من الحزب

الشيوعي العراقي : "رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن"

لا لتحميل الفئات والشرائح الاجتماعية الضعيفة والكادحة وذوي الدخل المحدود اعباء الأزمة
تمر على بلادنا اوضاع اقتصادية ومالية صعبة، كانت موضع اهتمام ودراسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. واسهاما من الحزب في تقديم البدائل والتصورات عن سبل الخروج من ما نواجه، يضع ما تم التوصل اليه تحت تصرف اصحاب القرار والمختصين والمواطنين. حيث القناعة كبيرة بان الانتصار في معركتنا الوطنية ضد الارهاب وداعش يتطلب تبني خطة متكاملة : سياسية وامنية واقتصادية واجتماعية وثقافية واعلامية ونفسية. ونرى ان الحاجة ماسة الى التوظيف السليم لموارد بلدنا، بما يؤمن تحقيق تنمية مستدامة تفضي الى النماء والرخاء والحياة الهائنة والرغية في بلد آمن ومستقر. وفيما يأتي نص ما تم التوصل اليه متضمنا في وثيقة " رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن":
لقد اشرنا منذ فترة طويلة سبقت الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها العراق حاليا، وبالاستناد إلى دراسات وأبحاث وتقارير صدرت عن جهات حكومية ومنظمات دولية وخطط واستراتيجيات تناولت جميع جوانب الاقتصاد العراقي، إلى أن العراق واقتصاده يقف على مفترق طرق، وانه في حال استمرار الأوضاع ومسارات السياسة الاقتصادية وتوجهاتها على ما هي عليها، فإن العطل في الاطار الاقتصادي العام للبلاد سيتعمق، وستكون لذلك تداعيات سلبية ثقيلة على حياة المواطنين وعملية الاعمار والتنمية، وستشتد مظاهر التفاوت والاختلال في البنية الاقتصادية-الاجتماعية، بكل ما تعنيه من تعميق لطابعها الريعي، وحالة ضعف وانحسار مستمرين في دور ومساهمة القطاعات الانتاجية، الصناعية والزراعية والخدمية، للقطاعات العام والخاص والمختلط، ورواج النشاطات الطفيلية وتفاقم التبعية للخارج والاعتماد عليه، اضافة إلى الطبيعة القلقة وغير المستقرة للايرادات النفطية الشديدة التأثر بتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية.
وفي السنة الأخيرة، توافقت احداث وتطورات سياسية وعسكرية واقتصادية، إلى جانب ما تعانيه مؤسسات ومرافق الدولة من سوء إدارة وفساد، لتشكل بمجموعها لحظة فارقة بالنسبة للوضع السياسي والاقتصادي العام للعراق لا تدع فسحة تذكر لمزيد من التأخير في إجراء الاصلاحات المطلوبة، حيث أن العديد من الاحتمالات والمآلات، التي كان يجري التنبيه الى ضرورة اجراء ما يلزم لمنع وقوعها والتحذير من مخاطرها، اصبحت واقعاُ فعليا شدد من أزمات البلاد، وبات ضروريا وملحا لمواجهة هذه الأزمات المتعددة الأبعاد والمستويات وحصر تداعياتها، واتخاذ خطوات واجراءات حازمة على مختاف الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والسياسية والتشريعية والمؤسسية.
لقد ارتبط توقيت تفجر الأزمة الاقتصادية والمالية باحتلال " داعش " للموصل، وسيطرته على بعض الآبار النفطية وتعطيله لمصفى بيجي ولإنتاج وتصدير نفط كركوك، وما نجم عنه من إنخفاض في إنتاج وتصدير النفط، والذي إقترن مع هبوط حاد وسريع في أسعاره، بلغت نسبته أكثر من 40 بالمائة أواخر كانون الأول الماضي قبل ان تعاود الصعود ببطء اخيرا، وتزامن ذلك مع إرتفاع نفقات العمليات العسكرية ورواتب متطوعي " الحشد الشعبي " ونفقات تلبية متطلبات أكثر من ثلاثة ملايين نازح.
وفي بداية الأزمة تم الترويج من جهات رسمية وبعض المختصين لطروحات تحصر عوامل الأزمة الراهنة بالتطورات التي استجدت بعد العاشر من حزيران 2014 مع التغافل أو التقليل من دور وتاثير عناصر الخلل في بناء الدولة وفشل نهج وسياسة حكومات المحاصصة المتعاقبة، ولا سيما في الشأن الاقتصادي، وسوء الادارة والفساد المستشري في مفاصل الدولة.
إلا أن بعض الاجراءات والتدابير التي اتخذت خلال الأشهر الأخيرة بحق مسؤولين مدنيين وعسكريين متهمين بالفساد، والكشف عن بعض عمليات الفساد التي طالما اشرتها قوى واحزاب وشخصيات سياسية واعلاميون ومنظمات المجتمع المدني واوساط مختلفة من الرأي العام، بينت بصورة لا تقبل الشك والطعن أن من دون التصدي الحازم للفساد والمفسدين وفضح الفاسدين والقضاء على البيئة الحاضنة له والمساعدة على إعادة انتاجه، واجراء اصلاحات حقيقية سياسية وإدارية واقتصادية، لا يتحقق البناء والاعمار والتنمية، ويتواصل الهدر والتفريط بالأموال والثروات العامة، وتتعمق الفجوة في توزيع الثروة والدخل ويتجاور الفقر المريع مع الثراء الفاحش وتتحول "الديمقراطية" إلى ممارسات شكلية وآليات تعيد انتاج ذات المنظومة السياسية والاقتصادية -الاجتماعية والفئات الطفيلية والبيروقراطية، التي نمت مصالحها وتضخمت ثرواتها في ظل نظام المحاصصة الطائفية والأثنية والاقتصاد الريعي الأستهلاكي والمنتفعة من امتيازات السلطة والمتحكمة بادارة شؤون البلاد.
