- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 28 كانون1/ديسمبر 2014 19:28

الرفيقة زينة جاكوب شيفاجي من مواليد 25/ 12/ 1944 ، رغم ان سجلات النفوس تذكر 1/7/ 1942 تاريخاً لميلادها. إقتحمت ميدان الكفاح السياسي منذ سنوات الصبا، وبرعت في العمل الطلابي والشبيبي، واصبحت واحدة من الكوادر النسائية الشابة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي بفترة قصيرة. تحمّلت شظف العيش، وعانت الفصل والتشريد والاعتقال والتعذيب دفاعاً عن مُثل الحق والعدالة والحرية وسعادة الشعب. في العيد السبعين لميلادها، اجرينا معها هذا اللقاء عن ما تود ان تحدثنا به عن رحلة العمر، بحلوها ومرها، فأجابت:
انا ابنة بغداد الخمسينات، فيها نشأت وترعرت، احبتني واحببتها، ومازالت صورتها الزاهية تعيش في وجداني بعمق، على الرغم من اني ولدت في خانقين، وعشت اعوام طفولتي الاولى في اربيل، وربما شكّلَ تنوع المدن العراقية التي سكنتها العائلة وظروف الحياة الاجتماعية والمعيشية فيها، حافزاً إضافيا لتعلقي بمدينة بغداد وعشقي لها.
المدينة ابهرتني وأنا ابنة التسعة او العشرة اعوام عمراً، بعمرانها، شوارعها، حدائقها، اسواقها، مكتباتها، ازيائها، ودور السينما والاهم من كل ذلك أُناسها، هذا المزيج الغريب المتنوع، المختلف والمتناغم في ذات الوقت. كنت لا ازال تلميذة في الصف الرابع الابتدائي، عندما انتقلنا الى بغداد وسكنا في الكسرة، ومدرستي في الوزيرية، وكنت أذهب إليها وأعود منها يومياً، مشياً على الاقدام لوحدي دون وجلٍ ولا خوف.
وبمرور الايام تعرفتُ على زميلاتي في المدرسة، وصارت لي صداقات حميمة، أتذكر منهن، عواطف، فريال، وعوالي برتو شقيقة السيدة بشرى برتو، المناضلة الناشطة في رابطة المرأة العراقية، وفي الحزب الشيوعي العراقي. لاحقاً سمح لي الاهل، ان اقضي ساعة الى ساعة نصف من الوقت بعد انتهاء الدوام يومياً للعب مع صديقاتي القريبات، وجل وقتي كنت اقضيه بصحبة صديقاتي الثلاث.
كنتُ الابنة الصغرى، المدللة، لعائلة متفتحة اجتماعياً، متوسطة الحال من الناحية الاقتصادية. تتكون من الام والاب وأربع شقيقات وشقيقين، وجدنا جميعا الطريق الى الحزب، بأستثناء الوالدة والوالد، اللذين حرصا على تعليمنا، اضافة الى تفهمهما لطبيعة نشاطنا الحزبي وموقفهما الايجابي المساند لنا على طول الخط ، وصبرهما على تحمّل الأعباء الثقيلة الملازمة لممارسة النشاط السياسي في بلد تحكمه سلطة غاشمة، ولم تتشكل لديه تقاليد ديمقراطية بعد.
كان أبي موظفاً في السكك الحديد، أنهى تعليمه في الهند وعمل في بريطانيا لمدة سنتين، عاد بعدها الى العراق، وعمل ملاحظاً فنيا في قسم الكهرباء، لذلك فهو يجيد اللغة الانكليزية، إضافة الى اهتمامه باللاهوت والفلسفة، قارئاً جيداً ومتابعاً للصحافة العربية والاجنبية، ولكنه، وعلى الصعيد الشخصي لم يمارس العمل الحزبي بشكل مباشر على الاطلاق.
و في ذات الوقت لم يعترض يوماً ما على خيار الابناء لانغمارهم بالنشاط السياسي، واستخدام سكن العائلة ايضاً للنشاط الحزبي، رغم معرفته بمخاطر الانتماء للشيوعية في العهد الملكي. كانت حياتنا كعائلة مكرسة للعمل السياسي في الحزب الشيوعي العراقي. وكان الحزب بالنسبة لنا هو الماء والهواء والعزيمة والطاقة التي من خلالها وبواسطتها نريد اعلاء شأن الانسان العراقي والانتقال به ومعه لعالم السعادة الذي نحلم به، والذي كان مجسداً في ارض الواقع بالانتصارات التي حققها الشعب السوفيتي وشعوب اوربا الشرقية في تلك الحقبة من التاريخ.
