المنبرالحر

النظام التوافقي في العملية الأنتخابية (1) * / د. صلاح الدين علي

أصبحت موضوعة الديمقراطية شأنا عاما يهم الجميع وذلك ما يستوجب مراجعة مبادئها وإعادة صياغتها بشكل جديد، وكلما كانت هناك ضرورة لذلك، لكي تتوافق مع المرحلة التي يعيشها المجتمع ككل..
نَشِطَ ويَنشَط الكثيرون في منظمات المجتمع المدني وفي كيانات سياسية عديده أوعَمِلَ ويَعمل في شركة أو مؤسسة وخاض في مجال عمله هذا تجربة الديمقراطية ومبادئها وعلى أصعدة متعددة. ويستمر العمل بالكثير من هذه المباديء دون التمعن فيها أو لماذا تطبق على هذه الشاكلة أو تلك ناهيك عن عدم التفكير بفوائد ومساويء هذه المباديء على العملية الديمقراطية والمجتمع ككل وخاصة في لحظتنا الراهنة التي نعيش فيها مرحلة تطور متسارع في مجالات مختلفة وعلى مستويات متعددة. والأدهى من ذلك، جَرى التعاطي مع أعادة التفكير في مدى صلاحية هذه المباديء للمرحلة السابقة والحالية بشكل سلبي وكأنها منزلة من قوة خارقة لايمكن الأعتراض عليها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها:
نفذ ثم ناقش، المركزية الديمقراطية، دكتاتورية الطبقة العاملة،......وأخيرا مبدأ "الأكثرية والأقلية" في العملية الأختيارية أو الأنتخابية والذي هو موضوع دراستنا هذه.
قد يسأل البعض عن سِر طَرحي وأهتمامي اليوم بهذا الموضوع؟ ولماذا الأن بالذات؟ وأنا الذي عمل سابقا في هذه المنظمات وعدت لأعمل فيها من جديد "بعد أنقطاع طويل".
معاناة العمل بهذا المبدأ في الوطن (العراق) لا تحضى بالأنتباه، فهي قليلة أو شبه معدومة وهذا يعود لأسباب كثيرة، قد أأتي عليها في مقالة لاحقة أخصِصُها لهذا الموضوع بالتحديد، ولكن خبرة العمل بهذا المبدأ في الخارج (ألمانيا) غير مرضية ونتائجها سلبية على العمل ككل، وفي النهاية كانت أحد أسباب انسحابي من العمل في هذه المنظمات. مشكلتي تكمن في قواعد وطرائق العمل بمبدأ "الأكثرية والأقلية" القديمة والتي بقيت ملازمة طوال هذه الفترة والأسوأ من ذلك لم أجد لا هنا ولا هناك وعلى جميع الأصعده من ينادي بنبذ الأساليب القديمة وأبتداع أساليب جديدة للخلاص من هذه المعضلة.
بعد عَودتي الى العمل في أحدى منظمات المجتمع المدني والثقافي في برلين قبل حوالي ثلاث سنوات، اصطدمت بذات المشكلة وبشكل أكثر شراسة من الفترة السابقة. هذا كله جعلني أفكر في صَلاحية هذا المبدأ ومدى تناسبه مع مرحلة التطور الراهنة التي نشهدها.
والأن وبعد هذه المعاناة والبحث الطويل عن حل لها أستطيع أن أقول وبكل وضوح وقناعة بأن هذا المبدأ "الأكثرية والأقلية" بمفهومه القديم والحالي هو مبدأ غير صالح وأقل ديمقراطة في هذا العصر، وأؤكد على هذا، لأنه يُغَيب رَغَبات مجموعة من الناس بغض النظر الى أعدادهم، وبكلمات أخرى، فهو مبدأ سيطرة الأكثرية (أثناء عملية التصويت) على القرار. والبراهين على ذلك كثيرة ولنأخذ المثال التالي:
منظمة مجتمع مدني تناقش مقترحا ما، ولابد هنا من وجود أسس وقواعد ينبغي الألتزام بها في هذا النقاش لضمان جدواه، أراء ووجهات نظر كثيرة ومختلفة تطرح ثم تُقترح تعديلات عليها، بعدها تناقش وتُصاغ...الخ، يشتد النقاش وتتعالى الأصوات وكل طرف يحاول أقناع الطرف الأخر بحجته (فرض رأيه)، يلجأ البعض لتكتيك الأنسحاب ان لم يؤخذ بأرائهم وتعديلاتهم حول المقترح، يَضيع الجهد والوقت الثمين، يلاحظ تبلور تكتلات بين المجتمعين، ثم يُطرح المقترح في النهاية للتصويت، لنجد من هو مع المقترح ومن يتحفظ عليه ومن يعارضه، وهنا تكمن العاقبة! فلهذا القرار نتائج سيئة وكبيرة على هذه المنظمة، لماذا؟ وماذا تعلمنا ونتعلم من دون أن نَعي ذلك في تطبيق هذا المبدأ "الأكثرية والأقلية" في عملية أتخاذ القرار؟ وأليكم الأستنتاجات التي يمكن للمرء الخروج بها من هذا التطبيق في عملية اتخاذ القرار:
