فضاءات

قلة ضئيلة دافعت عن الطغيان / حيدر جواد

بعد الضربة الجوية التي نفذها طيران التحالف في 17 كانون الاول 1990، بدأت حسابات الدكتاتور تنهار، والفوضى تدب في جسد نظامه المترهل أساساً. ورغم ان التشكيلات الحزبية المسلحة ومفارز الجيش الشعبي ظلت تجوب الشوارع، فان منتسبيها المنخرطين فيها عن غير رغبة اصلا، راح مزاجهم يتحول تدريجياً ضد الدكتاتورية وسياستها.. يتحول مع كل منشأة تدمر، او مرفق اقتصادي او جسر ينهار بفعل قصف طائرات التحالف، التي لم تصطدم بسلاح صدام السري الذي بشر العراقيين به قبل شهور.
وطبيعي ان هذا التحول النسبي في المزاج لم يحدث من دون مقدمات، بل مهدت له تطورات سنين طويلة سابقة، شهدت حملات التبعيث القسري وترويع منتسبي القوى السياسية الاخرى، وسوق المواطنين الى التدريب العسكري وحمل السلاح والانخراط في القوات المسلحة والجيش الشعبي. ومهدت له ايضا تطورات الاشهر الستة التي اعقبت غزو الكويت، واستعراضات القوة التي قام بها الدكتاتور، ومزادات الفرهود لكل ما وقعت عليه أيادي أزلامه في الكويت، ومنظر آلاف الكويتيين في المدن والطرقات العامة، الذي كان يدمي القلوب، اضافة الى تبخر الوعود الرسمية بتحقيق الرفاه للمواطنين بعد غزو الكويت، بل وتفاقم صعوبات العيش نتيجة فرض الحصار الاقتصادي على العراق.
وبدأ السؤال يكبر: لماذا كل هذا ولمصلحة من؟ ولماذا يتوجب على من نجا من "القادسية" ان يموت الآن؟ ومع كل يوم يمر كانت المدن والارياف تزداد ازدحاماً بالجنود الرافضين للحرب، والذين كانوا يجاهرون بعصيانهم في تحد مكشوف للسلطة ومرتزقتها، في حين يتصاعد الاستعداد الجماهيري لحمايتهم.
وحين جاء اليوم الاول لهجوم الحلفاء البري، كان الوضع مهيأً تماماً لحدث ما. فقد كان افتراق الجماهير عن السلطة حاداً، والتمرد على اوامر الحزب الحاكم ملحوظاً في كل مكان. لهذا لم يكن غريباً مع تفجر الانتفاضة صبيحة الاول من آذار، ان الحزب الحاكم لم يجد من منتسبي اجهزة السلطة القمعية سوى عدد قليل مستعد للدفاع عن الدكتاتور ونظامه.
فالكثيرون من منتسبي حزب السلطة وافراد الجيش الشعبي، بما وفروه من سلاح وعتاد وزع عليهم اساساً لقمع التحركات الشعبية المحتملة، تحولوا الى جزء من وقود الانتفاضة، او في الاقل تجنبوا الوقوف ضدها. وخلال ايام معدودات تكشف مشهد حزب السلطة عن ركام هيكل بائس تماماً.
في الايام الاولى والانتفاضة في عنفوانها، لم يتعامل المنتفضون بحقد مسبق مع منتسبي حزب السلطة واجهزتها، لا بل لم يتعرض أحد بسوء للكثيرين منهم بسبب مواقفهم السابقة. وكان الشرط في اغلب المناطق المنتفضة ان يسلموا ما بحوزتهم من سلاح، او ان يقدموا تعهداً بعدم العودة لاحقاً الى ممارسة نشاطات ضد ابناء شعبهم.
لكن آخرين ممن عرفوا بمواقفهم الاجرامية المشينة ضد ابناء الشعب، وهم على الاغلب من وقف بوجه الانتفاضة في ايامها الاولى، هؤلاء كان ينتظرهم بالطبع القصاص العادل. لكن الظاهرة الملفتة للنظر بخصوص هؤلاء، ان اغلبهم افلت واختفى من دون اثر قبل الوصول للقبض عليه.
وكان العديد من هؤلاء وخصوصاً من المحافظين ومدراء امن المحافظات وضباطها، والعديد من ضباط جهاز المخابرات قد غادروا اماكن عملهم في اتجاه بغداد، او لجأوا الى معارفهم وعشائرهم في عمق الريف، وذلك قبل ايام من اندلاع الانتفاضة. هذا ما فعله محافظ بابل كريم الملا مثلا، كذلك محافظ النجف ومحافظ البصرة وغيرهما.
اما من قاده تفكيره الاهوج الى الدفاع عن كرسي الدكتاتور فقد لقي جزاءه العادل، كما حصل لخالد البدر رئيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية التعاونية، الذي لقي مصرعه جنوب محافظة بابل على يد المنتفضين، عندما رفض الامتثال إلى أوامرهم بإيقاف سيارته. وكما حصل ايضاً لمحافظ الناصرية طه ياسين حسين. اما محافظ كربلاء الذي عاش لأيام متسولاً، فقد افلت باعجوبة ليعود في ما بعد مع حسين كامل ويقترف من الجرائم ما يندى له الجبين.
لقد عرفت الجماهير، رغم عمر انتفاضتها القصير كيف تميز الصديق من العدو، وهي لم تعاقب اجمالاً الا من استحق العقاب، رغم ما حصل من حوادث مؤسفة هنا وهناك، والتي اثبتت الوقائع في ما بعد ان العديد منها كان من صنع مرتزقة الدكتاتورية ورجال مخابراتها الذين عملوا كطابور خامس لتشويه وجه الانتفاضة الشعبية. وقد حصل ذلك في مركز محافظة البصرة مثلاً، عندما احرق العديد من الدكاكين في سوق المغايز، وفي الناصرية وبابل عندما نهبت المستشفيات، وفي النجف حيث نهبت محلات صاغة الذهب، اضافة الى نهب المدارس ودوائر النفوس والتجنيد في العديد من مراكز المحافظات وتوابعها.