لم تعرف الأمم التي ابتليت بالفساد المالي والاداري آلية أفضل من الافصاح والشفافية لوضع حد لهذه الآفة التي أطاحت من قبل باقتصاديات عديدة ناشئة .. وهي عادة ما تتفاقم في مراحل الانتقال من نظام اقتصاد الدولة الى اقتصاد السوق ، فكيف بها اذا ما انهار كيان الدولة؟ وراح المؤسسون للكيان الجديد يدفعون باتجاه بلورة رساميل السياسة بهدف صناعة وانضاج طبقة رأسمالية تتصدر المشهد المالي والاقتصادي ومن ثم المشهد السياسي .
وهنا يكون ظاهرا على الجهات الرقابية التي ينجبها النظام السياسي الجديد ، استخدام كل الأدوات والآليات المتاحة لمحاربة الفساد دون جدوى فيما تمتنع تلك الجهات عن تفعيل آلية ( الافصاح والشفافية ) بفعل ضغوطات أو برامج جاهزة للعمل، فيحتمي الفاسدون بالتخندقات السياسية رافعين شعار الاستهداف السياسي كلما طالتهم الجهات الرقابية (فهو استهداف طائفي كما يدعون ،في التكوينات الحكومية التي تتشكل من أحزاب طائفية .. وهو استهداف قومي في التكوينات التي تتصارع سياسيا على أساس قومي ) وعند ذاك ينحصر عمل الجهات الرقابية على صغار الموظفين الذين قد لا يتخندقون في التكوينات العرقية والطائفية للتشكيلة السياسية ، والبعض من هؤلاء الصغار الذين يعتاشون بفسادهم تحت ظل فساد الكبار، عادة ما يكونوا ضحايا لكل فضيحة يصعب لملمت أوراقها قبل أن تصل لوسائل الاعلام، وعادة ما تنتهي تلك الفضيحة في دهاليز الجهات الرقابية وبعيدا عن الاعلام بادانة مجموعة من الموظفين الصغار وتقديمهم كقرابين على محراب النزاهة لاثبات نجاحاتها في العمل وادراجهم كأرقام منجزة في محاربة الفساد .
والمقال هنا لا يسع لنبش تفاصيل طوتها رغبة الانسان الذي يتعرض يوميا لتقطيع الأوصال وهو يقارع شأفة الفقر ، فما عادت وعلى ما يبدو الرموز أو الرئوس الكبيرة التي تقف وراء فضيحة هذا المصرف أو ذاك ولا فضيحة هذه الوزارة أو تلك تعني الانسان العراقي الذي يبحث عن الأمان والخبز، وعلى هذا فما عاد ( للافصاح والشفافية) مريدين وليس هنالك جهات ضاغطة للمطالبة بهذا الأمر، وما تطلبه الجهات الدولية الداعمة لبرامج محاربة الفساد وتطبيق حوكمة الشركات ليس أكثر من تقارير كتابية يذهب بها (سين وصاد) ايفادات لمؤتمرات عالمية يتحدثون فيها عن الشفافية والافصاح .. وما من وزارة أو مؤسسة أو هيئة غير مرتبطة بوزارة ليس لها موقع ألكتروني ( ما يؤشر لنهج الشفافية ، على اعتبار ان المواقع الألكترونية لهكذا تشكيلات في كل دول العالم تعتمد لعرض الفعاليات والتداولات والملائات المالية ) ولكن ما من تشكيل اداري في مؤسسات الدولة العراقية يكشف بشفافية عن تداولاته وملائته المالية على موقعه الألكتروني ليثبت نزاهة تلك التعاملات والتداولات.. وما من حزب أو تكوين سياسي يكشف عن تمويلاته المالية في ظل غياب قانون للأحزاب على الرغم من مرور عشر سنوات على الحديث المتواصل عن بناء التجربة الديمقراطية .. وما من مسؤول في الدولة كشف عن ذمته المالية أمام الجمهور .. وظلت قضية الكشف عن الذمم المالية تدور في فلك الجهات الرقابية، دون أن يعي الجمهور ماهية الذمم المالية .. والأدهى من هذا أن تخرج علينا الجهات الرقابية بتقارير تتحدث عن نسبة استجابة المسؤولين في السلطات الثلاث وفي الحكومات المحلية لتبشرنا انها ارتفعت من (30) إلى أكثر من (43) بالمئة .. واسلوب كشف الذمم المالية هذا الذي لم يقدم فيه 57 بالمئة من المسؤولين في الدولة العراقية تقارير عن ذممهم المالية على الرغم من سريتها ، يثبت استخفاف المسؤولين بآليات محاربة الفساد وايمانهم بقوة الخنادق الطائفية والقومية والجهوية التي يتمترسون بها .. ولو تأكد لهؤلاء ان الشفافية في عرض البيانات هي المعتمدة ، وان المساءلة الشعبية والرسمية ستبنى على أساس هذه الشفافية لسارعوا في كشف ذممهم ، لا بل سيعيد الكثير منهم حساباته قبل أن يضطر لكشف ما في جعبته.
ان المطالبة بالكشف عن أسماء الممتنعين عن تقديم التقارير الخاصة بهم على موقع هيئة النزاهة الألكتروني وعبر وسائل الاعلام لم يعد مطلبا رئيسا ، وبات المطلب الرئيس هو كشف الذمم المالية لوسائل الاعلام ومقارنتها مع كشوفات السنوات السابقة بجانب الكشف عن أسماء الممتنعين، هذا اذا كانت هيئة النزاهة جادة بمحاربة الفساد .