مجتمع مدني

تحرير الاعلام أولاً : ورقة في دور مأمول من الاعلام في المصالحة الحقيقية / عبدالزهرة زكي

نتحدث عن (مصالحة وطنية حقيقية)؟ حسنا إذاً؛ هل يمكن أن أبدأ بهذه الحكاية الحقيقية؟
واحد من أنزه أصدقائي الكتاب وهو من أشدهم تحاشياً للتعصب الطائفي شعر يوماً أن صديقاً له (من مكون آخر غير المكون الاجتماعي الذي نشأ فيه صدديقي) بات يستسلم للانحياز والتعنت الطائفي فكتب إليه رسالة.
رسالة صديقي تضمنت أكثر من عشر ملاحظات ناقدة قاسية لمكونه هو قبل أن يمر على ملاحظة ناعمة تمسّ مكوِّن صديقه.. هذه الملاحظة، وقد أطلعني على نص رسالته، حرصصديقي على صياغتها بأكثر الصيغ تهذيباً ولطفاً ودبلوماسية.
بعد قليل كانت على البريد الالكتروني لصديقي رسالة جوابية من صديقه، هذا نصها: (مع الأسف حتى أنت صرت طائفيا؟)
عشر ملاحظات لم تشفع لمرور ملاحظة واحدة مقابلة.. المتعصب أمّي لا يقرأ إلا ما يساعده على المزيد من التعصب.
وفي حال مثل حالنا، وفي هذه اللحظة الأشد حراجة في تاريخنا الوطني، ما أكثر الأميين.. وما حال من يتحدث عن (مصالحة وطنية) إلا كضاغط على لغم أرضي ما أن يرفع قدمه حتى ينفجر.
هذا الوضع الذي يجعل من الحديث عن قضية إنسانية ووطنية بهذا المستوى من الخطر المحتمل هو ذاته ما يؤكد ضرورة الحديث عن مصالحة؛ لابد من مصالحة.. الاخفاق في المسعى مرة وأخرى يفرض التحرّي على مساعٍ أخرى أكثر جدية وأقرب إلى الواقعية حتى تكون المصالحة واقعاً.
وحتى تكون المصالحة واقعاً لا يمكن تجاوز الدور الخطير الذي يكون بموجبه الاعلام مرة شاحناً ودافعاً للتمزق الوطني ومرة أخرى عاملا حيويا في تعزيز التماسك الوطني.
في الحقيقة كان الاعلام خلال هذه السنوات قد تحمل مسؤوليات كبرى في الاتجاهين: في المضي بالتمزق وفي التقدم نحو التماسك.
اسمحوا لي أن أستعيد تجربة شخصية عملنا عليها منذ 2003 في أول صحيفة كنت مديراً لتحريرها عند تأسيسها وحتى عام 2007، صحيفة المدى.
في هذه الصحيفة كان المحررون من مختلف المكونات؛ بيننا السني والشيعي والمسيحي والصابئي والكردي والتركماني، وجود طبيعي على أساس الكفاءة والخبرة والمهنية وليس على أسس المحاصصة المعمول بها في البرلمان والحكومة طبعاً. جرى الاتفاق علىمبادئجوهريةواضحة ، من بعدما اتضح لنا أن البلد ماضٍ في عنف وتمزق على أسس إثنية، وهذه المبادئ كانت:
انحياز أكيد نحو بناء دولة ديمقراطية اتحادية مستقلة وحرة.
خبرياً؛ لا تجوز صياغة أي خبر بما من شأنه أن يغذي العنف ويساعد على التمزق وتفادي أي أشارات يفهم منها الشحن الطائفي وإثارة نعرات الاستعداء والكراهية.
إذا حدث وحصل تخيير بين المهنية وبين تغليب مشاعر العنف والكراهية فالخيار هو تخفيض سقف المسؤولية المهنية بأقل الخسائر الممكنة لصالح تفادي الشحن والتحريض. الأمن أولا والوحدة الوطنية ثانياً.
هذه التجربة لم تشعرنا، نحن العاملين في الجريدة، بالاطمئنان فقط على مسؤوليتناالوطنية والانسانية وإنما أكسبت الصحيفة احتراماً استثنائيا داخل البلد وخارجه، ومنحتها قطاعاً واسعاً من القراء أصحاب المصلحة الحقيقية بعراق آمن وواحد وديمقراطي ومستقل.
كان معنا بذلك عدد من الصحف والقنوات والاذاعات بهذه النسبة وتلك ولكن... كان يقابلنا في اتجاه آخر مدّ آخر أخذ بالاتساع والنفوذ بعد حين، وهو مدّ بدا يعمل من أجل تكريس كل ما من شأنه زيادة الشحن والتمزق والتناحر الوطني مدفوعاًبقصدٍ لذلك حيناً ومنقاداً بجهل حيناً آخر.
فعملياً لا أستطيع أن أبرئ وكالات أنباء عالمية وكبريات صحف وقنوات وإذاعات في الولايات المتحدة وفي أوربا وفي العالم العربي من توجه قصدي ظل يتحكم بفحوى وأسلوب الصياغات الخبرية وبما كان من شأنه أنْ أسهمت تلك المؤسسات في تأجيج التمزق الطائفي. بعض هذه المؤسسات كانت تصرّ على أن تختار و(بدقة)نوع مراسليها من العراقيين والعرب وبما ينسجم ويساعدها على تنفيذ مثل هذه السياسة الخبرية. أذكر بهذا الشأن أني كنت قد استحدثت صفحة في الجريدة كانت أول صفحة بطبيعتها تختار يوميا ما ينشر في صحف أمريكا والغرب عن الشأن العراقي وتقدمه?للقارئ العراقي، بعد أشهر بدأت والزملاء المترجمون نعاني كثيرا من أجل التوفر على مقالة في تلك الصحف متحررة من التوجيه التحريري الذي يضيف إلى النار حطباً. في المؤسسات العربية كان الأمر أشد افتضاحاً حيث لم تتردد بعض القنوات في أن تدوس على أدنى المعايير الانسانية والاخلاقية ناهيك عن المهنية وهي تسفر عن سياسة معلنة كانت تحرض على القتل في العراق وعلى مزيد من العنف والكراهية والبغضاء الطائفية. ولمن يتبادر إلى ذهنه أن الأمر كان مرتبطا بموقف لتلك المؤسسات من الاحتلال يمكن القول: إن تكرار النهج ذاته بعد سنوات في ليبي? وسورية ومصر واليمن يُبطل ذلك التوقع.
