فضاءات

ساطع هاشم يصل برحلة اللون عبر التاريخ ، فنا ورمزا،الى مرفأ المقهى الثقافي في لندن

لندن- خاص
يواصل المقهى الثقافي العراقي في لندن أمسياته الشهرية ، ليقدم فيها المتنوع والجديد من الموضوعات التي باتت تستقطب حضورا متزايدا من بنات وابناء الجالية العراقية والعربية اللندنية ، وقد كانت أمسيته يوم 27/09/2015 متميزة حقا لأستثنائية موضوعها: (تاريخ اللون) من خلال الفن والصناعة والسياسة.. قدمها الفنان التشكيلي العراقي ساطع هاشم.
وقدم السينمائي العراقي علي رفيق للأمسية منوها عن حداثة الموضوع على دراسات وابحاث الفنون التشكيلية في العربية واشتغال الفنان ساطع عليه منذ سنوات عديدة حيث كتب العديد من المقالات: "كانت بمثابة مقدمات لمواضيع أشمل وأعم ظلت تشغله لسنوات طويلة ، وبحثه فيها متواصل ومتجدد بلا انقطاع سواء في المجال النظري ام في التطبيق العملي كلوحات واعمال فنية ، وجميعها تقع في نطاق - تاريخ اللون - وهوفرع جديد من فروع البحث ضمن تاريخ الفن ، مازال يشق الطريق ليصبح فرعا مستقلا في الدراسات الاكاديمية.
وقال الفنان رفيق ان اختيار المقهى لهذا الموضوع لحث زبائنه الكرام الى مناقشة المحاضر والحوار معه حول طروحاته :" حيث تهدف مناقشة اللون فيها إلى الوصول لمفاهيم عامة عن معناه أو رمزيته وعلاقته بالمجتمع أو البيئة والفكر والتقاليد وهكذا .." واكد على ان" التعاطي مع اللون فذلك شيء اخر مختلف يهدف للوصول إلى معطيات خاصة بالفرد لانها تطبيقات عملية يومية مرتبطة بالإدراك البصري الذاتي الآني للمحيط كما في حالة اختيار الفرد لألوان ازياءه أو أثاث منزله وهكذا.
وفي حالة الرسامين او الفنون الجميلة عامة فذلك يجمع بين الممارسة والنقاش ، بين ماهو علمي نظري وعملي وما هو مجازي تخيلي غير مرتبط بقانون او قاعدة او بالعكس ماهو مرئي وملموس مطبق على اساس قاعدة او مفهوم ، يطلق على كل هذا النشاط الابداعي عادة بالرؤية الفنية للعالم.."
ثم قدم الفنان علي رفيق عرضا موجزا للسيرة الذاتية للفنان هاشم ضيف المقهى بعد الترحيب به:
ساطع هاشم
مواليد مدينة بهرز – محافظة ديالى – العراق- 1959
درس الفن سنتين في المدرسة الوطنية للفنون - الجزائر - 1980- 1978
حصل على شهادة الماجستير بالرسم الجداري من اكاديمية موخينا للفنون – لينينغراد – الاتحاد السوفياتي سابقا- 1989
Stieglitz St. Petersburg State Academy of Art and Industry
اقام معارض شخصية عديدة وشارك في معارض جماعية عديدة في العديد من دول العالم
وتقتني اعماله عدد من المتاحف والمجموعات الدائمة والعامة وابرزها:
المتحف البريطاني في لندن- بريطانيا
متحف الفن المعاصر في كالينينغراد – روسيا
متحف ليستر للفنون –بريطانيابلدية مدينة ليستر
بلدية مدينة ستوكهولم - السويد
وزارة الصحة السويدية – ستوكهولم
والعديد من المجموعات الخاصة في اكثر من عشرة بلدان
ونفذ عدد من الجداريات في السويد وبريطانيا
تم تكريمه من قبل مدينة ليستر البريطانية سنة 2010 وذلك بتسمية احدى القاعات الرئيسية في كلية التعليم بوسط المدينة، باسمه : قاعة ساطع هاشم.