أولا: عدم أحترام قرار ورأي الأقلية وبالنتيجة عدم أحترام مكانة الشخص الذي يَصطف مع الأقلية ولا ما يُفكر حتى به،
ثانيا: عدم الأهتمام بل وأهمال الأفكار والقيم التي طرحت مِمَن هو في الأقلية،
ثالثا: تكثيف الجهد من قبل الأكثرية (الفائزه) المصوته على القرار في سبيل أنجازه أو تنفيذه،
رابعا: سعي الأقلية (الخاسره) من جهة أخرى لعرقلة تنفيذ أو أنجاز هذا القرار.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، نلاحظ لجوء البعض الى الدخول في مساومات مصلحية (بعيدا عن الاقناع بالحجة) لضمان الفوز بأكثرية الأصوات ولهذا سلبيات كبيرة:
أولا: تعطيل صدور القرار،
ثانيا: أستغراق الوصول الى قرار لوقتٍ قد يَمتد الى ما لا نهاية،
ثالثا: فرض شروطٍ قد تكون قاسية جدا على هذه أو تلك من الكتل أو الفئات التي تدخل في هذه العملية،
رابعا: توضع فيها تنازلات متبادلة من هذه الفئة أو تلك وعلى قاعدة (تنازل أتنازل)،
خامسا: يحمل التساوم المصلحي في ذاته بذور زعزعة نزاهة الأفراد.
أما أذا أخذنا بنظر الأعتبار ما يدور في عالمنا الأن الذي يَعمل بهذا المبدأ "الأكثرية والأقلية"
فأجد صعوبة في ضَمان وجوده وبشكل عادل ومقبول من جميع الشعوب من دون تغير جذري في قواعد هذا المبدأ، حيث المشاكل العالمية تزداد يوميا، حماية الضعفاء والأقليات فيه غير مرضية، القوي هو الذي مسيطر على القرار، والأكثرية الى جانبه في أغلب الأحيان عند أتخاذ القرار.
العقبة الأساسية وعلى جميع الأصعدة في عدم تطوير أو تغيير القواعد المستخدمة في تطبيق هذا المبدأ هم أصحاب القرار أو السلطة المتنفذه عليه وفي كثير من المجالات (أن كانت منظمة، شركة، مؤسسة حكومية أو دولية) لأنهم يخشون فقدان السلطة وبذلك فقدان القرار، لهذا يحاولون وبكل جهد تَجَنب ذلك.
ما هو الحل؟
أولا: صياغة قواعد جديدة واضحة ونزيهة تَضمن مشاركة الجميع في صنع القرار،
ثانيا: أعتماد التنظيم الهرمي وأطاء أهمية لدور الفرد في صنع القرار وأشباعه بمسؤولياته في تنفيذه.
أن النظام التوافقي (نظام أقل الأعتراضات في عملية أتخاذ القرار) هو مبدأ يأخذ بهذه الحلول ويشارك الجميع ومن دون تمييز في صنع وأتخاذ القرار وتطبيقه. في البداية قد يَجد المرء صعوبة في تَفهم ذلك ولكن مع الوقت يجد فيه الحل الأمثل للمعضلات التي نعاني منها جميعا، ولم يعد لمبدأ الفائز والخاسر "الأكثرية والأقلية" مع هذا النظام أي أهيمة تذكر. النظام التوافقي يجد القاسم المشترك بين الجميع وبالتالي فهو نظام أقل مشاكل في الأنتخاب والأختيار من المعمول به حاليا "الأكثرية والأقلية" ويلغي المقولة (الذي ليس معي فهو ضدي).
الذي يريد أن يفلح بأصوات الأخرين (أقل الأعتراضات) ويُنَجح مقترحه، ما عليه الا أن يطور المقترح ويجعلهُ مقبولا من الأكثرية ولا يقف ضدَ رأي الأخرين من دون سَبَبٍ مقنع.
أن نجاح أي مقترح لا يعتمد على الجهة التي تطرحه (حزب، منظمة مهنية....الخ)، وأنما على نوعية المقترح والفائده منه وهذا يعني حتى الفئات والأحزاب الصغيرة يمكن لها أن تقدم المقترحات التي تفيد المجتمع وأن تطرحها للنقاش والتصويت على ضوء النظام التوافقي هذا.
وأخيرا فأن طريقة التوافق هذه تخول جميع البرلمانات والهيئات العليا والدولية...الخ ذات الصلاحية، لأتخاذ جميع القرارات من دون الدخول في تحالفات وجبهات أو تكتلات.
وسنأتي في مقال ثانٍ على الأسس التي يَعمل بها النظام التوافقي هذا.

* دراسة من ثلاث مقالات للدكتور صلاح الدين علي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.عنوان المراسلة الألكتروني هو: