تشكلت النواة الأصلية لتنظيم القاعدة من «المجاهدين العرب» العائدين من أفغانستان الذين شاركوا المجاهدين الأفغان في القتال ضد القوات السوفياتية هناك. وقد تلقوا مختلف أشكال الدعم الكبير مالياً وعسكرياً ولوجستياً وإعلامياً من قبل أميركا وحليفاتها الخليجيات ، وفي مقدمتها السعودية الأقوى نفطياً ، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي حتى أوائل التسعينيات.
وقد غض هؤلاء الداعمون لهم البصر طوال تلك الفترة «الجهادية» عن كل المذابح والجرائم الإرهابية القتالية التي ارتكبوها بحق المدنيين الأفغان، وأغلبهم جرى قتلهم على الشبهة ، ناهيك عن التدمير الواسع النطاق الذي ألحقوه بالعمران ومؤسسات الخدمات العامة والبنية التحتية في واحد من أفقر بلدان العالم .
وحتى بعد انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان وانقضاض تحالف المجاهدين على السلطة، والقتال التناحري فيما بينهم بعدئذٍ على مغانم السلطة ، توزعت شريحة كبيرة من المجاهدين العرب فيما بين الفصائل الأفغانية المتناحرة ، وصولاً إلى تمكّن تنظيم طالبان من الاستيلاء على السلطة واستئثارها بها، وحيث تحالف معها معظم أتباع بن لادن واظواهري .
وبعد عودة هؤلاء إلى بلدانهم نفّذوا عدداً من العمليات الإرهابية في بلدانهم وخصوصاً السعودية. وبدا التوجس والاستنفار الأمني من خطرهم الإرهابي الداهم، وخصوصاً بعدما أسّس زعيما القاعدة (بن لادن والظواهري) تنظيمهما الذي نفّذ أيضاً بعض العمليات الإرهابية في نيروبي وعدن، وصولاً إلى عمليته الأخطر في نيويورك وواشنطن في سبتمبر/ أيلول 2011، والتي أعقبها إعلان الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب، والتي جرى في سياقها الإطاحة بنظامي طالبان وصدام بالحرب الجوية، ثم إنزال قوات المارينز لشنّ الحرب البرية ضدهما في كلا بلديهما.
واليوم إذ تقود الولايات المتحدة حرباً دولية على الدولة الاسلامية في العرق وسوريا تساهم فيها حليفاتها الخليجيات وعلى رأسها السعودية، شريكتها في دعم المجاهدين العرب في افغانستان ، مكتفية بالضربات الجوية وبتمويلات وتسهيلات لوجستية من الحلفاء الخليجيين، فانها تتجاهل في واقع الحال استحالة تحقيق نصر سريع حاسم وفعّال لدحر داعش دحراً مبرماً وسريعاً بدون ان يتوازى مع الضربات الجوية مواجهة داعش في جبهات اخرى عسكرية وإعلامية ومالية على نحو ما نبينه تالياً :
أولاً : لن تكون الحملة العسكرية على «داعش» في سورية والعراق فاعلة دون التنسيق المحكم والتعاون مع حكومتي هذين البلدين، بما في ذلك نشر القوات البرية للتحالف تحت غطاء وسند من الشرعية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة ، شريطة ان يكون ذلك في أجل تقريبي محدد لانتهاء العملية العسكرية وتوقيت محدد لسحب القوات الاجنبية من اراضي الدولتين بعيد القضاء الدولة الاسلامية لداعش مباشرةً . ان الآراء الرافضة لانزال قوات برية امريكية في اراضي سوريا والعراق في تقديرنا انما تقدم عملياً خدمة وذريعة لواشنطن للتنصل من خوض الحرب البرية التي تخشى من وقوع قتلى في صفوف قواتها البرية واعادتهم في توابيت الى بلادهم مما سيفضي بعدئذٍ داخلياً إلى انفجار ضغوط شعبية محلية ضد سياسات الادارة الامريكية العسكرية وحروبها العدوانية في الخارج .