بعد هذا وفي بعض المؤسسات العراقية حصل الشيء نفسه؛ مرات كثيرة كانت هذه المؤسسات تجعل من نفسها طرفاً أساسياً في (الصراع)، وصار واضحاً أن هذه القناة مع هذا وتلك القناة مع ذاك، وكان السياسيون المنقسمون طائفيا يكتفون أحيانا كثيرة بما تؤديه هذه المؤسسات ويستترون خلفها، فهي تؤدي بالنيابة عنهم ما لا يريدون هم الظهور به علناً.
واحد من الظواهر الواضحة لهذا الدور المهين هو محنة كثير من الصحفيين العاملين في تلك المؤسسات؛ تمزقهم النفسي والاخلاقي بين متطلبات العيش وبين مسؤوليتهم المهنية والوطنية.
لا أشك بسلامة مواقف معظم الصحفيين لكنني أشكك بالدور السياسي الموجَّه للمؤسسات.
ربما أطلت لكني ها أنا أقترب من إمكانية أن ينهض الاعلام بدور مسؤول في تحقيق المصالحة، وهو موضوع مؤتمرنا.
واقعاً أن معظم الاعلام مملوك أو تابع لجهات نفوذ سياسي.
حرية الصحفيين في المؤسسات الصحفية العراقية بمعظمها مقيّدة وتنظر بحذر شديد إلى طبيعة الهوى السياسي المسيطر على المؤسسة وإلى ضرورة مراعاته.
لا يتمتع الحصفي العراقي بالحصانة القانونية التي تضمن له البقاء في عمله إذا ما أراد مراعاة ضميره المهني واحترام قناعاته الشخصية.
لا وجود لعقود مكتوبة وقانونية بين الصحفي ومؤسسته، وإن وجدت، وهي حالات نادرة، فالعقد مكتوب من جهة المؤسسة وبتعسف شديد وبما لا يحفظ أية قيمة للصحفي ولا أية حقوق.
هذه مشكلة حقيقية لابد من مراعاتها إذا أردنا دوراً عضوياً للصحفيين في تحقيق متطلبات المصالحة، مثلاً، وهم يعملون بمؤسسات محكومة بأجندات مالكيها ومموليها، ومعظم هؤلاء المالكين والمموّلين هم أطراف في التنازع السياسي القائم بالبلد بوجوهه المختلفة.
السياسيون، كما هم في كل العالم، ينظرون إلى الاعلام كمناطق نفوذ لابد من السيطرة عليها وكقوة حاسمة في الصراع.
ومن هنا يتوجب فض الاشتباك بين حرية الصحفيين وبين صرامة التوجيه السياسي.
ما لم يكن الصحفيون أحراراً وأقوياء بتمتعهم بحرياتهم لن يكونوا قادرين على أداء أدوار إيجابية هم قادرون عليها فعلاً.
هل المصالحة الوطنية حاجة حقيقية للسياسيين الحكوميين والبرلمانيين وللسياسيين المعارضين من داخل العملية السياسية وخارجها؟
أعتقد أن كثيراً منهم بدأوا يقتربون من الاقتناع بأهمية وضرورة تحقيق هذه المصالحة بعد سنوات من اللعب والعبث باسمها والارتزاق بمؤتمراتها.
لكن هذا يفرض على السياسيين من الطرفين، موالي العملية السياسية ومعارضيها، التعبير بعقلانية وبوضوح عن هذا الاقتناع.
لا يجوز العمل بأنفاق ما تحت الأرض بهذه القناعة بينما الظهور بالعلن الاعلامي يكون على خلاف هذا.
حين تكون الحكومة والبرلمان مطالبين بحزمة اجراءات وتشريعات تسهّل فرص الوصول إلى مصالحة حقيقية فإن المعارضين داخل العملية السياسية وخارجها مطالبون هم أيضا بالامتناع عن مواصلة الشحن واثارة الكراهية وتضليل جمهورهم عبر الاعلام.
حرروا الاعلام، خففوا من غلواء استخدامه كسلاح.
دول الجوار والعالم هي أيضا تتحمل مسؤولية كبيرة للتعبير بجدية عن مدى جدية دعمها مشروع مصالحة وطنية حقيقية في العراق (من الممكن له أن يكون نواة لمصالحات إقليمية أكبر)، وسيكون تحرير الاعلام المملوك من قبلها من سوء الاستخدام ضد العراق والعراقيين هو أول البراهين في تلك الجدية .
يستطيع أيُّ صحفي سواي أن يعطي عشرات الوعود التي يمكن للاعلام أن ينهض بموجبها لصالح المصالحة لكني أكتفي بأن أجد في الحرية مبدءاً أول لازماً من أجل تقديم وعود أكثر واقعية من المصالحة نفسها التي تبدو حتى الآن ضرباً من خيال لمواطن سحقته الحروب وحطمت الكراهية والبغضاء أيَّ أملٍ فيه.