لم يكن ذلك اليوم عاديا عليها. أليس غريبا أن يودعها بقبلة على خدها، وكلمات بسيطة "انتظريني بعد يومين سأرجع إليكِ " ثم يرحل كأنه في نزهة.
هو لا يخلفُ بوعده لي؟..فهو الملتزم المؤدب أمامي، لم أعهده كاذبا ولا مراوغاً ، فقد ربيته على الأخلاق الحميدة والالتزام بالوعد والصدق والحب والسلام ..
أسئلة كثيرة دارت في رأسها ذلك اليوم وهي تقلب صوره في صغره وحين مشى ودخل المدرسة وغيرها من الصور، كان يحب التقاط الصور مع عائلته وأصدقائه..
التفت على صوت ابنتها الصغيرة : أمي، أمي مشطي لي شعري فقد حان موعد ذهابي للمدرسة ذرفت دمعها فامتزج بجديلة الفتاة الصغيرة وقالت لها : لقد ذهب أخوك اليوم لمعسكر التدريب كي يلتحق بصفوف المدافعين عن الوطن.
قال لي أيضا " حان موعد الذهاب الى معسكر التدريب" وقد طبع قبلة صغيرة لي وكبيرة لك لم يرد إيقاظك من نومك مبكراً، خاصة بعد معرفته بذهابك إلى المدرسة.
ربما أصبت يا صغيري حين قلت لي " من يدافع عنكِ سواي يا أمي ، الوطن ينادي هلموا يا شباب للدفاع عن أرضكم ، وهو ما يوجب علينا نحن الشباب للتطوع من اجل الدفاع عن البلد بعد أن سيطرت جماعات داعش الإرهابية على بعض أرضه".
كيف يقول لي انه ذاهب لمعسكر للتدريب في حين قال لي صاحبه عبر الهاتف بأنهم وصلوا إلى ارض المعركة.. وعن أية معركة يتحدث ذاك ، لم يزل ولدي صبياً و لم يحمل سلاحاً بعمره كله، ويخاف الظلام في الليل ودوي الإنفجارات تخبطت بهذا الجدار وذاك. وأجهشت بالبكاء "من يكذب عليَّ هو أم صديقه".. رفعت يدها داعية لله.. يا رب أرجعه سالما.
لا لن أجيب على هاتفه ولا الرسائل وسوف أخاصمه لبعض الوقت كي لا يكذب مرة أخرى... مرت الساعات القليلة كأنهن أعوام طويلة ، ظلت تحاور نفسها عن ذكرياتها معه، جلس هنا ونام هناك وضحك في تلك الزاوية وزعل مني في ذلك اليوم لأني صرخت بوجهه دون قصد مني..
سوف يعود بعد يومين.. سأصبر حتى يعود رغم أن " الضنة عزيز" .كيف لا وهو لم يبعد عني إلا حين يذهب للمدرسة
رن الهاتف ، أجاب الأب ، وفي الطرف الآخر من الاتصال صوت يتحدث إليه ،
أهذا ولدكم ؟؟ كانت تنصت للحديث دون جدوى لم تسمع غير همهمات لا تفهمها ،
صدى صوت الفتاة الصغيرة "ماما ماما لقد عدت من المدرسة".
في هذه اللحظة تسمرت نظرات الصغيرة على صور أخيها وقد تناثرت في باحة المنزل العتيق الذي فرغ من الضجيج كعادته ، إذ توسط نعش خشبي كتبت عليه كلمات الوداع الأخيرة ، وصوت رنين الهاتف الذي لا يسكت أبدا.
- لقد عدت، لقد عدت لكن ليس إلى بيتنا .