- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 24 نيسان/أبريل 2017 20:44

اذا كانت جرائم واعمال الابادة التي ارتكبها العثمانيون بحق الشعب الارمني تصدم الضمير الانساني وتدفعه الى الاحتجاج ورفض الاعمال الوحشية في التعامل مع البشر فهي ذات صدى مزدوج في ضمير ووجدان الانسانية.
فقضية الارمن مأساة بشرية بمعنى الكلمة من جانب إنساني، ومن القضايا العالمية التي تحتاج الى حل وحسم وتدخل من الامم والشعوب والهيئات والمنظمات الدولية كي لا تتكرر مع امم وشعوب اخرى فتتعرض الى نفس مصير الامة الارمنية المنكوبة. وبتعبير آخر اوضح ان ما هو انساني من قضية الارمن يتخذ عند الانسانية بعدين: عام وخاص وهما بعدان يحتاجان الى الشرح والتدقيق .
حيث يبدو الدافع الانساني العام لأول وهلة ذو طابع عاطفي تمليه الطبيعة الخيرة ويظهر ذلك من خلال مشاكل التعاطف والتضامن والمساعدة وما شابهها. لكنه في الحقيقة دافع متعدد الاوجه والاتجاهات لاغراض سياسية واقتصادية وقد يكون الكلام عنه عرضة لمنزلقات كثيرة على الصعيدين السياسي والاستراتيجي.
ولعل اخطر هذه المنزلقات تعميم الاحكام احادية الجانب. وكلما نتجنب ذلك سيقصر حديثناً عن الملابسات التي احاطت بالقضية الارمنية جاعلين منها بصورة او بأخرى مشكلة الانسانية اينما كانت لا مشكلة الانسان الارمني المسالم فقط ، وان كان هو الضحية. ان اي كائن بشري ومتحضر يقرأ عن مجازر الارمن التي نفذت عمداً ووفق مخططات مرسومة سيشعر بجرح مخجل ينحفر في داخله بسبب هول الكارثة وفداحتها. فسكان الارض الحقيقيون في شرق الاناضول وابناؤها المؤسسون يبادوان عن بكرة ابيهم خلال فترة الحرب العالمية الاولى على أيدٍ عنصرية شوفينية وجدت في هذه الحرب فرصة للتخلص من هذه الامة الخلاقة التي ليس لها ذنب سوى المطالبة بحقوقها وكرامتها . فذبحوا وقتلوا على مرأى ومسمع الدول العظمى آنذاك اذ قدموا قرابة المليون ونصف المليون انسان قتل بوحشية ودم بارد ولاسيما امام البقية الباقية الناجية من نساء واطفال شردوا الى سوريا والعراق ولبنان ودول المهجر الاخرى وفي داخلهم جرح لا يلتئم وتاريخ لا ينسى من القهر والظلم واللا انسانية .
فالتاريخ نفسه يزيد من عمق الاسى اذا تذكرنا ان الدول العظمى في الماضي كانت تجاري الاتراك في تزوير حقائق ما قام به اجدادهم لافناء الارمن والسريان والكلدان والعرب في الجزيرة العربية وبلاد الشام. فحتى اصحاب النيات الطيبة منهم يكتفون بابداء روح التعاطف مع الارمن الذين يحيون ذكرى ابادة اسلافهم ورحيلهم وخروجهم وشهدائهم في كل عام في 24 نيسان.
وكأن القضية الارمنية التي جرى تخويلها الى الارشيف عدت منتمية الى ماضٍ بعيد ينبغي نسيانه وتجاهله طوعاً. فلا تزال السلطات التركية تدأب لغرض رغبتها في محو وانكار مجازر الابادة من سجل تأريخها الحافل، حتى لو اقتضى الامر التدخل في شؤون الدول كما حصل للمجمع العلمي المصري ومكتبة الارشيف التي تم حرقها لوجود وثائق وسجلات وشهادات لشهود عيان وصور اصلية عن الابادة اضافة الى محاربة الجهود المبذولة لاحياء مئوية الابادة حيث تحاول هذه السلطات منع تدشين نصب تذكارية لهذه المجازر لفترات طويلة كما حدث في مدينة مرسيليا الفرنسية عام 1973 .
اضافة الى منع صدور الكتب والمقالات ومحاربة الاقلام التي تتجرأ على اظهار القضية او التلويح بها كما حصل مع الصحافي التركي من اصول ارمنية هرانت دينك الذي قتل على مرأى ومسمع السلطات على يد احد الشبان الاتراك ومنع صدور كتاب (جريمة نموذجية لابادة الجنس البشري) ولا تدخر هذه السلطات اي جهد منذ مطلع السبعينات حيث بدأ الارمن في ارمينيا والشتات بتدويل قضيتهم وطرحها على المنابر والمحافل الدولية التي بدأت تستفيق من سباتها الطويل وسكوتها المسيس على القضية وعدم اكتراثهم بمشاعر الارمن لعشرات السنين .