وأعرب السينمائي علي رفيق عن اعتزازه والمقهى الثقافي بمنجز الفنان الضيف وعلى وجه أخص اطلاق اسمه على احدى قاعات الفن في بريطانيا واعتبره انجازا يرفع اسم العراق. واعطى الكلمة له لتقديم موضوعه في هذه الأمسية.
وهكذا ابتدأ الفنان ساطع رحلته مع اللون عبر العديد من المحطات رافقتها أستنتاجاته التي كشف فيها ما وجده في عصور مختلفة من رؤى متنوعة للون عند شعوب واقوام واثنيات كوكبنا الأرضي وعبر المراحل التاريخية التي مرت بها البشرية .. فالعراقيون القدامى كانوا يقدسون اللون الاسود ويرمزون للآله الاكبر بالأسود وذلك منذ زمن عبادة تموز – عشتار واعطى مثالا ان تماثيل (كوديا – ملك سلالة لكش) الـ 27 جميعها سوداء وانهم اضطروا لجلب مادته من الصخور السوداء من مكان بعيد جدا هو سلطنة عمان الحالية ولم يختاروا الوانا اخرى .. واستدل من ذلك على ان تسمية العراق بارض السواد قديمة بقدم العراق نفسه لارتباطها برمزية الاسود الايجابية في الديانات القديمة التي نشأت فيه، بعكس الفهم السائد القائل بانها مجرد صفة اطلقها البدو لكثرة ظلال الشجر ، واضاف بايراد امثلة اخرى لاثبات ذلك منها لون مسلة حمورابي الأسود وانتشار عادة دفن الموتى مع اشياء وحاجيات سوداء في العصر الحجري الحديث ومابعده ، وقد تبدلت هذه النظرة الايجابية للاسود الى نظرة سلبية بعد ظهور الديانات الابراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام ليصبح لونا سيئا وملعونا يرتبط بالكفار والخونة وماهو دنئ وكل من تسود وجوههم ويذهبون الى جهنم ، ومازال هكذا حتى الان ، واكد ان الالوان تمتلك رموزا محددة عند اقوام تختلف لدى غيرها .. فالمصريون القدامى في حزنهم ارتدوا الابيض ، والصينيون الى اليوم يظهرون حزنهم بالابيض ايضا.
اشار هاشم ايضا الى ان اللون هو فكرة وظاهرة اجتماعية تنشأ وتتولد في ذهن الأنسان منذ الطفولة وتتجلى في سلوكه اليومي ، وفقا لعادات وتقاليد جماعية يكتسبها بالتدريج .. فيتعلم مثلا عندما يذهب زفاف يرتدي الابيض مثلا( الفرح) لكنه عندما يشارك في مجلس عزاء يرتدي الأسود ( الحزن).
ثم استعرض المحاضر الجانب الصناعي للون ودور ابرز المخترعات في عصر النهضة وتوقف طويلا ما احدثه اختراع غوتنبرغ الالماني للطباعة وتصنيع الحبر الأسود عام 1453وما ابدعه فن الغرافيك وما مدى تأثير الأسود والأبيض على البشرية وكيف استخدمتهما الكنيسة في منشوراتها التبشيرية ولقرون عديدة .. ثم دخول اللون في اعمال الفنانين التي زينوا بها جدران الكنيسة ومنهم مايكل انجلو ودافنشي وكثير غيرهما وكيف سادت في القرن 16 تعليمات كنسية تملي على الرسامين استخدام الألوان في رسوماتهم على النحو التالي مثالا: العذراء(الأزرق)، المسيح ( الأحمر) الخونة واليهود ( الأصفر).
