ثمة إذن اربعة اسس/مفاهيم يستند اليها الاصلاح المنشود:

  • اقتصاد السوق
  • اليات السوق
  • تحرير التجارة الخارجية والداخلية
  • ضمان المنافسة العادلة

   بهذا المعنى فان الاصلاح المطلوب، وفقا لهذه الصيغة، مسكون بالاليات المعروفة (اقتصاد السوق، اليات سوق، تحرير التجارة، المنافسة).

   بمعنى اخر ان "القانون" هنا يركز على الجوانب الفنية للقضية مهملا بعدها المجتمعي ومضمونها. في حين أن الاصلاح الاقتصادي كما معروف ليس عملية فنية فقط بل هو عملية مركبة متعددة الابعاد ويفترض ان تشمل جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية و الفئات والشرائح الاجتماعية بحيث يتأثر الجميع من خطوات الإصلاح. وإذا لم تكن الخطوات مدروسة ومتكاملة عندها ستصيب النتائج البعض على حساب البعض الآخر.

   فالإصلاح الاقتصادي بهذا المعنى عملية مركبة ونجاحها يحتاج لارادة سياسية وتوافق الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية المعنية بالإصلاح والتي تحقق تتحقق مصالحها في نهاية المطاف من خلاله.

   ومن هنا تضارب الآراء وتعارضها وتقاطعها أحيانا تجاه الإصلاح المنشود. وبهذا المعنى لا توجد وصفة جاهزة للاطلاح تصلح للتطبيق بل كل تجربة هي بنت شروطها وظروفها المحلية وتتأثر تلك " الوصفة" بتناسبات القوى السائدة في الفترة التي تطبق فيها تلك الاصلاحات.

************