يحكى في قديم الزمان أن قوم من الأقوام كانوا يقيمون في وادٍ محاط من جميع جوانبه بالجبال الشاهقة
وقد كان لسكان هذا الوادي نظام حياة خاص محكوم بقوانين صارمة تحدد حرية حركة الناس وطموحهم لسبر أغوار المجهول.
فقد كان على كل مواطن أن يحمل حول خصره منذ طفولته حزاماً خشبيياً تعلق عليه أثقال تعيق حاملها من تسلق الجبال، التي يسكنها، حسب المعتقدات السائدة، الشياطين والوحوش الكاسرة.
ولكن هذا النمط الحياتي الذي تفرضه قوانين رادعة، لم يرق للجميع. لذا نمت وتسربت بين الشباب أفكار جديدة تنادي بالتحرر من الأثقال وترسم للآخرين حلم ما بعد الحرية. ومع اتساع وانتشار هذه الأفكار التحررية وزيادة عدد المنادين بها، تهيأت الظروف المناسبة للتغيير الثوري.
فاستلم الشباب المنادي بالحرية، السلطة هناك وسنوا قوانين جديدة تمنع حمل هذه الأثقال وتغير نمط الحياة السائد والقائم على الخرافات والخوف من المجهول.
رميت الاثقال جانبا، وغمرت الفرحة الجميع وهم يتدربون على حفظ توازنهم عند المشي دون قيودهم واثقالها.
ولم يتوقف الامر عند متعة التعود على المشي بحرية وسرعة اكبر عند الطواف في الوادي الذي صغرت مساحته في عيون سكانه، فجاشت رغبتهم في سبر اغوار الجبال المحيطة به والتعرف على ما تخفيه وراءها.
فتنادى شباب القوم جماعات لتسلق الجبال.
وهكذا تتهيأ بين فترة وأخرى مجموعة من الشباب تتبعها اخرى لرحلات طالت في زمنها دون ان يعود منها أحد.
وبعد كل عملية تسلق يسمع سكان الوادي صراخ انسان مفجوع يتردد صداه في الجبال بين الحين والاخر.
تسرب القلق الى نفوس السكان بعد انتشار شائعات تحكي روايات مفزعة عن المصير المأساوي الذي لاقاه المتسلقون المغامرون الذين لم يأبهوا لتقاليد قومهم ففتكت بهم الضواري وتلبست ارواحهم الشياطين.
وشيئا فشيئا يترسخ الايمان القديم-الجديد الذي يرى في افكار التحرر نقمة ورجساً من عمل الشيطان ويستعيد انصاره بعد تنظيم انقلاب ناجح، السلطة في الوادي. وتعود الحياة هناك الى سابق عهدها قبل ان تعصف بها رياح التغيير وتصبح القيود والاثقال من جديد تقاليدا وسبلا للخلاص وللأمان.
فتزداد سطوة القوانين المقيدة للحريات، وتنتعش الخرافات التي تحرم المعرفة والطموح لاكتشاف الجديد وسبر غور المجهول.
وتغلق الطرق بوجه اي احتمال للتحرر وتغيير نمط الحياة السائد. استعير هذه الرواية القديمة بتصرف يعطيها دلالات اخرى لتأكيد حقيقة ازلية، وهي أن أي تغيير او مسعى للتغيير، منطلقاته النوايا الحسنة والشعارات الثورية الرائعة وحدها ودون حساب دقيق وصحيح للتبعات، لابد وان يأتي بردة فعل تسحق كل براعم التغيير المنشود وتقضي على الامل لسنوات عجاف طوال.
كانت لماركس ملاحظاته الخاصة على مسار التغيير الذي اتت به كومونة باريس وتحفظاته على الممارسات التي رافقت الثورة الفرنسية. ولكن بعد ان حوصر الكومونيون وخيروا بين الاستسلام او الابادة، ادرك ماركس بحسه الثاقب ان استسلام الكومونيين سيؤخر الثورة الاشتراكية في فرنسا عشرات وربما مئات السنين. وهذا ما حصل بالفعل. فالعمل المغامر غير المدروس وغير المسلح بمنهج علمي ورؤيا واقعية سيكون ضارا ومدمرا لمسار التطور في جميع اصعدته. لقد كان للثورة الاشتراكية في روسيا في بداية القرن الماضي خيارات اخرى غير الخيار البلشفي، لا بل ان خيارات التحول كانت متنوعة حتى في داخل الصف البلشفي نفسه.
وقد كانت لآراء ومناهج الاشتراكيين الروس القدرة على انتاج مشتركات سياسية واقتصادية واجتماعية لبناء مؤسسات دولة متطورة في بعديها السياسي الديمقراطي والاقتصادي الحر المنضبط في توجهاته ومضامينه وفقا لمتغيرات معايير العدالة الاجتماعية.
وقد كان التأييد الواسع لشعار (كل السلطة للسوفييتات) خير دليل على امكانية توحيد الصف الاشتراكي وتصحيح مسار التحولات صوب الاشتراكية في روسيا آنذاك.
ولم يكن الاتهام الذي اطلقه المفكر الاشتراكي الكبير بليخانوف لسلطة البلاشفة الجديدة ووصفه اياها بالعقيمة الا تقييما لعدد من الاجراءات والطروحات التي ابتعدت عن مبادئ الاشتراكية الاممية والمنهج الماركسي في فهمه للتحولات الثورية في المنظومة الاقتصادية الاجتماعية وخلق ممهداتها.
كان حل الجمعية التأسيسية واغلاق صحف المعارضة، بما فيها الصحافة الاشتراكية، عام 1917 م وبناء مؤسسات الدولة البيروقراطية, بداية النهاية لمشروع الامل الاشتراكي في روسيا. على ان ذلك المشروع لم يمت تماما الا بعد ان تحولت قيادة الدولة والثورة من البلشفية الى الستالينيةمن فكر بلشفي يحمل في داخله متناقضات الامل واليأس حول بناء مشروع اختلف على طريقة بنائه قادته، خاصة بعد مرض لينين، الى فكرٍ ستاليني لا حياة فيه ولا امل.