وبعد ان أورد أمثلة عديدة لأستخدامات الألوان في شتى المجالات الحياتية ، أتى بالحديث عن الأنعطافة الحاصلة أبان دخول البشرية العصر الصناعي حيث تجلت الرمزية في الممارسة اللونية واتجهت الى الأيديولوجية واعطى مثالا عن اللون الأحمر فقال : " اختيار لون العلم الأحمر جاء مع الثورة الفرنسية .. كان الجمهوريون يطالبون بمحاكمة الملك .. وفي تلك الفترة كانوا يستخدمون اللون الأحمر كأشارة للتحذير او الخطر .. ومن هنا جاءت مقولة :( هذا خط احمر لا يمكن تجاوزه) ... وفي اثناء التظاهرات الفرنسية في سنة 1791 التي طالبت باعدام الملك كانت الشرطة ترفع اعلاما حمراء كعلامة تحذير وتضع خطا أحمر .. وعندما تجاوزه المتظاهرون فتحت الشرطة النار عليهم فاردت منهم قتلى اختلطت دماءهم بذلك الخط وتلك الاعلام ومنذ ذلك الحين اصبح العلم الاحمر رمزا للثورة . وقد كتب فيكتور هيجو في ( البوساء) سبع صفحات حول العلم الأحمر.. وفي كومونة باريس اختار الثوار الاحمر لونا مميزا لعلمهم وأمسى رمزا بعدها لكل ثوار العالم ..
ان ذلك الكم الكبير من الأمثلة والمعلومات التي عكست جهد الفنان ساطع هاشم في بحثه الجاد وتتبعه لتاريخ اللون والذي لم يكتف بسرده وانما كان يتوقف في كل محطة من رحلته الطويلة ، والتي قدمها باختزال واضح ، كان يقدم تفسيراته الخاصة ومقترحاته لتأويلات من عندياته محاولا دعمها بما حصل عليه من وثائق وحقائق .. وهذا مما أثار زبائن المقهى للتداخل والحوار وساهموا في اغناء الأمسية التي امتدت الى ما يقارب الثلاث ساعات ..
لقد اصبحت سمة الحوار والنقاش الجاد علامة بارزة لأمسيات المقهى الثقافي العراقي في لندن لأنها أمست لا تكتفي، بالتقليدي، بمحاضرة واسئلة من الحضور وانما يساهم مساهمة الجانب الأخير في التفاعل مع الموضوع المطروح واغنائه والتحفيز على البحث ومواصلته حتى بعد الأمسية .. وفيما يلي ننقل بشكل سريع لأجواء تلك المداخلات والمحاورات لأعطاء فكرة عن آلية تلك الأماسي المفيدة والنافعة .
كريم سبع ( ابو عشتار) كان لديه رأي فيزياوي في اللون فتحدث عن تعامل العين البشرية مع اللون وميكانيكية عدستها فقال في الريف لا تحتاج العدسة الى جهد كبير في استقبال الوان الطبيعة و ( الأخضر) سهل الأستقبال.. في حين نجد ( الأحمر ) يحتاج لفتح عدسة العين باتساع كبير ولهذا كما ذكر المحاضر كان هذا اللون للتحذير من خطر ما .. ويقاس اللون ليس كموجة وانما بتردده الحراري .
ثم اضاف ان السومريين القدامى ينظرون الى العالم السفلي على انه تعبير عن الظلام فرمزه عندهم الاسود لأن الانسان يخشى المجهول ومن هنا اختار البروتستانت الأسود لتصوير الشيطان .. وانتشر المفهوم الاجتماعي ان الشر هو اسود والخير ابيض..
اما الشاعر عبد الكريم كاصد فأكد ان اللون السائد في ملحمة (كلكامش) هو الأسود .. لكنه أكد ان عشتار لم تكن تلبس الأسود .. وشخصيتها بالغة التعقيد وربما هي تجلي لتعقيد حضارتنا ذاتها .. وأشار الى ان عشتار لم تكن أمرأة فقط فهي ذكر ليلا وانثى نهارا حيث تكون مغرية وتتصرف بغنج وكان يوميا لها عشيقا .
