
منذ احد عشر عاما والشعب العراقي يعيش محنة المخاض الجديد، بين مطرقة الارهاب والقتل والتشريد وسندان الازمات السياسية والفساد المالي والاداري الذي ينخر جسد الدولة وسوء الخدمات ، فتحول حلمه في التغيير الذي عاش على امله لعقود طويلة الى كابوس جاثم على صدره يتنقل به عبر هذه السنين التي مرت ، من ازمة الى اخرى ومن انتكاسة الى ما هو اسوء منها، حتى ألف ما يدور من حوله دون شعوره بذلك ، وترى المواطن العراقي يعود لمزاولة حياته الطبيعية بعد كل تفجير ارهابي، بخطوات ريبوتية تبدأ بتجميع اشلاء الشهداء من مكان الحادث ونقل الجرحى الى المستشفيات ومن ثم كنس المكان وتنظيفه من بقايا الدماء لتعود الحياة مرة اخرى ..وهذا الشئ من الندرة حصوله في باقي بلدان العالم ، والسبب ناشئ من كثرة مشاهد العنف التي عاشها ابتداء من الحروب العبثية للنظام السابق الى دوامة العنف التي تضرب بأطنابها كل مفاصل الحياة في هذا البلد الجريح والتي كانت بدايتها تفجير مقر بعثة الامم المتحدة في بغداد في اب عام 2003 وانتهت بسقوط الموصل مرورا بتفجير مرقد الاماميين في شباط عام 2006 وما تلاها من عنف طائفي راح ضحيته الالاف من الابرياء وسيارات الموت التي تتفجر في شوارعه كل لحظة ، هذا الشعب الذي عاش تاريخه الحديث وفق سيناريوهات لم يكن لأهله اي طرف فيها بل كانوا هم الضحية لكل تداعياتها ومغالطاتها التي فرضت عليهم ، فنشأت الدولة العراقية الحديثة عام 1920 لتبدأ حياتها وفق مفارقة شاذة وغريبة ارادها المستعمر البريطاني ان تكون هكذا وهي باقصاء الاغلبية الشيعية من حكمه ، نكالا لهم على تصديهم له في معركة الشعيبة عام 1915 وانتفاضتهم ضده في حزيران عام 1920 ..ومن ثم جاء دور الفكر القومي والبعثي الذي انتج صدام حسين ، وتسلطه على رقاب ابنائه ليكونوا رهنا لحماقاته ونزواته فرمى بكرة الثلج المتدحرجة ليقودهم من هزيمة الى اخرى وملأ ارض العراق بجثث ابنائه عبر حكمه الذي دام اربعة وعشرين سنة ..ليسلمه الى حلفاء الامس القريب الاميركان الذين كانوا السبب الرئيس في انتاج الفوضى التي يعيشها هذا البلد الان ، بسياساتهم الخاطئة في ادارته بعد 2003 وفوضتهم الخلاقة التي جاءوا بها اليه ، والتي انتجت حكومات هزيلة قائمة على المحاصصة الاثنية والقومية ودستور ضبابي عاجز على حل ابسط مشاكله بل اصبح هذا الدستور جزء من المشكلة ..وتركهم لارضه تستباح من قبل شذاذ الارض طيلة الفترة الماضية ، فرحلوا ليخلفوا في 2011 وراءهم جبلا من الازمات ونظامنا سياسيا هشا وجيشا ضعيفا غير قادر على حماية نفسه ،وشعبا محبطا ليس له القدرة على رسم مستقبله لكثرة ماعاناه ويعانيه الان ، فبعد مرحلة العنف والقتل والتهجير وقلة الخدمات جاءت الان مرحلة الترويع والاشاعات وسلب ما تبقى منه ..سقطت الموصل بيد الارهاب دون ان تطلق رصاصة واحدة وتلتها تكريت وفق سيناريو يصور مدى هشاشه الوضع القائم والخطأ الجسيم الذي وقعت به الحكومات العراقية التي توالت على حكمه بعد سقوط الصنم في عملية بناء القوات المسلحة من الناحية التعبوية والاعداد النفسي والانضباط العسكري ..ليدق ناقوس الخطر متأخرا جدا هذه المرة ، معلنا عن مستقل مجهول وفق هذه المعطيات ..ليترك الشعب يعيش على هاجس الخوف من المجهول مخافة ان يفقد ما تبقى لديه بعد كل الذي خسره من شهداء ومعاقين وممتلكات في الفترة السابقة ..فاصبح هم المواطن الان هو الحفاظ على ما تبقى ..وهنا تحضرني قصة الشاعر الجاهلي الكبير امرؤ القيس ..فبعد موت والده وذهاب الحكم منه اخذ ارثه من ابل واغنام وهام في صحراء الجزيرة العربية باحثا عن ملاذ اّمن ومجير ..فأجاره خالد بن سدوس النبهاني ، وما ان استقر حتى ذهب ليصطاد وحين عاد وجد ان ابله قد نهبت واغار عليها باعث بن حويص ، فقال له جاره خالد اعطني رواحلك وصنائعك فالحق بالقوم فأعيد لك أبلك ..وحين لحق بهم قال لقد اغرتم على جاري امرؤ القيس فقالو هو ليس بجارك ..فقال هذه رواحله تشبه الابل التي عندكم ..عندها ضربوه وانزلوه واخذوها ..فجاء الخبر الى امرؤ القيس فانشد قائلا ..(دع عنك نهبا صيح في حجراته ......ولكن حديثا ما حديث الرواحل)..نعم نحن كذلك الان شعب يرجو ان يحافظ على رواحله بعدان نهب منه كل شيئ.