المنبرالحر

"المكبّعه" ترثي طارق الشبلي / حمدي العطار

كان متميزا فنيا وانسانيا، لمجرد ان تلتقي به مرة واحدة حتى يعجبك ان تصادقه الى الابد، لم اره غاضبا او متضايقا ، اينما حل يكون مجلسه الفرح والغناء والطرب وحديث في السياسة والثقافة والشعر وينسى الجميع همومهم مع اغانيه وصوته الشجي. كان من الملحنين القلائل الذين يؤدي الحانهم افضل المطربين ، وله اسلوبه في اداء اغاني الاخرين. فلو سمعته يؤدي اغنية (الحب كله) لأم كلثوم أو احدى اغاني عبد الوهاب او عبد الحليم فسوف تتمنى ان يؤدي كل اغانيهم بصوته الحنون. هو يضيف لهذه الالحان والكلمات شيئا جديدا غامضا، لكنه جميل. وكنت اتعجب: لماذا لم يشتهر كمغن عظيم مثلما عرفناه ملحنا مبدعا.
كان الفنان والملحن الرائع الراحل طارق الشبلي يتحلى بمزايا يختلف بها عن أقرانه من الفنانين، فبالاضافة الى طيبته وحبه للشعب وتفانيه في عشق الوطن ومدينته البصرة ،فهو يمتلك الصبر وقوة التحمل التي تجعله مبتسما في اصعب الظروف التي مر بها العراق، وما واجهه من صعوبات سياسية واقتصادية وحتى اجتماعية. طارق الشبلي كانت معاناته مركبة او مضاعفة، فهو مثل كل الفنانين يعاني من النظرة العامة المتخلفة الى الفن، وكذلك كان يعاني من اضطهاد سلطة البعث التي حاولت اغراء جميع الفنانين ليتركوا مبادئهم وحزبهم، ويتحولوا ليكونوا في نعيم «جحيم البعث». لكنهم فشلوا معه لأنه كان مثل « الصفصاف» الذي لم يفر مع «هوى المحبوب» ولا عاتب من يعذبه لأنه يجيبه «أكول الله على العايل» ويمشي كالملاك واثقا «مثل نجمة وكمر» وحينما لا يرضى عليه احد، لا يملك غير الاعتذار المتواضع: «لا تلوموني». كان بسيطا ومتواضعا لا يعرف التكبر او النرجسية، ولم يطلب من الاخرين ان يعاملوه معاملة خاصة نظرا لموهبته وكثرة عطائه. هو مثل الارض تعطي ولا تأخذ، يرى الاصدقاء يهجرونه مضطرين «شوف اسوّه هجرانك» ويتذكر جمال البصرة وكأنها مجموعة من العاشقات «مكحلات العيون» وهو يرغب أن يكون دائما ببراءة الاطفال «زغيرة كنت وانت زغيرون».
في سبعينات القرن الماضي ، خدمني الحظ أن اكون برفقة هذا الانسان الرائع حينما شكلنا فرقة فنية سياسية اطلق عليها فرقة (الطريق) نؤدي فيها الاغاني السياسية فقط. وتعلق في ذاكرتي هذه الجزئية: كنا نتدرب على الاغاني في بيوت الرفاق. كنا مجموعة من الشباب والشابات، معنا صاحب الصوت القوي والجميل والبشرة السوداء والقلب الابيض الشهيد الراحل (عبد الله). وفي احدى الليالي جاء الشاعر المبدع علي العضب وبين اصابعه ورقة صغيرة كان يلوّح بها، وكأنها «رغيف خبز» خرج توا من التنور ! وكان طارق الشبلي يحتضن العود بحنين وكأنه يحتضن العراق، وجلس معنا علي العضب يتلو القصيدة ونظره يصوبه نحو طارق الشبلي، وفي كل مقطع يطلب من طارق ان يعيده، كان يضيف كلمة او يغير أخرى ويدندن مع العود ليقتنص اللحن والجمل الموسيقية، التي تناغي كلمات العضب، حتى وصل الى مقطع يقول فيه العضب: «يا ديغول اطلع بره الجزائر صارت حرة. ورغم انه لحن هذه الجملة، لكنه عندما كان يرددها في الغناء يراها لا تنسجم مع باقي الجمل اللحنية، لذلك وبكل هدوء وبكلمات مؤدبة اقرب الى التوسل، طلب من الشاعر علي العضب ان يرفع هذه الجملة من القصيدة، لأنها تجعل الامر يبدو وكاننا في مظاهرة ! فوافق على الفور، ولم تمض ساعة واحدة الا وكنا نتدرب على اجمل اغنية سياسية كتبت ولحنت وتم غناؤها في ساعتين، وهي اغنية «مكبعة» سمعها الشعب واحبها ورددها الجميع رغم خطورة غنائها. ولم يستطع النظام المباد ان يكتم هذه الكلمات وهذا اللحن، حتى انتشرت الاغنية لتكون عنوانا لكل مناضلة تضع اللثام، لتخفي معالمها عن كلاب السلطة البوليسية.
هل ارثيك يا معلمي بهذا المقال، ام بأبيات «المكبعة»: مكبعه ورحت امشي يُمّه بالدرابين الفقيرة – ضُوَه فـيْ وشمس يُمّه - وانه من ديره على ديره - وزعت كل المناشير كل المناشير وخبرهم- ومن مشيت عيوني ما تيهت دربهم - سلمتهم يمه يمه آخر اعداد الجريده - بلغتهم باجر الحيطان تحجي - بالشعار اللي نريده – بلغتهم باجر الما يدري يدري يهتف وينشر قصيده ..

«الزمان» 20 آذار 2014