وكانت حياة والدي تتوزع بين العمل الوظيفي وتبضّع احتياجات العائلة، واثناء تواجده في البيت، كان الكتاب رفيقه الدائم، او متطوعاً لتدريس شخص ما من العائلة او الاقارب والمعارف، اللغة الانجليزية، وكان شغوفاً بهذا العطاء. وقد تعلمنا منه حب العمل ومساعدة ألاخرين.
منذ ان فتحت عينيَّ على الحياة، وجدت نفسي أعيش في بيت وبيئة مشغولين بالفكر والسياسة ، والاجتماعات الحزبية والمناقشات الحامية بشأن الحاضر والمستقبل. وبالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العراق وانعكاسات الوضع العربي والدولي عليه، وبأجواء مفعمة بالحماس والنشاط والتحدي والامل. كان بيتنا آنذاك واحداً من المواقع السرية، التي يُدار منها العمل الحزبي والنشاط الجماهيري، بتوجيه واشراف الشخصيات الاولى في قيادة الحزب الشيوعي العراقي .
بيتنا كان عامراً بالرفيقات والرفاق، ومنهم من يقيم معنا لآماد طويلة كعائلة واحدة، وكنا نضطر الى ان ننشطر مع من يقيم معنا من الرفيقات والرفاق، لنتوزع على مسكنين او ثلاثة. ذلك لأنَ بيتنا العائلي والبيوت الاخرى ما هي إلا مقرات سرية لقيادة الحزب ولكوادره المتفرغين، ولطباعته وصحافته السرية. في هذا المناخ المفعم بالعمل المتواصل، بالعطاء والتضحية ونكران الذات، وبالروح الوطنية الاصيلة، إلتقطتُ بذور الوعي الاولى التي قادتني نحو الحزب الشيوعي العراقي.
في تلك الايام كنا نحتفل سنوياً بالاول من حزيران عيد الطفل العالمي، وأتذكر، وانا طفلة فرحي الشديد، عندما كان شقيقي الشهيد ادمون جاكوب يشركني معه في تحميض الافلام وطبع الصور والبوسترات التي يُهيؤها للاحتفال بالمناسبة. إذ كان لدينا مشغل صغير وادوات بدائية ننتج منها صوراً بمقاسات صغيرة وبوستكارت لاغراض الطباعة، والتوزيع لجمع التبرعات. كما كنتُ ساعية بريد تعرف كيف تتقن الدور وتؤدي مهماتها بنجاح.
كانت رسائل ذلك الزمان عبارة عن لفائف صغيرة مغلفة لا يزيد حجمها عن فلتر السيجارة، والطريف أنني عندما أنقلُ واحدة من تلك اللفائف الصغيرة، ذاهبة مشياً على الاقدام الى أماكن قريبة من بيتنا، ينتابني إحساس أن الشارع يطول بلا نهاية، ومع ذلك لم اكن اتردد في أداء المهمة.
في العهد الملكي كان الحزب الشيوعي العراقي يخوض كفاحاً متنوع الاشكال والاساليب، يقود النقابات ويسعى الى اجازتها رسمياً والى علنية عملها، ويتصدر الاضربات والتظاهرات الجماهيرية والاعتصامات في المدينة والريف في وسط النهار متحدياً اجهزة السلطة القمعية، وفي ذات الوقت كان يحافظ وبشدة على سرية التنظيم الحزبي، وقد استشهد العديد من الرفاق تحت التعذيب الوحشي دون ان يبوحوا بكلمة واحدة عن ارتباطاتهم أو طبيعة عملهم الحزبي.
تحت هذه الظروف السياسية التي تتسم بالقسوة الشديدة للحكومات الملكية الرجعية ــ كنا كعائلة نعيش ــ (نداوم في المدارس او في الاعمال والوظائف في المؤسسات الحكومية والاهلية)، ونسكن بيتاً حزبياً في قلب بغداد، علينا المحافظة عليه، حفاظنا على حدقات العيون وربما اكثر من ذلك.
وقد فرضت علينا إجراءات الصيانة، الإنتقال من بيت لآخر ولأكثر من مرة خلال فترات وجيزة زمنياً، وخصوصاً عند اشتداد حملات الاعتقالات، وكنا نجد العون من دعم واحتضان الجماهير لنا، عندما نضطر للتخفي في ظروف المداهمات البوليسية. وكانت لأًختي فكتوريا جاكوب علاقات جماهيرية واسعة خصوصاً في الاوساط العمالية والمناطق الشعبية، وإمكانية لتوفير السكن البديل الآمن عند الضرورة.
