المنبرالحر

31آذار .. مذاقٌ من نوعٍ خاص! / عبد الجبار السعودي

هو يعلمُ جيداً أنّ ما حملهُ من رغيفِ خبزٍ، شوَتهُ لهُ اُمه كمتاعٍ قبل أن يغادر البيت في طريقه الى جبهة الحرب، سيكونُ خيرَ (صوغةٍ) لأصدقاثه في الوحدة العسكرية المرابطة خارج حدود الوطن، رغم أن ثقل الحقيبة التي حملها على كتفيه قد أرهقه كثيراً، وهو يقطع مئات الكيلومترات، متنقلاً عبر العجلات العسكرية من قاطعٍ لآخر. و تمنى، وهو يسير صوب موقف السيارات التي ستقله الى الصوب الآخر لو أنه وقف عند (جهاز الميزان) لكي يعرف ثقلَ جسده هذا، ولكي يُخبر اُمّه، عند عودته المحتملة اليها، عن تلك المشاق التي تحملها مع (صوغته) تلك.
استقبالٌ لم يكن مفاجئاً له كان بانتظاره، فقد اعتاد هو الآخر على هذا التقليد، لم يثنِ بعض رفاقه في فصيل وحدته، المثقلة أحذيتهم العسكرية بالطين من الهرولة نحوه، وسط (هوسات شعبية) للآخرين، اختلط فيها المرح و السخرية فيما يعيشونه، استرعت انتباه رئيس عرفاء الوحدة الذي توجه مسرعاً نحو مصدر تلك الأجواء المُثارة على حين غفلة!
في المساء التف الجميع حول الفانوس الذي يضيء وجوههم المتعبة و بقايا المكان الذي يؤويهم في مأكلهم و غفوتهم، و لاحت في عيون بعضهم تساؤلات عما يحمله اليوم التالي من أخبار و مفارقات و طرائف رغم طيف الموت و أخباره الذي يلف خطوط الجبهات والمدن المثقلة بدماء الجنود القتلى و الجرحى و هموم الناس. صاح أحدهم وهو يداري (قوري الچاي) : ( إتركونا من باچر.. ندري چذبة نيسان، بس لا تنسّونا خبزات البيت).
وبعد دقائق اختلطت فيها أبيات من أشعار الدارمي والدندنة، كانت أقداح الشاي توزع على الجنود الثمانية المُحتمين داخل (موضعهم) المغلف من الداخل بالبطانيات و المحكم من الفوق بأكياس الرمل و صفائح الحديد. و هَمَّ حامل تلك (الصوغة) ضيفهم الجديد، أن يوزع على صحبته رغيف الخبز بالتساوي، وسط دُعاء لتلك الأم التي تتذكرهم من حين لآخر، وهي تبعث لهم بهذه الهدية الفريدة كما أطلقوا عليها، و التي أعادتهم الى دفء بيوتهم وعائلاتهم التي يفتقدونها، مُجبرين و مُرغمين، دون أن يعرفوا ما سيؤول اليه مصيرهم في قادم الأيام!
واجبات الخفارة التي تتوزع على أولئك الجنود كل ساعتين لحراسة محيط ما حول (الفصيل)، استدعتهم، هُم الثمانية، في تلك الليلة الربيعية الأجواء وكما اقترح أحدهم، أن يكونوا مستيقظين جميعهم، يتطلعون، وهُم مُلتحفين بالبطانيات خارج (الموضع) جالسين عند مدخله، يشاهدون عن بُعدٍ برق المدافع، وهي تلمعُ في عيونهم، وفي سماء ليالي الجبهات الملتهبة منذ سنوات والممتدة من جنوب الوطن الى شماله و رغماً عن إرادتهم، هُم وعائلاتهم، والملايين من الناس المكتوين بعذاباتها ودمارها!
لم يكن من حديثٍ يجمعهم في تلك الدقائق رغم ما يصل أسماعهم من دويٍّ لصوت المدافع، سوى تلك (الصوغة) التي طالعوها اليوم أمام أنظارهم، و تلذذوا بدفئها و مذاقها قبل حلول كذبة نيسان بساعات، فيما راح البعض منهم يوزع الأدوار، مقترحاً على الآخرين أن يحمل كل واحد منهم معه عند عودته من إجازته كيساً من رغيف الخبز المشوي!
في لحظات أحاديثهم تلك، كانت (قنابل التنوير) التي تضيء السماء لا تبعد كثيراً عن قاطع تواجدهم، تثير فضولهم وانتباههم وتوقعاتهم وتجبرهم لحينٍ على الصمتِ توجساً و حذراً. في تلك اللحظات من الترقب لما ستؤول اليه أحداث الساعات القادمة، وصل الى أسماعهم صوت غناء ريفي عذب من أحد الجنود، وهو يسير قادماً باتجاههم من منحدرٍ لا يُبعد كثيراً عن مكان جلوسهم، مُردّداً لأبياتٍ من شعر (الأبوذية) التي قابلوها بكلمات من الإعجاب والمديح، مقترحين على زائرهم (مطرب الليلة الأخيرة من شهر آذار) في حلقة سمرهم تلك، الغناء بصوتٍ خافتٍ، لئلا يُفسد عليهم رئيس عرفاء الوحدة أو ضابط الخفر، فرحتهم بتلك الساعات التي أسماها أحدهم بـ (ليلة الأضواء) والتي أشبعتهم خبزاً وطرباً في الهواء الطلق رغم هدير الأجواء من حولهم!