وقال كاصد انه لايتفق مع الرأي الذي يقول ان المصريين قد اتخذوا من الأسود شعارا للموت .. وهو نفسه قد شاهد تمثالا في المتحف المصري كان صغيرا ابيض اللون جميلا كان يكاد يضيء عتمة قاعة المتحف. وجاء ايضا على ذكر طروحات الماركسي الانكليزي بيرجر حول الرمزية في الفن التشكيلي.
وعقب عبد الكريم كاصد على ما طرحه الفنان ساطع حول اللون الأحمر فاختلف معه مؤكدا على ان اللون الأحمر استخدم قبل الثورة الفرنسية وقال عند المسيحيين ان الشيطان كان يوقع عقوده ومواثيقه بالدم ..كما اختلف معه ايضا بصدد تسمية العراق بارض السواد فقال انها جاءت من خصوبة ارضه وارتباط الأسود بالأخضر وان الرايات العباسية كانت سوداء.
اما ابو نوري فأثنى على اختيار الموضوع وأكد أهميته باعتباره يمزج بين الأيديولوجيا والسايكولوجيا ومادتي التاريخ والأجتماع .. وقال ان اللون شكل من اشكال الصراع بين الانسان والعدم .. وأشار ان الأديان الأبراهيمية كلها تدعوا اللون الأبيض هو لون الله والسماء بيضاء وحتى كفن الميت عندهم ابيض. واشار الى الديانة المندائية التي هي قبل تلك الأديان تقدس هي الأخرى اللون الأبيض .. وكل الاديان تعطي للشيطان اللون الأسود ..
وركزت مداخلة ابو عزيز على ان هناك كائنات حية لاترى الالوان التي يراها الانسان .. واضاف ان شبكية العين فيها ملايين التقنيات ( الفلترات) التي تحول الالوان الى طيف .. وكما ان الضوء هو موجة لكنه في عين الوقت كتلة.
وتحدث الفنان التشكيلي اديب مكي القادم من امريكا عن غبطته بحضور نشاط المقهى والموضوع الذي عالجته المحاضرة واكد ان بعض من اختار اللون الاسود هوبسبب ما يضفيه هذا اللون من رمز القوة والقسوة في آن . وعقب الكاتب الساخر خالد القشطيني فقال ان الكثير من الالوان اشتقها الأنسان من المحيط الذي يعيش فيه فاللون الاسود صنعه من الفحم والسخام والابيض من مادة الطباشير وخلطها مع الزيت .. وطرح القشطيني تساؤلا قال انه يحيره وهو لماذا يتمسك المشرقيون العرب بالأسود في حين اقرانهم في المغرب يتمسكون بالأبيض؟ وكان تعليق كريم الجواهري على المحاضرة ككل فقال انها افتقرت الى الأدلة في أثبات ما ذهبت اليه .. وقدم السيد مظفر سؤالا عن سبب اختيار البعض للون الفيروزي لطرد الحسد.
اما الروائي زهير الجزائري فتركزت مداخلته على اهمية التفريق بين مسألتين في دراسة اللون هما الأحساس به من جهة وصناعته .. واضاف الى ان عشتار شخصية ملتبسة فهي هي حين دخلت الى العالم السفلي كانت ترتدي الملابس الملونة لكنها عندما خرجت من هناك كانت في الأخضر .. من هنا نستنتج انها كانت ملونة وليست سوداء.
في ردوده اكد الفنان ساطع هاشم على انه يتفق مع الكثير من الطروحات ويبقى موضوع اللون يحتمل الكثير من الحوار والنقاش وفي النهاية اعرب عن سروره بما جرى من اضافات أغنت الموضوع وشكر المقهى الثقافي على استضافته .