يواجه الاقتصاد العراقي حاليا مستويين أثنين من المشاكل والأزمات، الأول ذو طبيعة مالية ونقدية ويتطلب معالجات وحلولا آنية يتوجب تحقيقها في الأمد القصير أو المتوسط، والثاني يتعلق ببنية الأقتصاد العراقي الاحادية والريعية والواجب إعادة هيكلتها بتنويع قاعدة الانتاج الوطني عبر تعزيز وتطوير مساهمة القطاعات الانتاجية كالزراعة والصناعة وقطاع التشييد والبناء والخدمات وتحديث تطوير البنى التحتية. المستوى الأول يرتبط بدرجة أساسية بالموازنة العامة والسياسة المالية التي يتحدد على اساسها الانفاق الحكومي واولوياته وبنيته، ا?ا المستوى الثاني فيعتمد على الرؤى والخيارات الاقتصادية الستراتيجية للدولة وترجمتها في خطط التنمية الوطنية والخطط القطاعية والبرامج والمشاريع الموضوعة والتي خصصت لها الاموال والموارد لتنفيذها فعلا. والمستويان ليسا مستقلين عن بعضهما، إذ أن الموازنة العامة هي أداة رئيسة لتنفيذ التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة للدولة، الصريحة والمضمرة.
ومن الضروري التعرف على ابرز ملامح الاقتصاد العراقي الراهن لتحديد اتجاهات التغيير والاصلاح المطلوبة في النهج والسياسة الاقتصادية، وما يترتب على ذلك على صعيد الموازنات العامة السنوية باعتبارها المحرك الرئيس للاقتصاد الوطني.
بعض الملامح الأساسية للأقتصاد العراقي
لقد رسمت الملامح الحالية للاقتصاد العراقي السياسات المستوحاة من مرجعية الفكر الليبرالي الجديد والهادفة إلى الانتقال بالاقتصاد العراقي إلى اقتصاد السوق. وقد شرعت بذلك السلطة المدنية للاحتلال برئاسة الحاكم المدني بريمر باصدار تشريعات للاسراع في تحقيق الانتقال إلى اقتصاد السوق، وذلك "بتحرير" التجارة الخارجية من اية ضوابط وقيود، وكذلك اطلاق حرية انتقال رؤوس الأموال والتدفقات المالية إلى الخارج وتحرير اسعار الفائدة والائتمان المصرفي وبناء مؤسسات سوق المال وتشريع استقلالية البنك المركزي. ولا زال الاقتصاد العراقي يعتبر، بعد أكثر من أحد عشر عاما من التغيير، اقتصاداً انتقاليا من رأسمالية الدولة الريعية المركزية إلى اقتصاد السوق الحر. والعراق ليس حالة فريدة، فمنذ التسعينات مرت العديد من الدول الاشتراكية السابقة بعملية الانتقال هذه،، ولكن عملية الانتقال هذه اكتسبت بعض الملامح المميزة نتيجة السياسات التي اعتمدت وطريقة التصرف بالريع النفطي من خلال الموازنة العامة للدولة.
فعلى مدى السنوات الماضية اقتصرت عملياً على التشريعات الليبرالية الضامنة لحقوق الملكية والاطر المؤسسية التنظيمية والرقابية على السوقين المالي والتجاري. وقد خلق ذلك تحررا منفلتا في التجارة الخارجية يسنده تحرر مواز في السوق المالي لتأمين احتياجات التجارة مع الخارج. والملاحظ ان هذا التمويل يذهب لاستيراد سلع استهلاكية بالدرجة الرئيسية وهو يعمل باتجاه واحد، اي انتقال رؤوس أموال نحو الخارج مقابل تدفق سلع وخدمات مستوردة نحو الداخل. وفي الغالب لا يعود الرأسمال الخارج إلى الداخل مجددا بل يندمج في السوق المالي العالمي. فاقتصاد السوق العراقي يوفر الأطر والقنوات لانتقال الرأسمال إلى الخارج مقابل تدفق سلع مستوردة تعادل قيمتها جزءاً من الأموال الخارجة، اي أن هذه العملية توظف لتهريب الأموال عبر مصادر مشروعة وغير مشروعة، اي انه يتم استيراد سلع قيمتها وكميتها الفعلية اقل من الأموال التي يجري تحويلها إلى الخارج، ويتم الاحتفاظ بالفرق في المصارف أو في توظيفات أخرى خارج العراق.
وقد طغى على سياسة الأنفاق الحكومي الطابع التوزيعي والاستهلاكي، وانعكس ذلك في احتواء جميع الموازنات السنوية على عجز تخطيطي وكذلك في نمط توزيع تخصيصات الموازنة على البنود، ووجد هذا التوجه ترجمته في تخصيص ما بين 70 و 80 بالمائة من الموازنة للنفقات الجارية والتشغيلية، وفي اطلاق الاستخدام الواسع في الدولة، حيث ارتفع عدد العاملين إلى أكثر من ثلاثة ملايين ونصف موظفا ومتعاقدا اضافة إلى مليوني متقاعد وحوالي نصف مليون شخص مشمول بالرعاية الاجتماعية، والمبالغة في الانفاق الترفي لوزارات ودوائر الدولة.
تبين جداول الاحصاءات المتوفرة للسنوات 2003-2013 أن ما يقارب السبعين بالمائة في المتوسط من العوائد النفطية تعود الى الخارج مقابل السلع والخدمات المستوردة، وبلغت نسبة الاستيرادات إلى مجموع الايرادات خلال السنوات 2011-2014 أكثر من واحد وثمانين بالمائة حسب تقديرات البنك المركزي، أذ بلغت الاستيرادات 259 مليار دولار فيما بلغت العوائد النفطية 319 مليار دولار خلال هذه السنوات.
ومن المظاهر الأخرى لريعية الاقتصاد العراقي الراهن هي ا لقيمة المضافة من خدمات القطاع المالي التي تقدر بحوالي 13% من مكونات الناتج المحلي الاجمالي في حين تتراوح نسبة مساهمة قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية في مكونات الناتج المحلي الاجمالي ما بين 7 و10 بالمائة سنوياً. وكان من نتائج هذه التوجهات في السياسة الاقتصادية أن تكرست واشتدت الطبيعة الاحادية للاقتصاد العراقي ودرجة اعتماده على العوائد النفطية والتي باتت تمثل ما بين 93 و 98 بالمائة من ايرادات الموازنة العامة ونسبة تقارب 60 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي. وفي حال استمرار النهج الاقتصادي الحالي فسوف تظل تتعمق الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي وما يترتب على ذلك من انكشاف لتقلبات الأسواق العالمية، وعدم امكانية رسم خطط واستراتيجيات بعيدة المدى بدرجة عالية من الوثوقية.