كذلك الاحتيال على التاريخ وعلى لجان حقوق الانسان كي تلغي وقائع مجازر الابادة، وزعم الاتراك فوق ذلك ان الارمن هم جماعة ارهابية خارجة عن القانون وان الترك لم يقتلوهم ولم يشردوهم فمن الذي قتلهم وشردهم اذن؟ و من اخرجهم من ديارهم وارضهم ونهب ممتلكاتهم. اولم يشترك أغوات الاكراد مع الترك بسلب الاراضي والاملاك وتهجير الارمن من اجل مصادرة الممتلكات؟ لكن مجازر الابادة تؤكد حقيقة جوهرية هي انها وان مضى عليها ما يقرب من مئة عام فانها تجمع بين الماضي والحاضر وتمثل في المنظور الانساني حاجزاً دائماً يصم ويبكم ما نسميه المجتمع الدولي القائم في ظاهره على العدالة والمساواة والاعتراف بحقوق الشعوب كافة في الحياة وتحقيق الذات الحضارية ولا يحتاج المرء كي يفهم سر هذه المفارقة الى اكثر من قراءة بسيطة لتاريخ العلاقات الدولية فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية .
فخلال هذه الفترة التي تكشف ما نحن بصدده الان كانت المطامع الدولية الاستعمارية للدول العظمى هي التي تحدد سياسات الدول الكبرى المتصارعة فيما بينها على مناطق النفوذ ولاسيما في الاصقاع التابعة لفلك هذه الدول او الامبراطورية العثمانية انذاك وحالما تكون السياسة في الساحة الدولية اداة لتحقيق المكاسب والاطماع يصبح الكلام هنا ضرباً من العزاء للامم الصغيرة المسالمة وقد صار الشعب الارميني ضحية صراعات وحروب هذه السياسة التي لا علاقة له بها وان حاولت لترفع صوتها لتطالب الشرعية التاريخية والحضارية على الارض على نحو ما فعل الارمن كشعب وما زالوا يفعلوه وهم يرون انفسهم مجتثين من ارضهم ووطنهم.
لكن صار مصيرهم مرهوناً بارادة الدول الكبرى التي تنتهج السبيل الذي تستوعبه سياستهم ومصالحهم وذلك من خلال اتفاقيات سرية ثنائية وثلاثية ورباعية بحسب مقتضى الحال ولو تفاءلنا ان المواقف الدولية لم تكن بهذه الحدة الفضائحية فما معنى ان يمحى مليون ونصف المليون انسان من الوجود وبدم بارد ويشرد الباقون ببربرية وهمجية لا حدود لها.
ثم ما معنى ان يصل الشعب الارمني بعد نضاله المرير وتضحياته الكبيرة الى تحقيق حلمه في دولة مستقلة اقرتها له معاهدة سيفر 1920 واعترفت بها الدول الكبرى التي سبق الحديث عنها لتسحب اعترافها بالدولة الارمنية في معاهدة لوزان 1923 هذه المعاهدة التي فرضتها المصالح الدولية والمعاهدات والصفقات السرية مع تركيا.
والادهى من ذلك ان معاهدة لوزان ابرمت في غياب الكثير من ممثلي الدول الناشئة التي حصلت على الاستقلال حديثاً كأرمينيا والتي فرض عليهم ان تنفذ بنودها فحسب، فهذا هو تاريخ مصالح الدول الكبرى واستراتيجياتها ومكاسبها على حساب ارواح ومشاعر وممتلكات شعوب اخرى مشاركة .
ومن هنا فضرورة محاكمة المجرمين بحق الحضارة والانسانية وهذه مهمة تقع بالدرجة الاولى على عاتق المجتمع الدولي والدول الكبرى صاحبة الشأن في صياغة القرارات النافذة وتدعم قوتها والا فلن تخرج البشرية عن نطاق شريعة الغاب الا بقانون واحد – المقايضة – ونحن نحسب انه اذا كانت المصالح الدولية لا القانون الدولي هي التي تملي على الدول مواقفها السياسة النهائية فكل الثغرات تبقى مهيئة لنوازع العنصرية والعرقية المنافية لرقي الانسان وتمدنه ولنذهب ابعد من ذلك لنرى دون ان نهمل اهمية الظروف الموضوعية في سيرورة احداث التاريخ .
فاننا الان نعيش في القرن الحادي والعشرين لكننا مازلنا نشهد بداية هذه الموجات العنصرية والاحداث المضطربة والصراعات الطائفية والمذهبية التي تشهدها منطقتنا(الشرق الاوسط وشمال افريقيا) وتلقي بظلالها على اوروبا والعالم بسبب تفكك وانهيار الدول الوطنية وبداية لصراعات وازمات وتهجير لطوائف واقليات اثنية شكلت في الماضي والحاضر اساس ولبنة وحضارة هذه الدول كالعراق وسوريا واليمن وليبيا ولا نعرف من القادم كي يقتل ويهجر كما حصل مع الارمن قبل مائة عام محاولاً تغيير ديموغرافية وحضارة وانسانية هذه الامة .
إن ما حصل للأرمن من ابادة وتهجير وقتل وظلم في الماضي لا نريد تكراره اليوم وبسيناريو آخر. يجب ان يتوقف هذا اليوم فقد كانت للأرمن حضارة زاهرة في الماضي وتاريخ ساطع.
والابادة التي سكت عنها العالم في الماضي ستحول القضية الارمنية الى هم كبير لا يزيحه ولا يوقف نزيفه وآلامه الا تطبيق العدالة الانسانية وسيادة الاعراف والقوانين الدولية والحضارية .
ــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وصحفي شؤون سياسية ودولية