ثانياً: إن الولايات المتحدة ينبغي أن تمارس شتى أنواع الضغوط على حليفتها في الناتو تركيا ، للإنضمام عسكرياً إلى التحالف الدولي وغلق حدودها البرية غلقاً محكماً مع سورية في وجه مختلف الجماعات الإرهابية.
ثالثاً: لا مناص لواشنطن من تحمل المسئولية السياسية والأدبية لتسليح الجيش العراقي بأسلحة حديثة هجومية وبخاصة في المجال الجوي بما يمكنه من تحرير التراب الوطني من دنس «داعش»، فهي التي حلّت نواته الأصلية وأجهزت على أساسياته لكي لا تقوم له قائمة بعد اعادة تأسيس الدولة وذلك غداة احتلال جيشها للعراق لإسقاط نظام الدكتاتور المقبور صدام حسين .
رابعاً: وإذا كان إلحاق الهزيمة بـدولة " داعش " كما يقر محللون أميركيون، ومنهم معلق «نيويورك تايمز» روس دوثاث، يقتضي إنزال القوات البرية بالتنسيق مع نظام بشار الأسد، فإن عمليات كهذه تقتضي أيضاً التعاون والتنسيق مع كل من موسكو وطهران لما لهما من تأثير سياسي ونفوذ دولي في الأزمة الدولية الراهنة مع «داعش».
اما على الصعيد الاعلامي فإن نظرة سريعة للوراء على وسائل الإعلام والصحافة الخليجية بوجه خاص خلال الأسابيع القليلة الماضية تكشف لنا ومن خلال التحقيقات والمقالات المنشورة، ولا سيما في الصحافة السعودية، حجم الدور المهول المحوري الذي تلعبه تلك الوسائل في تضليل الشباب وغسل أدمغتهم وتخدير عقولهم مغناطيسياً في سرعة قياسية. أكثر من ذلك بات لداعش مجلة باسم "دابق" تصدر بعدة لغات أوروبية منها الإنجليزية والألمانية والفرنسية تخاطب بها الفتيان والمراهقين في الدول الأوروبية وبخاصة ذوي الأصول العربية والإسلامية لتحفيزهم على الهجرة من دول الأنجاس والفساد إلى أرض الميعاد في سورية والعراق حيث دولة الخلافة العادلة الطاهرة وحيث جسر العبور سريعاً إلى جنة حور العين اللواتي لا يقاس جمالهن بجمال شقراوات الدنيا الكافرات الزائل.
هذا في حين مازالت الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد داعش غير محكمة ليس في أوروبا فقط، بل حتى على الصعيد المحلي لدول الخليج (انظر الحياة عدد 26 أغسطس/ آب 2014).
أما عن القنوات الدينية الفضائية المتطرفة التي لعبت دوراً محورياً في حشو عقول الشباب بفكر الغلو وكراهية الآخر المختلف فكراً أو فقهاً أو مذهباً فحدث ولا حرج. ومثل هؤلاء الشباب المتأثرين بالخطاب الديني الإرهابي لدعاة تلك القنوات تستلمهم داعش جاهزين للتعليب وليس عليها سوى إضافة بعض الرتوش واللمسات الأخيرة لوضع ماركة اسمها عليهم. ينقل الكاتب السوري في صحيفة الشرق الأوسط السعودية الصادرة في 25 سبتمبر/ أيلول 2014 هاشم صالح عن الاستاذ الجامعي المغربي الدكتور حسن قرنفل قوله: إن "شيخ من شيوخ الفضائيات يستطيع أن يلهب حماسة الآلاف المؤلفة وربما الملايين"، وإن أحد الدعاة المتطرفين يكسب من برنامجه الديني مليونين ونصف مليون دولار، في حين يزور موقعه مليونا زائر شهرياً. والسؤال من يموّل هذه القنوات وضيوفها بتلك المبالغ الفلكية؟! لا شك ان الغالبية الساحقة من هذا التمويل إما يأتي بصورة او اخرى من النظامين السعودي والقطري او من امراء وشيوخ ومليارديرية مرتبطين بهذين النظامين وغيرهما من انظمة الخليج الأخرى ،
اما على الصعيد المالي فيمكننا أن ندرج تالياً أربعة مصادر رئيسية تعتمد عليها دولة «داعش» في تمويل وبناء قدراتها المالية الجبارة والتي ربما تفوق الموازنة المالية لدول عربية فقيرة كاليمن والصومال وجيبوتي :
أولاً: المصدر النفطي، والمتمثل في سطوها الإرهابي الابتزازي على عدد من آبار النفط السورية والعراقية، ومن ثم دخول «داعش» كطرف تجاري غير رسمي من خلال ما يمكن أن نطلق عليه السوق السوداء النفطية، وهذه التجارة تدرّ على ما يُسمى بالدولة الإسلامية أموالاً تُقدر بملايين الدولارات، حيث يصل إجمالي إنتاج تلك الآبار المستولى عليها 25 ألف برميل يومياً تتقاضى عنها أكثر من مليون دولار يومياً، والمستفيد الاكبر تركيا . ولعل «داعش» أول تنظيم مسلح إرهابي في المنطقة تطاول يده الإرهابية إلى هذه السلعة الاستراتيجية التي تشكل عصباً محورياً في موازنات واقتصاديات الدول النفطية العربية.
