بعد الإطلاع على الأرقام والبيانات الإقتصادية والمالية التي طرحت في مجلس النواب العراقي الموقر من قبل السيدين وشزيري المالية والتخطيط، والتي أشّرت إلى أن البلاد تواجه أزمة اقتصاية ومالية، مرشحة لأن تمتد لفترة غير قصيرة. وأزاء الإستعراض لواقع العجز التخطيطي في الموازنة العامة لسنة 2014 والفائض واقع على مدى السنوات الماضية، وإمكانية تحوله إلى عجز فعلي كبير ونقص شديد في السيولة، بلغ حد إثارة الخشية من قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها المالية الجارية، فإن نوّاب " التحالف المدني الديمقراطي " يرهنون موقفهم من مشروع قانون الموازنة لعام 2014 ولعام 2015، بمدى ما سيتوفر لمجلس النواب من معلومات وبيانات من قبل الحكومة عن أوجه الإنفاق التي تمت، ومدى التزامها بالضوابط الدستورية والقانونية والمالية، وبعد التيقن من خلوها من شبهات الفساد.
لقد جاء تبرير الحكومة بأن هذه الأزمة تفجرت بعد احتلال " داعش " للموصل، وسيطرتها على بعض الآبار النفطية وتعطيلها لمصفى بيجي ولإنتاج وتصدير نفط كركوك، وما نجم عنه من إنخفاض في إنتاج وصادرات النفط، والذي إقترن مع هبوط في أسعار النفط، بلغت نسبته حوالي العشرين بالمائة خلال الأشهر الأربع الأخيرة. وفي الوقت نفسه إرتفعت نفقات العمليات العسكرية ورواتب متطوعي " الحشد الشعبي " ونفقات تلبية متطلبات مئات آلاف النازحين. وإذ نقدّر تماما تأثير هذه العوامل على إيرادات الدولة النفطية وعلى حجم الإنفاق الحكومي، إلا إن هذه العوامل غير كافية لتفسير شدة الأزمة كما تصفها الحكومة، وما سيترتب عليها من تضييق على مستوى معيشة المواطنين من ذوي الدخل المحدود، وعلى النشاطات الإقتصادية نتيجة الإجراءات التقشفية المزمع إتخاذها. فطيلة السنوات الماضية كانت أسعار النفط المعتمدة في تخمينات الموازنة تقل بما يزيد عن العشرة دولارات للبرميل الواحد عن سعر البيع الفعلي، وذلك تحوطاً لاحتمالات إنخفاض سعر النفط. كما أن نسبة الإنفاق الفعلي للموازنات الإستثمارية كانت لا تزيد كثيرا في المعدل عن الخمسين بالمائة. ففي عام 2014، فشل مجلس النواب والحكومة السابقان في تشريع قانون الموازنة العامة.. ما يعني أن الإنفاق الحكومي إقتصر على نسبة 1/12 من موازنة العام المنصرم ولأغراض الإنفاق الجاري التشغيلي.
في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن الزيادة الكبيرة في النفقات الجارية، نجد عند التدقيق أن إستحقاقات الشركات النفطية لم تدفع، وتخصيصات خمس ( 5 ) محافظات لم يُصرف منها سوى نسبة ضئيلة. كما ان نسبة كبيرة من رواتب المجندين في " الحشد الشعبي " لم تدفع، فيما الموازنة الإستثمارية معطلة، وتخصصيات النازحين لم تتجاوز النصف ترليون دينار عراقي، ورواتب موظفي الإقليم والبيشمركة اوقفت منذ الأشهر الاولى لسنة 2014. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل : أين ذهبت الفوائض المالية التي تراكمت خلال السنوات الماضية ؟ وكيف صرفت الحكومة السابقة إيرادات عام 2014 ؟ بحيث ينشأ هذا العجز الكبير من دون المرور بمجلس النواب، في الوقت الذي تحكمها التشريعات بالإنفاق بنسبة 1/12.
لذا فأن الحكومة مطالبة بتقديم كشوفات واضحة وكاملة عن تفاصيل هذا الإنفاق لعام 2014 وعن سنده الدستوري والقانوني. كما عليها تقديم الحسابات الختامية لعام 2013 إلى مجلس النواب مع مشروع موازنة عام 2015.
المقترحات التي قدمها وزير المالية لتمويل العجز لا تتجاوز (6,1) ترليون دينار على شكل إقتراض من صندوق النقد الدولي ومن صناديق التقاعد ورعاية القاصرين ومصرفي الرشيد والرافدين، ما سيؤدي إلى رفع المديونية الخارجية للعراق. نؤكد ضرورة أن يتم ضمان عائد مناسب لقروض صندوقي التقاعد ورعاية القاصرين. تتجه المقترحات التي قدمت لتخفيض العجز التخطيطي المقترح إلى تعديل الرسوم والأجور والضرائب، وفرض ضرائب غير مباشرة، كالضريبة على الهاتف المحمول وضريبة على المبيعات باستثناء الحاجات الإنسانية، وتطبيق قانون التعرفة الجمركية، بالإضافة إلى تأجيل تطبيق سلَّم الرواتب الجديد للموظفين، من الدرجة العاشرة إلى الدرجة الرابعة، والزيادة لرواتب الرعاية الإجتماعية ومنحة الطلاب الإبتدائية.. هذا كما ورد في تقرير وزارة المالية أمام مجلس النواب العراقي.
