تعرض الشيوعيون في مدينة الموصل اسوة بكافة شيوعيي العراق بعد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الى الملاحقة والاعتقال والتعذيب، بسبب مقاومتهم لذلك الانقلاب، وقد غادر الكثير منهم المدينة الى جبال منطقة دهوك، واختفى اخرون هنا وهناك، واعتقلوا بالعشرات ومنهم مسؤول اللجنة المحلية للتنظيم طالب عبدالجبار.
ولد طالب عبدالجبار سنة 1929 في بغداد ومن اسرة عمالية، وانتمى الى الحزب الشيوعي العراقي في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وعمل في مجال التنظيم النقابي، وساهم في قيادة العديد من الاضرابات والتظاهرات العمالية، وقد اعتقل وحكم بالسجن سنة 1952 وهو طالب في الصف الخامس العلمي، واصبح بعد ثورة 14 تموز 1958 احد اعضاء لجنة (التوجيه النقابي المركزية) التي كانت تقود وتوجه العمل النقابي في العراق، واصدر كراساً بعنوان «ربع قرن من تاريخ الحركة النقابية، وفي سنة 1960 رشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب، وفي سنة 1961 كلف بمهمة سكرتارية اللجنة المحلية في الموصل (1).
قاد الشهيد تنظيم لواء(محافظة) الموصل وكان يضم تنظيمات الحزب في دهوك وزاخو والعمادية وعقرة والشيخان وتلعفر وسنجار والشرقاط، قادها في مرحلة صعبة وفي ظروف حرجة، فقد كانت عمليات الاغتيالات تطال الشيوعيين خلال المدة (1959-1963)، كما ان وزارة الداخلية العراقية امتنعت عن اجازة الحزب الشيوعي العراقي بعد صدور قانون الاحزاب في الاول من كانون الثاني 1960، ومع هذا تمكن بعمله ونشاطه الدؤوب من صيانة تنظيم الحزب وكسب الكثيرين للعمل في صفوفه، حتى انه كان يزور باستمرار تنظيمات الحزب خاصة في دهوك وزاخو والعمادية وعقرة.
لقد كان الشهيد شاباً ممتلئ الحيوية، معتدل القامة رشيقاً حسن الصورة، ومثقفاً شيوعياً كثير القراءة، وعلى حد قول معاصريه والذين عملوا معه لم تشهد مدينة الموصل التي وجد فيها التنظيم الشيوعي منذ مطلع اربعينيات القرن الماضي، مسؤولاً في مستوى نشاطه وتواضعه وثقافته.
كان الشهيد يسكن في دار متواضعة في منطقة وادي حجر الشعبية ومع اسرة شيوعية عند قيام انقلاب 8 شباط 1963، وعلى الرغم من الاعتقالات والملاحقات التي طالت شيوعيي المدينة الى حد كاد ان يتفكك التنظيم ويتلاشى، فقد رفض الشهيد مغادرة المدينة الى الجبال القريبة منها، وظل يعمل بمنتهى السرية والكتمان فحافظ على التنظيم من التفكك، كما حافظ على العديد من كوادره، الى ان اكتشف الحرس القومي (2) مكان اختفائه فقاموا باعتقاله في نيسان 1963.
قال سالم حمدون ملا علو(3) ، عند مقابلتي له في 21 آب 1989: كنت امراً او مسؤولاً لقاطع من قواطع الحرس القومي بعد انقلاب 8 شباط، وكان مقرنا في مديرية النشاط المدرسي(4) لتربية محافظة الموصل، بجوار حديقة الشهداء والمكتبة العامة. عندما اعتقل افراد من هذا القاطع مسؤول تنظيم الحزب الشيوعي طالب عبدالجبار، وكان رجلاً معتدل القامة هادئاً ذا شخصية قوية ومتماسكة ولم ينبس ببنت شفه وعندما سئل عن شخصيته قال بهدوء: انا مسؤول اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في الموصل، فاخذت الشتائم تنهال عليه من افراد الحرس الذين اخذوا يتظاهرون امامي بالبطولة والشجاعة وكيف انهم كانوا يبحثون عنه منذ اول يوم للانقلاب، الى ان ظفروا به، وكان صيداً ثميناً فعلاً بالنسبة لنا حتى اننا أعلمنا بغداد وقيادة الحرس القومي بانجازنا هذا. ولم يمض على اعتقاله ساعة الا وبدأ الحرس بتعذيبه، متوقعين انه سينهار بسرعة ويكشف لهم تنظيمات الحزب في محافظة الموصل.
ويمضي سالم ملا علو بالقول: لقد عذب طالب عبدالجبار تعذيباً شديداً لا يوصف، وكان صموده وهدوؤه يزيدان من غيظ وغضب القائمين على تعذيبه، استمر التعذيب مدة طويلة، ولم يبق احد من افراد الحرس الا وشارك في عملية التعذيب، وكل يدعي انه وباساليبه سوف يجبره على الاعتراف. لقد عذب الى ان تقيحت مناطق مختلفة من جسمه وتهشمت عظامه، ومع هذا بقي صامداً، لم يعترف ولم يتنازل او يتوسل ابداً. لقد اعجبت به وبشجاعته، وفي الحقيقة لم ار في حياتي شجاعاً وكائناً مثل طالب عبدالجبار، لذا بدأت بالتعاطف معه وامرت بالكف عن تعذيبه.