ما دمنا نتحدث عن البيوت الحزبية لابد من تذكر الرفيقات والرفاق الذين تعايشوا فيها، كعائلة واحدة تجمعهم الأُلفة الرفاقية ووحدة الهدف والمصير، وجذوة الحماس المتقد لإنجاز الواجب الحزبي. ففي عام 1954 كما اعتقد، كان بيت الحزب في الكاظمية يحتوي على جهاز رونيو للطباعة، ويضم كلاً من (الرفيقة خانم زهدي، صبرية مريوش، فكتوريا جاكوب وادمون جاكوب)، وقد تم تغيير البيت بسبب زيارة المختار، وتم الانتقال الى سكن في الصليخ ضمَّ (الرفيقات: صبرية مريوش، ام إيمان ـ ثمينة ناجي يوسف ـ وطفلتها الصغيرة ايمان التي كان عمرها اقل من سنة ، فكتوريا جاكوب والرفيقين حمدي ايوب وادمون جاكوب في بداية عام 1955) ، ويتردد علينا رجل فارع القامة يرتدي زياً فراتياً، عرفت لاحقاً أنه الرفيق سلام عادل.
في عام 1956 انتقل اخي ادمون الى بيت حزبي للطباعة، والتحقت به زوجته ماركريت فليب. عند ذاك رجعت للعيش في بيت العائلة في راغبة خاتون. كان البيت على حافة السدة، وخلف السدة كانت منطقة صرائف، واكواخ بيوت الكادحين، الهاربين من بطش الاقطاع في المحافظات الجنوبية ومن مدينة العمارة بالتحديد الى العاصمة بغداد. وفي هذه المنطقة يمكن تلمس الفوارق الطبقية في المجتمع بوضوح حيث تتجاور الاكواخ مع البيوت الفارهة ذات الطابقين بحدائقها ومعمارها الحديث. هذا البيت كان يضم الرفيق حميد عثمان يتصل به الرفيق ابو ايمان (سلام عادل) بين فترة واخرى، والرفيقة ام ايمان (ثمينة ناجي يوسف) .
عام 1957 أعتقل اخي جورج جاكوب، الذي كان يعيش معنا في البيت عندما كان مع مجموعة من الرفاق يقومون بتوزيع المنشورات الحزبية في الشوارع على المواطنين، وعلى اثر اعتقاله داهمت الشرطة البيت مما اضطر اخي ادمون وزوجته الى الهرب عبر السطح الى بيت الجيران وقد تعاون الجيران معنا في اخفائهما. وقد حكمت المحكمة بسجنه، ولم يطلق سراحه إلا بعد ثورة تموز1958. وكانت اختي فكتوريا معتقلة في سجن النساء، بسبب من مشاركتها في انتفاضة عام 1956.
عندما حدثت ألإنتفاضة، كان عمري 12 عاما، ويمكنني القول الآن، انني شاركت فيها رمزياً، دون قصد. اتذكر ان ام ايمان كلفتني بايصال رسالة الى الباب الشرقي، حيث اعتصم طلبة الجامعة في القسم الداخلي المقابل لكلية البنات، وفي طريقي نحو مكان الاعتصام سمعت اطلاق رصاص ولم اكن اعلم مصدر النار وضد من. شاهدني الرفيق عبدالاله سباهي وطلب مني العودة الى البيت، بسبب خطورة الوضع، ولكن الشرطة الذين يحاصرون المكان لم يكترثوا لوجودي ربما لاعتقادهم بأني مجرد فتاة صغيرة مارة بالشارع، واستطعت بدون عناء ايصال الرسالة الى الشخص المعني وعدت الى البيت بسلام.
تعرّض اخي ادمون للتوقيف والمحاكمة في بداية عام 1958 بسبب نشاطه السياسي، وكان رفاقنا من المحامين يتطوعون للدفاع عن المعتقلين مجاناً، وبتكليف من الحزب تولى الدفاع عن ادمون كل من عبدالستار ناجي وعبدالوهاب القيسي، وقد تم اطلاق سراحه. وكنا نعيش تلك الفترة في بيت حزبي مع ام ايمان (ثمينة ناجي يوسف).
في العام الدراسي 1957ــ 1958 انتقلت الى الدراسة المتوسطة، تعرفت على زميلة لي اسمها نوال وتطوّرت العلاقة معها واصبحنا صديقتين قريبتين جداً، وكثيراً ما كنت ازورها في بيتهم، كانت مولعة بالقراءة واقتناء وشراء ماهو جديد في القصة والرواية ، علاوة على وجود مكتبة ضخمة لديهم ، وكثيرا ما كنت استعير منها الكتب . كانت تحدثني دائماً عن شوقها لاختها التي تعيش في الخارج والتي تتمنى عودتها كل يوم.