ومن عناصر الهدر والتفريط بثروات البلاد التي لا يتم الالتفات اليها واعارتها الاهمية المطلوبة، استمرار نزيف الموارد البشرية نحو الخارج. فاعداد المهاجرين والمهجرين في تزايد مستمر، وشملت نسبة كبيرة من ذوي المؤهلات الجامعية وحَمَلَة الشهادات العليا واصحاب الخبرة، وخصوصا من الأطباء حيث بلغت أعداد الذين تركوا العراق منهم عدة آلاف خلال السنوات الأخيرة. فالعراق لم يفشل في اجتذاب الكفاءات المهاجرة وحسب، وإنما لم ينجح في ايقاف نزيف الهجرة والاحتفاظ بالكوادر والكفاءات العلمية والفنية واصحاب الأختصاص.
ومن السمات البنيوية للاقتصاد العراقي الدور المهيمن للقطاع العام (الدولة). فهذا القطاع الذي يمتلك القطاع النفطي، يساهم باكثر من 65 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي، وهي تمثل مساهمة القطاع النفطي بصورة أساسية، وتزيد مساهمته في تكوين الرأسمال الثابت على 93 بالمائة، مقابل اقل من 7 بالمائة لمساهمة القطاع الخاص ما يعكس ضآلة الدور التنموي للأخير.
وفي القطاع الصناعي، يمثل القطاع الخاص3, 98 بالمائة من اجمالي عدد الوحدات الصناعية العاملة مقابل 1.5 بالمائة مملوكة للدولة ولكنها مسؤولة عن انتاج 90 بالمائة من الانتاج الصناعي. وفي الصناعة التحويلية حصرا، وتقدر نسبة مساهمة القطاع الخاص في توليد الانتاج الصناعي بحوالي 40 بالمائة عام 2010. ويضم القطاع الصناعي بحدود نصف مليون عامل، وتعتمد 40 بالمائة من شركات القطاع العام على المعونات الحكومية، اذ تعمل 70 بالمائة من شركات القطاع العام بنسبة 30-50 بالمائة من طاقتها التصميمية وتبلغ نسبة المعامل المتوقفة عن العمل 30 بالمائة تقريبا.
ونستخلص مما تقدم أن البنية الحالية للاقتصاد العراقي غير قادرة ومؤهلة لتحقيق التنمية وخلق فرص عمل حقيقية منتجة وضمان حسن استخدام العوائد النفطية ما يطرح ضرورة احداث تغييرات واصلاحات هيكلية بصورة مختلفة عن تلك التي تدعو لها الليبرالية الجديدة.
الموازنة العامة
لقد تضافرت مجموعة عوامل، منها الصراع بين الكتل السياسية وهجوم قوى الارهاب وسوء الادارة لتحول دون تشريع قانون الموازنة العامة لعام 2014 ألذي يؤطر الانفاق للحكومي خلال العام.
ويبدو أن اجتياح داعش للموصل وما اعقبه من نتائج وتداعيات سبق ذكرها وما مثّله من تطور لم يجر التحسب له من قبل واضعي السياسة المالية للحكومة، لم يكن العامل الوحيد الذي اعاق تقديم مشروع معدّل لموازنة عام 2014، بل كما اخذ يتكشف شيئا فشيئا، يكمن في "الصدمة" التي اصابت المسؤولين في الحكومة الجديدة عندما اطلعوا على الارقام والمبالغ الحقيقية لما انفق على شكل سلف لتغطية النفقات العسكرية ورواتب متطوعي الحشد الشعبي ومواجهة احتياجات النازحين الاساسية، والتي بينت أن الأحتياطي المتاح في صندوق تنمية العراق هو أقل من المتوقع وما تم انفاقه يزيد على المتوقع، وهذا ما يعكس النقص الجدي في شفافية عملية التصرف بتخصيصات الموازنة ليس فقط لممثلي الشعب في مجلس النواب، بل حتى لأعضاء الحكومة ولكبار المسؤولين فيها. وجاء الهبوط الحاد في اسعار النفط العالمية، ليشكل "صدمة" جديدة لأيرادات الموازنة حمل الحكومة على صرف النظر عن تقديم موازنة لعام 2014، والاكتفاء بتقديم ميزانية للايراد والانفاق الفعليين، وتركيز جهودها على مراجعة تخمينات موازنة 2015 وفقا لأسعار النفط العالمية الجديدة ولاتجاهات حركتها خلال السنة القادمة.
ولكن كان على مجلس النواب الإصرار على المطالبة بالكشف عن تفاصيل التخصيصات والمبالغ التي صرفت على شكل سلف خلال عام 2014، حيث لا يزال الغموض يلف مجالات انفاق ومآل مبالغ كبيرة من قبل الحكومة في الدورة السابقة. ويبدو أن ثمة تلكؤا بينا بهذا الخصوص إذ انقضى النصف الأول من عام 2015 ولمّا يتم نشر هذه البيانات.
إن عدم تشريع قانون موازنة عام 2014 يعتبر مظهرا صارخا لفشل أداء الدولة وللسلطتين التنفيذية والتشريعية، فعلى المستوى التشريعي يعتبر تشريع قانون الموزنة من أهم وظائف مجلس النواب،وعلى الصعيد الاقتصادي، يشكل الانفاق الحكومي نسبة تتراوح ما بين 40 و50 بالمائة من الناتج المحلي، ويلعب دور المحرك الرئيس للاقتصاد العراقي، وتعكس الموازنة اولويات السياسة الحكومية الاقتصادية والاجتماعية، ومن هنا مبعث أهمية مناقشة توجهاتها وتحليل بنائها ومفرداتها للكشف عن آثارها الفعلية على النشاطات الاقتصادية وعلى الأوضاع المعاشية للمواطنين.