ثانياً: الإتاوات التي يفرضها التنظيم من أصحاب المحلات التجارية تحت التهديد بالقتل. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، صرح أحد التجار الموصليين الصغار أنه يدفع مئة دولار شهرياً عن محله بحجة دعم المجاهدين، حتى أفلس واضطر للعمل سائق أجرة، وعلى هذا النحو هناك ضحايا لابتزاز الدولة الإسلامية بالآلاف. هذا إلى جانب إتاوات تتقاضها هذه الدولة من محلات الصيدلة وعيادات الأطباء الخاصة، بل وحتى المقاهي والمطاعم الكبيرة، دع عنك الشركات التجارية واصحاب محطات البنزين والمولدات والمصانع وورش الحرف ناهيك عما يحصله «داعش» عبر جباتها لأموال صندوق الزكاة. هذا بخلاف الضرائب أو الإتاوات المستحصلة من سواق سيارات الشاحنات والباصات والعادية من حواجز ونقاط التفتيش.
ثالثاً: الأموال المستحصلة من الفداوات التي تجمع من ذوي رهائنها المختطفين أو دولهم، وبعض المختطفين متحفظ عليهم للرهن مستقبلاً من خلال الابتزاز الإرهابي ولا يُعرف حتى الآن القائمة النهائية للمختطفين الأجانب الذين حُجزوا في أماكن سرية، فبعضهم مجهولو المصير.
رابعاً: التعامل مع تجارة السوق السوداء في بيع قطع الآثار الصغيرة الثمينة النادرة والتي استولت عليها «داعش» بعدما حطمت العديد من رموز الآثار الكبيرة العظيمة التي يزخر بها العراق طولاً وعرضاً، بما في ذلك مزارات وجوامع ومعابد من يختلفون معها في المذهب أو من أتباع الديانات الأخرى غير الديانة الإسلامية. وحتى الآن ليس للولايات المتحدة وحلفائها أي دور لمواجهة هذا المصدر من التمويل باتجاه تعقب وحجز تلك القطع ومصادرتها من مافيا تجار تلك الآثار التي تدرّ ربحاً كبيراً تمهيداً لإعادتها إلى وطنها بعد تعافيه.
والحال مالم يعمل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على الجماعات الارهابية وعلى رأسها داعش ودولتها المسماة ب " الدولة الاسلامية " على ضرب داعش ليس جوياً فقط ، بل بالتوازي مع مواجهتها في الجبهات البرية والاعلامية والمالية الآنفة الذكر ، فإن دحر تنظيم داعش ودولته دحراً مبرماً سيطول ، الأمر الذي سيسبب نزيفاً كبيراً عربياً ، وعراقياً وسورياً على وجه الخصوص ، في الدماء والاموال والعمران وبالطبع فإن الرابح الأكبر من هذه الاطالة هي امريكا نفسها لترويج اسلحتها وشراء المزيد منها والفوز بعدئذٍ بصفقات اعادة الاعمار بعد ان تضع الحرب أوزارها .