لقد انتشرت قصة تعذيب طالب عبدالجبار وصموده في الاوساط الاجتماعية والثقافية في المدينة، وكيف ان الحرس القومي المعروف بدمويته وعنفه وبطشه، عجز عن اجبار شخص على الاعتراف؟ حتى ان رئيس تحرير جريدة فتى العرب احمد سامي الجلبي(5) ، وكانت الوحيدة التي تصدر حينذاك في الموصل، ذهب الى قاطع الحرس القومي، وطلب من سالم ملا علو ان يسمح له بمقابلته ربما يستطيع وبالكلام الطيب ان يحصل منه على بعض المعلومات المفيدة، وذلك بالاستفسار منه عن المعلومات وتطورات الاحداث قبل وبعد انقلاب 8 شباط.
قال احمد سامي الجلبي عند مقابلتي له في 20 آيار 1990: دخلت مكان اعتقاله وكانت تنبعث منه روائح كريهة ومنفرة، فوجدته متكئاً على الحائط وقد تكور جسمه واسود جلده، وكان يلعب باصابع يده اليمنى بقلم حبر، وبجواره عدد من الاوراق البيضاء، علمت فيما بعد انهم بعد ان عجزوا عن انتزاع أي اعتراف منه، تركوا لديه تلك الاوراق مع القلم لربما يندم ويكتب اعترافاته.
ويمضي الجلبي بالقول: دخلت معه في حديث عن الاوضاع وما آلت اليه، فاخذ يتكلم بهدوء وفي امور عامة، الا اني لم اتمكن من الحصول على اية معلومة تخص الحزب وتنظيماته، وخرجت بعد اقل من ساعة من عنده معجباً، وحال خروجي التف حولي الحرس القومي قائلين: هل حصلت على شيء منه؟ فقلت: انه انسان غير عادي، ولا يستحق منكم هذه المعاملة !.
يقول سالم ملا علو: لقد اعجبت بطالب عبدالجبار بشخصيته وصلابته وهدوئه في تلك الظروف القاسية، فاخذت ازوره في معتقله واجلب له الطعام من البيت (السفرطاس)، ولم يزره احد اثناء اعتقاله سوى والدته العجوزة واعتقد انه كان وحيدها(6). وبعد مدة طلبت الاستخبارات العسكرية ان نسلمها طالب عبدالجبار، وفعلاً تم تسليمه، وكان بودي انقاذه ولكن ذلك كان مستحيلاً، لأن انساناً نادراً مثل طالب عبدالجبار كان يجب ان لا يقتل، انه لم يلد ليقتل، لكن لم يكن في اليد حيلة، لقد سمعت فيما بعد انه اعدم، وفي الحقيقة ان الاستخبارات قامت بتصفية ما تبقى من جسده، اغرورقت عيناي بالدموع، عندما اتوا إلي بقلم حبره باركر(21) قائلين: انه اوصى قبل رحيله باهداء قلمه هذا الى سالم ملا علو، ليتذكر هو وحرسه القومي التعذيب الذي تعرض له في مقرهم.
حتى في مقر الاستخبارات العسكرية لم يتمكنوا من انتزاع أي اعتراف منه، مع انهم عرضوا عليه الحفاظ على حياته وتخفيض حكم الاعدام لقاء اعترافه، الا انه اجابهم: لن تتمكنوا من الحصول على اعتراف مني، جربوا المستحيل، واقضوا على الحزب الشيوعي، ثم عودوا واعيدوا هذا السؤال علي، فقاموا باعدامه في 3 آيلول 1963(7).
ــــــــــــــ
الهوامش
(1) الحزب الشيوعي العراقي، لجنة مطبوع شهداء الحزب، شهداء الحزب شهداء الوطن، شهداء الحزب الشيوعي العراقي 1934-1963، ج1، ط2، (بغداد، 2008)، ص259.
(2) التنظيم المسلح لحزب البعث، ظهر اثر انقلاب 8 شباط 1963، وقام باعمال يندى لها الجبين، حتى اطلق عليهم اسم (الحرس اللاقومي)، وقد انتهى اثر انقلاب 18/11/1963.
(3) من اسرة معروفة بالموصل وهو من مواليد 1927، ومع انه كان من اوائل البعثيين في الموصل، الا انه كان لا يحب الحديث عن انتمائه للبعث ولا يعتز بالمدة التي عمل في صفوفه، ولم يكن راضياً عن اعمالهم وسياستهم.
(4) لقد حول البعث الكثير من المدارس والمؤسسات الحكومية الى معتقلات لتعذيب المعارضين له خاصة الشيوعيين، ومن المدارس التي اتذكرها وحول الى معتقل مدرسة الصديق الابتدائية للاحداث في مدخل شارع الفاروق من جهة دورة باب الجديد.
(5) ولد في الموصل سنة 1932، حصل على شهادة الدبلوم في الصحافة بالمراسلة من مصر، عمل في الصحافة الى جانب والده ابراهيم الجلبي، قتل اخوه الطبيب سعدالدين الجلبي اثر حركة الشواف في 8/3/1959 (متوفي).
(6) كان الشهيد قد طلب يد عضوة الحزب زاهدة علي مختار العمادي، وقد وافق ذويها على طلبه، الا ان انقلاب 8 شباط وما اعقبه من تطورات حال دون عقد قرانهما.
(7) الحزب الشيوعي العراقي، المصدر السابق، ص259.