وإنطلاقا من كون الأزمة المالية الحالية تعود جذورها إلى الخلل في ادارة موارد البلاد الاقتصادية، المادية والبشرية بصورة عامة، وفي الإدارة المالية بشكل خاص، فإنها توفر فرصة وتمثل حاجة لمراجعة تجربة ومسيرة ادارة الموارد الاقتصادية وطريقة استخدامها واجراء الاصلاحات والتصويبات الضرورية.
وتمثل الموازنة العامة وطريقة اعدادها وهيكلية بنائها أحد اهم مظاهر سوء ادارة المال العام وغياب الرؤية الاقتصادية والمالية الوضحة للدولة طوال السنوات التي اعقبت التغيير.
وتفيد البيانات المتوفرة أن جميع الموازنات العامة منذ عام 2005 كانت تبنى على أساس وجود عجز مخطط، ولكنها تنتهي من الناحية الفعلية بفائض ما عدا عام 2009. ومن مظاهر سوء الادارة، وربما عدم الدراية، ان تعتبر الادارة المالية الأموال المتبقية وغير المنفقة موارد حرة يسمح التصرف بها في السنة اللاحقة دون الاهتمام بالالتزامات المترتية على الموازنة العامة كالسلف.
ومن أهم الاثار المترتبة على المنهج في بناء الموازنة، وغير العفوية على الأغلب، ان تدفع الموازنة نحو تشجيع الانفاق المفرط في المجالات ذات الطابع الاستهلاكي والترفي. وعندما يقترن ذلك بشبه غياب كلي للانتاج المحلي، وآليات تنفيذ غير كفوءة ويشوبها الفساد، تكون الحصيلة هدر كبير في المال العام وفشل في تنمية الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الوطني واهمال قطاعاته الانتاجية، وزيادة متواصلة في حجم وقيمة الاستيرادات.
فحسب المعطيات المتوفرة عن الموازنات السابقة منذ عام 2006، فإن الانفاق الجاري يتراوح نسبته ما بين 75 و80 بالمائة من اجمالي الموازنة، وتشكل تعويضات الموظفين والمتعاقدين والمتقاعدين ما قيمته 55 ترليون دينار سنويا، اي ما يعادل ما بين 45 بالمائة و50 بالمائة من اجمالي النفقات العامة وأكثر من70 بالمائة من النفقات الجارية. ويتجلى الهدر وسوء الإدارة والأداء في انخفاض نسبة التنفيذ المادي للموازنات التي نادرا ما تزيد في المتوسط على 20 بالمائة، وتنعكس مديات الهدر وسوء الادارة والفساد بصورة أكثر سطوعا في بيانات تن?يذ المشاريع، إذ من اصل حوالي 9000 مشروعا استثماريا منذ عام 2006، لم يكتمل تنفيذ سوى ما بين 400 إلى 450 مشروعا والمشاريع المتبقية تتراوح نسب تنفيذها ما بين صفر و50 بالمائة.، ويبلغ اجمالي ما انفق عليها 287 ترليون دينار، تؤلف السلف ما لا يقل عن 50 بالمائة. بعض هذه المشاريع، والتي قد يزيد عددها على الستمائة، كانت وهمية وذهبت السلف التي اعطيت للمقاولين ادراج الرياح دون اي مردود او انجاز مادي على الأرض. بالمقابل ترتفع نسبة التنفيذ المالي إلى أكثر من 60 بالمائة، وهي تتفاوت من سنة إلى اخرى.
الموازنة العامة لسنة 2015
لقد واجهت واضعو موازنة 2015 مجموعة تحديات تطلبت مراجعة اولويات الانفاق وإعادة ترتيبها وفق الظروف المستجدة، والقيام بعملية ضغط شديدة للنفقات الحكومية، والبحث عن مصادر ايرادية جديدة لتقليص عجز الموازنة الذي سيكون حقيقيا، وليس حسابيا كما في الأعوام السابقة، واللجوء إلى الأقتراض لتمويل العجز. وفي جميع هذه القضايا، تكون الخيارات والانحيازات السياسية والمصلحية الفئوية حاضرة، وغالبا ما تكون بصورة غير صريحة. وقد نجح مجلس النواب في التصويت على قانون الموازنة العامة اواخر شهر كانون الثاني 2015 بعد مخاض وإثر مراجعة أ?ثر من مرة لتخمينات الايرادات المعتمدة فيه، نظرا الى الانخفاض المتواصل في اسعار النفط العالمية. واعتمدت الموازنة سعر 56 دولارا للبرميل، وحجم صادرات قدره 3.3 مليون برميل يوميا. وتم رفع الكمية المخمنة للنفط المصدر إلى هذا المستوى نتيجة الاتفاق بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، اذ بلغت كميات النفط المصدّر خلال عام 2014 اقل من مليونين وخمسمائة الف برميل يوميا.
بلغت الايرادات التخمينية للموازنة حوالي 94 ترليون دينار، وتشكل الايرادات النفطية منها نسبة 83.6 بالمائة. ويعود هذا الانخفاض النسبي في مساهمة العوائد النفطية بالأساس إلى هبوط أسعار النفط وليس إلى نمو القطاعات غير النفطية. أما النفقات العامة فقد بلغت حوالي 119.5 ترليون دينار، موزعة إلى 41.2 ترليون للموازنة الاستثمارية، اي بنسبة 34.5 بالمائة من اجمالي النفقات، و78.2 ترليون للنفقات الجارية، اي بنسبة 65.5 بالمائة، وتمثل هذه التخمينات انخفاضا عن تخمينات موازنة 2014 نسبته 32.7 بالمائة بالنسبة للايرادات و31.6 بالمائة بالنسبة للنفقات العامة. ورغم مراجعة مسودة الموازنة في مجلس الوزراء لعدة مرات بهدف تقليص النفقات، فان العجز المخمن ظل مرتفعا وبلغ 25.4 ترليون دينار، اي بنسبة 21,3 بالمائة من اجمالي النفقات العامة. ومن المتوقع أن يكون العجز في الموازنة فعليا هذا العام وليس حسابيا وتخطيطيا كما في الاعوام السابقة.