والمفاجأة ، انني في احدى زيارتي لها، ما ان اجتزت عتبة الدار، واذا بي اجد نفسي وجهاً لوجه أمام (ام ايمان) في الحديقة، فأومأت لي بانها لا تعرفني، ولكن ما ان رأتني ايمان الطفلة حتى ركضت نحوي بلهفة، وسط دهشة العائلة بهذه العلاقة الحميمة، من جانبي تصرفت بشكل طبيعي، ولا ادري كيف فسرّت لهم (ام ايمان) علاقة طفلتها معي. في هذا اليوم اكتشفت ان صديقتي نوال هي الشقيقة الصغرى لام ايمان. بعد هذه الحادثة إزددت قرباً من العائلة، وكانت والدتهم شخصية ودودة، في منتهى الطيبة، وكانت تعاملني في غاية اللطف كواحدة من بناتها.
عندما تفجرت ثورة تموز 1958 كنت لا ازال طالبة متوسطة، حيث كنا نسكن في دور السكك، بعد سلسلة من الانتقالات من بيت حزبي الى آخر. فتحت الثورة امكانية العمل العلني، وقد انغمرتُ في النشاط الطلابي والشبيبي، اسوة بألوف العراقيات والعراقيين الذين اجتذبتهم ثورة تموز بعنفوانها ووطنية اهدافها. واصبحتُ مسؤولة اتحاد الطلبة في المتوسطة. وعلى صعيد الاسرة، كان اخي ادمون من الكوادر الشيوعية القيادية في بغداد، وكان بيتنا مسرحاً لعدد من النشاطات السياسية والاجتماعية على الرغم من وجود المقرات العلنية للطلبة والرابطة والشبيبة والنقابات.
اتذكر اننا اقمنا دعوة في بيتنا لفريق كرة القدم الجزائري الذي زار العراق بعد ثورة تموز1958، كما كان بيتنا محطة لاستقبال الوفد الالماني الذي زار العراق وتحرك الوفد من بيتنا في تجمع حاشد متوجهاً الى مكان انعقاد فعالية من اجل السلام. حينها كنّا نسكن الاعظمية، بعد هذه الزيارة بدأنا نتعرض للمضايقات، وكان اولاد عائلة الشيخلي القريبين من بيتنا ، يرمون بيتنا بالحجر، مما اضطرنا الى ترك ذلك البيت وانتقلنا الى سكن اخر.
ترشحت للحزب عام1961. فاتحتني بالترشيح الرفيقة سعاد حبة، وقد حصلت على العضوية بعد فترة قصيرة وانيطت بي قيادة خلية. كنت طالبة في ثانوية الوثبة، الرابع الاعدادي آنذاك. اصبحت عضوة لجنة تقودها ليلى الرومي وتتكون من دلال المفتي، نجلاء الفضلي، باسمة الظاهر، خانم زهدي، إبتسام الرومي، وكانت هذه لجنة نسائية الكرخ على ما اعتقد ونقود لجاناً فرعية، فقد توّسع التنظيم بسرعة و كنت اقود لجنة في المنصور، كانت فيها اميرة الرفيعي زوجة نصير الجادرجي.
وكان من المهام التي كلفت بها، توزيع الادبيات الحزبية على عدد من المحطات ، حيث كان لدى باسمة الظاهر سيارة سكودا نستغلها في عملية النقل، وفي احياء الكرخ البعيدة ذات البيوت المتباعدة عن بعضها، اكثر ما كان يخيفني الكلاب السائبة . شارك بهذه المهمة ايضاً نازانين قفطان. كما تم اختياري مسؤولة اتحاد الطلبة في الثانوية. تقدمت سريعاً في المواقع الحزبية، حيث كانت المنظمات تتوسع بسرعة والنشاط الحزبي ينمو بأضطراد.
اثناء الاضرابات الطلابية التي قام بها البعثيون في زمن قاسم، كلفت ضمن لجنة حزبية خاصة تتكون من رفيقة اسمها هدى عن ثانويات الرصافة والرفيق الشهيد فيصل الحجاج عن الكليات وانا عن ثانويات الكرخ، وكانت صلتنا مع رفيقه تدعى روضه، وكانت مهام اللجنة مكرسة لمتابعة الاضرابات. في فترة ما قبل ردة شباط السوداء، كنت عضوة فرعية الكرخ، وكانت اللجنة تضم رفاقاً ورفيقات، اتذكر منهم فريدة الماشطة وليلى الرومي.