ستتحمل العبء الأساسي لهذه الإجراءات الفئات والشرائح الإجتماعية الأضعف والأقل مورداً في المجتمع، فالضرائب غير المباشرة غير عادلة بطبيعتها، لأنها تفرض نسبة واحدة على الأغنياء والفقراء، والزيادات التي يجري التفكير في تأجيلها تشمل شرائح ذات دخل محدود أو واطئ.
هذا التوجه يحمّل الفئات الشعبية الكثير من وطأة التقشف، والتي سيلحق بها ضررا مركبا، الأول : ناجم عن سوء التصرف بالمال العام والفساد وعدم إنجاز المشاريع الخدمية وصرف العشرات من مليارات الموازنة، دون أن يقابلها منجز مادي على أرض الواقع يرتقي بواقع الناس المعيشي، والضرر الآخر : يتمثل في تسديدها وتشريعها لنسبة غير قليلة من الأموال التي إستحوذ عليها أصحاب المشاريع الفاشلة والوهمية والفاسدون، ليصبحوا من ذوي الثروات الطائلة.
ضرورة الاصلاح واعادة النظر في ترتيب الأولويات
ليست الأزمة المالية الراهنة ظرفية وطارئة، أو وليدة الإنخفاض في الإيرادات النفطية ونتائج المواجهة مع عصابات داعش فقط، وإنما تمتد أسبابها إلى بنية الموازنات العامة وآلياتها من جهة، وإلى إستشراء الفساد الإداري والمالي الذي يستنزف المال العام ويحبط عملية البناء والإعمار، والذي بات يمثل معوقاً أساسياً لتنفيذ الخطط والمشاريع.
ان المطلوب وما ندعو له، هو أن يتم إتخاذ مجموعة إجراءات حازمة وسريعة لخفض الإنفاق الحكومي الترفي الفائق وفق ما يلي :
لا تتحقق الأهداف المرجوة دون المضي في إجراء الإصلاحات الضرورية، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بآليات إعداد الموازنة، عبر الإنتقال من موازنة البنود إلى موازنة البرامج، والإرتقاء بآليات التنسيق والتكامل بين الجهات المسؤولة عن شقي الموازنة، الجاري والإستثماري، وكذلك التنسيق مع البنك المركزي باعتباره الجهة المسؤولة عن السياسية النقدية، بما يحقق إنسجاما أفضل بين السياستين المالية والنقدية.
ينبغي التركيز على فرض ضرائب تصاعدية، كضريبة الدخل باعتبارها أكثر عدلا من الضرائب غير المباشرة، حيث يمكن رفع نسبة الضريبة على الشرائح العليا من الدخل، مع تأكيد عدم اقتصار حسن جبايتها من موظفي الدولة، وإنما ضمان شمولها ذوي الدخول المرتفعة من كبار التجار ورجال الأعمال وأرباب العمل من غير العاملين في الدولة.
التفكير في رفع نسب الضريبة على الثروة، كالضريبة على الممتلكات. نؤكد على مبدأي التصاعدية والتعدد والتمييز عند فرض الضرائب.
نحن نؤيد تطبيق قانون التعرفة الجمركية شرط إستثناء السلع الأساسية، الغذائية وغير الغذائية، وإعتماد نسب مختلفة من التعرفة، حسب طبيعة السلعة وأهميتها في العملية الإنتاجية وضرورتها للإنسان.
إعادة النظر في أولويات تخصيصات الموازنة لصالح تعزيز النشاطات والقطاعات الإنتاجية، الصناعية والزراعية والخدمية، التي ترفع من كفاءة الأداء الإقتصادي، وكذلك القطاعات الكثيفة، العمالة والترابط مع مختلف فروع النشاط الإقتصادي وتلبية حاجات أساسية للمجتمع، كقطاع التشييد والبناء.
على الموازنة العامة، باعتبارها المحرك الرئيس للإقتصاد العراقي، أن تضع لها أهدافاً إقتصادية واجتماعية محددة قابلة للقياس والتقييم، كما عليها كبح النزعة الإستهلاكية في الإنفاق العام والخاص وتشجيع الميل للإدخار.
تطبيق الإصلاحات المتعلقة بالنظام المصرفي وتشجيع القطاع الخاص، وخصوصا في القطاعات الإنتاجية وفي قطاع التشييد والبناء، وتوفير الحوافز المناسبة وإزالة الكوابح والمعوقات الإدارية أمامه، والعمل على إجتذاب رأس المال الخاص الوطني والأجنبي للإستثمار في مختلف القطاعات الإقتصادية.
أن يجري ضغط الموازنة الجارية عبر خفض الإنفاق المخصص لشراء الأثاث والسيارات والإيفادات ومستلزمات الضيافة والنثريات وغيرها من المخصصات والبَدَلات، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
بات من الملح ايضا أن تجري معالجة حاسمة لأوضاع الشركات المملوكة للدولة باتجاه إعادة تشغيلها، مع إجراء الإصلاحات المطلوبة في هيكليتها ونظم إدارتها، لتحقيق الجدوى الإقتصادية من جهة، وتأمين أوضاع مستقرة للعاملين فيها.