وقد كشفت محاولات السلطتين التنفيذية والتشريعية لايجاد حلول مناسبة تخفف من وطأة الضائقة المالية الشديدة التي تواجهها البلاد، عن الخيارات المحدودة أمامهم بسبب تعمق الطابع الريعي للاقتصاد العراقي، وضآلة مساهمة القطاعات الانتاجية غير النفطية، وهزالة النظام الضريبي وبهذا المعنى، تكون الأزمة المالية التي تسبب فيها هبوط اسعار النفط قد سلطت ضوءا كاشفا على عناصر الخلل والضعف العميقة التي كان يتم التغطية عليها عن طريق الانفاق التوزيعي والتخديري الذي كان يتيحه ارتفاع العوائد النفطية للسلطة عوضا عن اتخاذ الخطوات والاجراءات اللازمة للقيام بالاصلاحات المطلوبة وتنتمية القطاعات الانتاجية.
في مواجهة الشح في الايرادات النفطية، تتخذ الاجراءات المطلوبة مسارين؛ الأول ضغط النفقات العامة غير الضرورية أقصى ما يمكن والثاني تنويع مصادر الايرادات وايجاد الجديد منها. ولكن ينبغي أن لا يغيب عن الذهن ان اعداد الموازنة والاجراءات التقشفية التي تتضمنها، سواء على صعيد بنود الانفاق التي يجري ضغطها، أم مصادر الايراد التي يصار إلى تنميتها، ليست ذات طابع اقتصادي ومحاسبي مجرد وتقني بحت، وإنما تنطوي على ابعاد اجتماعية - سياسية. ولا بد أن يتم تحديد وكشف طبيعة وحجم الأعباء التي تمثلها الاجراءات التقشفية في الموازنة، وفرض هذه الأعباء على من يستطيعون تحملها.
ابعاد اجراءات موازنة 2015
لقد تضمن مشروع قانون الموازنة لسنة 2015 الذي احاله مجلس الوزراء إلى مجلس النواب في شهر كانون الأول 2014 تخمينا لاجمالي الايرادات بلغ 99.8 ترليون دينار، واحتسبت الايرادات النفطية على اساس معدل سعر قدره ستين (60) دولار للبرميل الواحد، فيما بلغت القيمة التخمينية لاجمالي النفقات 125.2 ترليون دينار، منها 80 ترليون للنفقات الجارية 45.2 ترليون للموازنة الاستثمارية، وبلغ العجز المخطط 25.4 ترليون دينار.
وقد شرع مجلس النواب بمناقشة مشروع الموازنة تحت ضغط متطلبات توفير التمويل اللازم للحرب ضد عصابات داعش وقوى الارهاب، وتأمين احتياجات النازحين ورواتب لمتطوعي الحشد الشعبي، وتصاعد المطالبات الشعبية بالاسراع في اقرار الموازنة وعدم تحميل عموم المواطنين وذوي الدخل المحدود أعباء التقشف، والقيام جديا بخفض الانفاق غير الضروري والحد من الامتيازات العالية التي تتمتع بها الرئاسات، وتقليص مصادر الهدر في المال العام وصرف رواتب العاملين في شركات التمويل الذاتي التابعة لوزارة الصناعة ودعم الانتاج الوطني.
وفي ظل هذه الأجواء، تم التصويت على الموازنة لأول مرة في شهر كانون الثاتي بعد اجراء تعديلات واضافات كثيرة عليها، تم بموجبها تخفيض سعر النفط المعتمد إلى 56 دولار للبرميل، وتقليص القيمة التخمينية للنفقات العامة 5.7 ترليون دينار. كما أجرى مجلس النواب مناقلات قلصت من التخصيصات الاستثمارية والدرجات الوظيفية المخصصة لوزارتي الدفاع والداخلية وإعادة توزيعها على الوزارات والهيئات الأخرى. كما نصت بعض المواد التي اضافها المجلس تقليص ابواب عدة من النفقات الحكومية واستحداث درجات وظيفية لغرض تثبيت المتعاقدين على الملاك الوظيفي الدائم ولاعادة المفصولين على خلفية الأحداث الأمنية وكذلك استحداث درجات واضافة تخصيصات عند اقرار الحرس الوطني، على أن يكون الحشد الشعبي نواة تشكيله. كما ادرج مجلس النواب مادة تقضي بالغاء كافة الوظائف القيادية التي لم يرد فيها نص قانوني.
ومما يثير القلق على توزيع البطاقة التموينية، المتعثر وغير المنتظم اصلا، وبشكل خاص على الشرائح الواقعة تحت خط الفقر أو قريبا منه والذين ارتفعت نسبتهم إلى أكثر من 30 بالمائة بعد احداث الموصل ونزوح أكثر من 500 ألف عائلة من مساكنها ومناطقها، هو خفض تخصيصاتها من 5.4 ترليون دينار في تخصيصات موازنة 2014 إلى 2.5 ترليون دينار.
وقام المجلس ايضا باضافة مادتين مثيرتين للجدل على قانون الموازنة لأنهما تتدخلان فيما يندرج ضمن اختصاصات البنك المركزي ولهما فعل مؤثر على السياسة النقدية التي هي من مسؤولية البنك. فقد نصت المادة (46) على استثناء المصارف الاسلامية من تعليمات البنك المركزي، وهو امر مستغرب وروده في قانون الموازنة وله تداعيات على دور البنك المركزي في مراقبة وضبط عمل المصارف.
أما المادة (50) التي اضيفت من قبل النواب فقد الزمت البنك المركزي بتحديد مبيعاته من الدولار في المزاد اليومي بسقف لا يتجاوز 75 مليون دولار يوميا مع مطالبة المصارف المشاركة في المزاد بتقديم مستندات ادخال البضائع وبيانات التحاسب الضريبي والادخار الكمركي خلال 30 يوميا، الامر الذي استغله بعض اصحاب البنوك الاهلية ومكاتب الصيرفة والمضاربون الاخرون لخفض سعر صرف الدينار العراقي امام الدولار.
الحد من تدفق العملة الصعبة نحو الخارج
أن الهدف من هذا الأجراء مشروع ومطلوب، ألا وهو الحد من نزيف العملة الصعبة إلى الخارج إذ يشكل تهريب الأموال نسبة غير قليلة من مبيعات الدولار في المزاد الذي ينظمه البنك المركزي، فضلا عن أن الشحة في العملة الصعبة المترتبة على انخفاص العوائد النفطية لا تسمح للعراق بمواصلة بيع الدولار بنفس الوتائر السابقة، كما بات معروفا أن مزاد الدولار يسمح لعدد محدود جدا من المصارف المشاركة فيه بجني ارباح عالية نتيجة الفرق بين سعر الشراء وسعر بيع الدولار، والذي يبلغ اكثر من 40 دينار للدولار الواحد (وصل الفرق في الفترة الاخيرة الى 200 دينار للدولار الواحد)، علما أن متوسط مبيعات الدولار في المزاد كانت تتراوح مابين 150 و200 مليون دولار يوميا، وتزيد عن ذلك في بعض الأيام. بالمقابل يؤدي هذا الاجراء إلى تقييد حرية وقدرة البنك في التعامل مع حركة وحاجات سوق العملة ويقلص المعروض من الدولار ما يقود بالضرورة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار. كما قد يفسر ادراج هذا الاجراء ضمن قانون مالي بانه اخلال باستقلالية البنك المركزي، وهذا ما قد يؤثر سلبا على الحماية التي تمنح للأموال العراقية المودعة في حسابات البنك في الخارج، إذ لا تمنح هذه الحماية إلا للبنوك المركزية التي تتمتع بالاستقلالية.
إجراءات دعم الإنتاج الوطني
واستجابة جزئية للمطالبات الواسعة بدعم المنتجات والمصنوعات الوطنية، ادخل مجلس النواب مادة في الموازنة تقضي بتفعيل حزمة قوانين التعرفة الكمركية وحماية المستهلك وحماية المنتجات الوطنية، وعلى الرغم من ذلك يتعرقل تطبيق هذه القوانين بسبب المقاومة الشديدة من قبل القوى المعبرة عن المصالح التجارية، إلاّ أن قانون الموازنة ابقى وضع الشركات العامة معلولا ومستقبل العاملين فيها قلقا، وذلك باستمرار شركات التمويل الذاتي في تسديد رواتب العاملين فيها باللجوء إلى الاقتراض من المصارف الحكومية شرط تقديم ما يثبت الجدوى الاقتصادية. والمادة (36) التي تلزم الوزارات الاتحادية والمحافظات والجهات غير المرتبطة بوزارة بشراء احتياجاتها من منتجات الشركات العامة تظل غير فاعلة عمليا كما في السنوات السابقة بسبب ارتفاع تكاليف انتاج الشركات المملوكة للدولة وعدم قدرتها في معظم الأحيان على منافسة المنتجات المستوردة.
وما يمكن تسجيله في شأن اجراءات وخطوات الموازنة لتقليص الأنفاق انها لم تمس رواتب ومخصصات الرئاسات الثلاث وأصحاب الدرجات الخاصة، وما نصت عليه بشأن الادخار الوطني (الاجباري) الذي يفترض أن يوفر ترليوني دينار لتغطية عجز الموازنة، فانه يفرض بصورة متدرجة على المخصصات والزمت الموازنة وزارة المالية باعادة المبالغ التي يتم ادخارها في حال توفر الوفرة المالية، واكتفت بتقليص تخصيصات النفقات غير الضرورية وتخفيض السيارات المخصصة للرئاسات، وهو اجراء ايجابي ولكن الحكومة قامت بالطعن امام المحكمة الاتحادية ب17 مادة وبندا اضافها مجلس النواب على مشروع الموازنة المقدم من الحكومة، ومنها المادة التي رفعت نسبة تخفيض هذه النفقات إلى 75 بالمائة، والمواد المتعلقة بمزاد الدولار والمصارف الاسلامية. ولا تزال المحكمة الأتحادية لم تصدر قرارها بشأن جميع المواد التي شملها الطعن.
وبداية هذا العام، قرر البنك المركزي دعم سيولة المصارف التجارية المتخصصة، الصناعي والزراعي وبنك الاسكان، بمبلغ خمسة ترليون دينار لتمكينها من تقديم القروض للنشاط الاقتصادي في قطاعات الصناعة والزراعة والتشييد والاسكان. انها خطوة ايجابية يمكن ان تساهم في تنشيط الحركة الاقتصادية وخلق فرص عمل جديدة شريطة ان يتم التصرف بهذه المبالغ وتوظيفها بشكل سليم.
ضرائب غير عادلة
وفي محاولات زيادة إيرادات الموازنة، تم اللجوء إلى خيار فرض ضرائب غير مباشرة على المبيعات : 20 بالمائة على بطاقات تعبئة الهاتف النقال والانترنت، 15 بالمائة على تذاكر السفر و300 بالمائة على السكائر والمشروبات الكحولية. كما الزمت وزير المالية باصدار طابع دعم النازحين وإعمار المناطق التي دمرها الارهاب تستوفى من مراجعي الدوائر الحكومية.
إن التاثير التراكمي لهذه الضرائب غير المباشرة سيشكل عبئا أكبر على ذوي الدخول الواطئة ما سيكون له آثار سلبية تزيد من التوزيع غير العادل للدخول. كان بالأحرى على الموازنة فرض ضريبة تصاعدية على الدخل تعفى منها الشرائح ذات الدخول الواطئة، وهو إجراء ينسجم مع قواعد العدالة الاجتماعية ويخفف من الفجوة الكبيرة بين رواتب ومخصصات الرئاسات واصحاب الدرجات الخاصة، وعموم موظفي الدولة. ويمكن زيادة المبالغ المستحصلة من الضريبة على اصحاب الدخول العالية خارج الدولة، برفع مستوى اداء دوائر الضريبة والتمكن من تحديد تخمينات واقعية لمستويات هذه الدخول عن طريق التنسيق وتبادل المعلومات بين البنك المركزي ودوائر الضريبة والكمارك.
الايرادات النفطية
وضع الانخفاض في أسعار النفط العراق الموازنة العامة أمام مشكلة مركبة بالغة التعقيد. فالانخفاض في ايرادات الموزانة النفطية سيكون بنسبة أعلى من نسبة الانخفاض في الاسعار إذا ما اضطر العراق لايفاء جميع مستحقات الشركات النفطية بموجب عقود خدمة جولات التراخيص. فاستحقاقات الشركات لعام 2015 تتراوح ما بين 18 و20 مليار دولار وهناك مطالب للشركات عن استحقاقات السنوات الماضية.
إن الأزمة الحالية كشفت نقاط خلل جدية في العقود المبرمة مع الشركات، حيث تنص، كما يبدو، على إن الشركات تحصل مقابل كميات إنتاج النفط الإضافية على عائد يتحدد وفقا للقدرة على انتاج كميات إضافية من النفط، وليس على أساس إنتاج وتصدير كميات إضافية اي الإنتاج الممكن وليس المتحقق والمباع. ونظرا للبطء في استكمال البنى التحتية اللازمة لخزن ونقل وتصدير النفط الخام من الحقول الجنوبية، فإن القدرة الفعلية المتاحة لتصدير النفط من موانيء البصرة لا تزيد حاليا على مليونين وسبعمائة وخمسين الف برميل يوميا (2.75 مليون برميل /يوم)، ومؤخرا تم رفع الطاقة الخزنية للنفط الخام في البصرة وتوسيع قدرات ميناء البصرة لاستقبال ناقلات النفط ما سيزيد من الطاقة التصديرية من حقول الجنوب، وادى الانخفاض في اسعار النفط إلى مضاعفة كمية النفط اللازمة لتسديد استحقاقات الشركات النفطية، وهذا يعني تقلص كمية النفط المصدر الذي تذهب عوائده إلى الحكومة ولتمويل الموازنة العامة. وما زاد من هذه الأعباء ضعف ادارة هذه العقود وعدم فرض الرقابة اللازمة للحد من الاسراف في انفاق الشركات وارتفاع التكاليف.
إن الثغرات في العقود المبرمة والتي ظهرت أثارها السلبية على السطح مع التراجع الحاد في اسعار النفط تبين صحة التحفظ الذي أبداه حزبنا والعديد من الخبراء على تعدد جولات التراخيص وكثرة العقود التي ابرمت مع الشركات وبصورة سريعة، وكان من الأفضل والأكثر حكمة الاكتفاء بابرام عقود الجولة الأولى للتراخيص واكتساب مزيد من الخبرة والمعرفة في ادارتها والتعرف على نواقصها وايجابياتها ومن ثم الانتقال إلى اطلاق جولات جديدة. ومن السليم العمل على التفاوض لمعالجة هذه الثغرات وتحسين العقود، إلاّ ان العراق، في هذه المراجعة، لا ينطلق من موقف قوي بسبب ضائقته المالية الشديدة ما يتطلب القيام بالتشاور مع اوسع دائرة ممكنة من الخبراء والاختصاصيين في الشان النفطي، كما ينبغي التشاور والتنسيق مع جميع الجهات المعنية على صعيد الحكومة الاتحادية والإقليم والحكومات المحلية.
يجدر التنبيه إلى محاذير الترويج لعقود المشاركة بذريعة الثغرات الحالية في عقود الخدمة، وتأكيد أهمية العمل جديا من اجل بناء وتطوير قدرات العراق لتحقيق الاستثمار الوطني المباشر بالاستعانة بعقود الخدمة، ومواصلة الجهود من أجل الاسراع في استغلال الغاز المصاحب الذي يتواصل حرقة، واستكمال تنفيذ مشاريع تصنيع النفط المتلكئة والمخططة، كمشاريع المصافي والصناعات البتروكيمياوية.
وشهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة ارتفاعا تدريجيا في اسعار النفط والكميات المصدرة انعكس في زيادة ايرادات النفطية الشهرية لتبلغ 5،447 مليار دولار في شهر ايار الماضي، وعلى الدولة حسن استخدام هذه الزيادات عبر توجيهها نحو الاحتياجات الأكثر الحاحا.
تصاعد المديونية
مع تحول العجز الافتراضي إلى عجز فعلي، تبرز الحاجة إلى الأقتراض لسد الفجوة، وفي هذه الموازنة يبلغ العجز المخطط 25,4 ترليون دينار، يغطي منها الادخار الوطني 2 ترليون دينار اما المتبقي، فيجري تغطيته من المبالغ المدورة في حساب وزارة المالية ومن الاقتراض الداخلي والخارجي. القسم الأكبر من هذا العجز يجري تغطيته من الاقتراض الداخلي ونسبة قليلة بالاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومن المحتمل جدا أن يضاف إلى المبالغ المقترضة 12 مليار دولار لتغطية مستحقات الشركات النفطية، وذلك باصدار حوالات أو سندات خزينة
واستنادا إلى التفويض الذي منحه قانون الموازنة العامة إلى الحكومة الاتحادية، اتخذت الأخيرة خطوات عملية لإصدار سندات دين خارجية من أجل اقتراض 6 مليار دولار من أسواق المال العالمية، كما حصلت على قرض قدره 833 مليون دولار من صندوق النقد الدولي. فقد تعاقدت الحكومة مع مكتب خبرة دولية أمريكي ليتولى إعداد وتوفير المستندات والوثائق الضرورية لإصدار السندات، كما جرى الاتفاق مع بنوك استثمارية عالمية لإدارة عملية طرح الاكتتاب عالميا. وستقدم الاستجابة لهذا الاكتتاب والتصنيف الائتماني الذي سيُمنح للعراق، نظرة العالم إلى الاقتصاد العراقي ودرجة المخاطرة التي يمثلها بالنسبة للمستثمرين.
وإذ أصبح اللجوء إلى الأقتراض حاجة وضرورة لتغطية العجز، إلا أنه يجب أن لا يغيب عن الذهن تنامي المديونية سيرفع من اعباء خدمة الدين، واذا كانت هذه الأعباء لا تزال ضمن حدود معقولة، فأن استمرار البنية الحالية للموازنة والطبيعة الأحادية للاقتصاد العراقي وضعف قاعدة الانتاج الوطني، وعدم القيام بالاصلاحات الاقتصادية الضرورية، يجعل من المحتمل استمرار الحاجة إلى مزيد من الأقتراض، وسيترتب على ذلك مصاعب جدية لتمويل النفقات العامة، كما سيكون له تداعيات على ميزان المدفوعات وسعر صرف الدينار والتضخم وتوزيع الدخل.
خلاصة واستنتاجات
أن الأزمة الحالية لا تنحصر اسبابها في استباحة داعش لثلث الاراضي العراقية والانخفاض الحاد في أسعار النفط، وإنما تعود ايضا، وبصورة أكثر إلى الفشل البيّن للسياسة المالية المتبعة على مدى سنوات، وفي سوء إدارة المال العام والتصرف به، إلى جانب الهدر في الانفاق، والفساد المالي والاداري المستشري والذي ادى إلى انفاق مئات المليارات على مشاريع فاشلة أو وهمية، وعلى إغراق دوائر ومؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، بعشرات آلاف المنتسبين "الفضائيين"، وتمتع الرئاسات واصحاب الدرجات الخاصة بامتيازات فائقة.
فلولا السياسات الخاطئة وسوء الادارة والفساد وغياب الرؤية التنموية طوال السنوات الماضية، لما وجدت البلاد نفسها أمام مسلسل الأزمات هذا، وقلة الخيارات البديلة المتاحة. لذلك ليس مقبولا أن تتحمل الفئات والشرائح الاجتماعية الضعيفة والكادحة، واصحاب الدخل المحدود والفئات الوسطى، أعباء الازمة، سواء من خلال خفض المداخيل أم زيادة الضرائب المفروضة عليها. وعلى الرغم من تصريحات المسؤولين بأن الاجراءات التقشفية لا تمس الفئات سالفة الذكر، فإن التأثير التراكمي لتأجيل صرف الزيادة في رواتب اصحاب الدرجة الخامسة وما فوق، وفرض الضرائب غير المباشرة وخفض تخصيصات البطاقة التموينية سيلقي عبئا كبيرا على هذه الشرائح.
ونحن نشدد على جعل الأزمة مناسبة للإسراع في اجراء المراجعات والاصلاحات الادارية والمالية، ,وأن تشمل الاصلاحات القطاع العام وآليات عمله وإدارته، وتكثيف عملية مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال التي في ذمتهم، نحذر كذلك من اتخاذ هذه الأزمة مبررا للانقضاض على شركات ومؤسسات الدولة عبر الشروع بخصخصتها، عوضا عن التوجه بجد نحو تقديم الدعم لها واعادة تاهيلها.
وستتأثر النشاطات الاقتصادية سلبا بموازنة هذا العام لطبيعتها الأنكماشية، وما لم تتخذ اجراءات فاعلة لتنشيط القطاعات الانتاجية والخدمية العامة والخاصة، وتشجيع الاستثمار الخاص، الوطني والخارجي، ومكافحة الفساد والهدر بصورة حازمة، فستشهد معدلات النمو الاقتصادي، للقطاعات النفطية وغير النفطية تراجعا كبيرا وتتقلص فرص العمل ويتراجع سعر صرف الدينار وتنخفض القدرة الشرائية للدخول.
ولأجل تخفيف الضغط على موارد البلد من العملة الصعبة وتوفير موارد اضافية لتمويل الاستثمار ينبغي السعي الى توفير ادوات مالية وحوافز لزيادة معدلات الادخار وتقليص النزعة الاستهلاكية.
وكما هو الحال بالنسبة للموازنات السابقة، تخلو موازنة 2015، من اهداف قصيرة ومتوسطة، كما لا تتضمن التزامات رقمية تسعى إلى تحقيقها ويمكن بموجبها تقييم الأداء، باستثناء كميات النفط المصدر. وإذ يتعرض الاتفاق بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم إلى هجوم مكثف، في جانب كبير منه ينطلق من دوافع ومواقف سياسية مسبقة، نتطلع إلى أن يفي الطرفان بالالتزامات التي نص عليها اتفاقهما الأخير، وأن تتمخض المفاوضات عن حل عادل للقضايا العالقة الأخرى، ينصف الاطراف جميعا.
إن الموازنة العامة تمثل القوة المحركة الرئيسية في للاقتصاد العراقي، ولكنها فشلت حتى الآن في ان تلعب دورا تنمويا، ومن الصعب ان يطراً تحسن جدي في دور الموازنة ما لم يتم تبني وتطبيق إستراتيجية تنموية حقيقية، ويمر ذلك عبر اصدار خطة التنمية الوطنية بقانون وضمان انسجامها وتوافقها مع الخطط الاستراتيجية القطاعية، وفي هذا السياق نثني على التوجهات الرامية إلى تطوير التنسيق والتكامل بين السياستين المالية والنقدية، وتفعيل دور البنك المركزي في دعم النمو والاستفادة من الاحتياطي لهذا الغرض بطرق واساليب لا تتعارض مع قانونه.
إن هذا التوجه يصطدم بمقاومة قوية بذريعة التمسك بآليات السوق، وتندرج المواقف إزاء هذا الموضوع في اطار الصراع الدائر حول دور الدولة في اقتصاد السوق وطبيعة المصالح التي ترعاها الدولة ومضامينها الاجتماعية. فثمة نظرة خاطئة وضارة واسعة الانتشار في مراكز القرار والقريبة منها تدعو إلى تصفية القطاع العام واطلاق العنان إلى قوى السوق بصورة منفلتة، في الوقت الذي تثبت معظم تجارب البلدان التي حققت تنمية ونموا سريعين، كان للدولة دورا اساسيا في قيادة العملية وتوفير البيئة التمكينية لهما. فالمطلوب اعتماد ستراتيجية تقوم على اساس وجود علاقات شراكة وتكامل بين القطاع العام والقطاع الخاص مع احياء وتنشيط القطاع التعاوني، مع شمول عملية الاصلاح، آليات العمل والادارة للشركات المملوكة للدولة وتحقيق الشراكات المناسبة بينها وبين القطاع الخاص.
اللجنة المركزية
للحزب الشيوعي العراقي
حزيران 2015