ادب وفن

عبد الهادي المظفر وماياكوفسكي والروح الجيفارية (1-2) / ذياب مهدي آل غلآم

الشاعر الفذ هو الذي يعيش نرجسيته ضمن النص، أي أن يكون مُتجبِراً ومتعالياً على كل عُرفٍ ثقافيّ يحاول أن يُحدِّد نواميس كتابته، أما في حياته ـ الواقع فعليه أن يكون درويشاً يطوف بدفِّ ذاته متأملاً حال الفقير والبسيط والأرملة والذوات غير المتعلمة وأن يشارك ـ بقوةٍ قاصدةٍ ـ ببناء الإنسان المثال . أوضح بأن نرجسية من النوع الايجابي يمكن لها ان تخلق شعرا داخليا عذبا صادقا فيه من الابتكار والتفرد ما يجعله لا يشبه غير نفسه. نرجسية أقول عنها بأنها أشبه ما تكون بالصوفية ولكن دون الدخول في اللاهوت، صوفية التوحد مع الذات التي تجعل الشاعر يفكر بالكتابة وهو يأكل وهو يسافر وهو يتصالح وهو يتخاصم .. نرجسية أرى أنها صالحة للكتابة الخالصة للشعر.
عبد الهادي المظفر شاعر ينتمي إلى مدرسة الواقعية الاشتراكية في بداية الثورة البلشفية بقيادة لينين والحزب الشيوعي السوفيتي، ونجاحها في تحقيق الطفرة النوعية في الإبداع المتنوع للحياة الجديدة بسمت روح عصرها ونضالها من اجل العدل المجتمعي وروح الثورة الاشتراكية ونصرة العامل والفلاح والطبقات المسحوقة وخاصة الأقنان منه، فكانت الثورة الأدبية من جملة متغيراتها الثورية وعنوان هذه المدرسة كانت باسم «مكسيم غوركي» والمتفرد بها شعراً مستقبلياً هو «مايكوفسكي العظيم» هذه النزعة الشعرية التي يتحلى بها المظفر لها جذورها الانتمائية للجغرافية التي ترعرع بها فهو ابن جنوب المراثي والثورات العراقي، وفي عائلة منحته روحية التغذية الفكرية والتعليمية وبعدها جاء للنجف، ملتحقاً بجذور انتقال العائلة لطلب التعلم والتفقه في مدينة النجف التعليمية والدينية، ليكمل عنفوان الفكرة الخلاقة في ان ينمي موهبته الشاعرية والفنية.
«من وجع الجنوب... ومن مسارات التأقلم، والُمخبر الريفي... من نقل جثماني الطاهر... جداً إلى مدن المنفى... أُمي، تلف بيديها الباردتين... عصارة إفلاسِنا... باحثة عن طعام بائت، في أسواق الأحياء الشمالية... بعيداً عن المركز المرفهِ... وأبي يبتاع الأحذية وأنا، بعد نضاله الطويل... وأنا أبحثُ عن ذاتي الملأى بالتناقضات... لعليَ أجد أنكيدو لأبصق بوجه عشبته البائسة... لعليَ أجد وطناً... من قصيدة مُدُنُ الوَجَع ...».
عبد الهادي المظفر شاعر يجايل هكذا اعتقد جيل السبعينيات من القرن المنصرم، حتى في البناء الأفقي والعمودي لنصه الشعري، لكنه يتفرد بالمستقبلية في طرحه ورؤياه، متخطيا كل هذه المجايلة، بوحدوية نرجسية لتأسيس ذاته الشعرية وتغريداته خارج مسميات الأجيال أو التماهي معها بشكل أو بآخر؟ لكنه أبدا لا يستطيع الهروب، وهو يملك أدوات طموحه للانتقالية نحو آفاق جديدة للقصيدة المستقبلية، بنفس مقاتل بالكلمة وبعنفوان تصوراته وإعجابه بالروح الثورية الأممية التي يتمتع بها القائد الثوري واقصد «الشهيد تشي جيفارا» وروحه الخلاقة في نصرة المظلومين في كل أرجاء المعمورة، وطروحاته الانسانية الثورية، «كادح ٍ يحمُل الطابوق وهو يتمتم ُ « مرينه بيكم حمد ... وحنه ب صلاة الليل» هكذا يتقمص في الكثير، بنزعاته الفردية عبد الهادي المظفر شعرا، لا أقول تقليدا لكنه من الذين يعجبهم لحد النخاع روح جيفارا الثورية في التغيير لمصلحة المستقبل الإنساني بكل تجليات اليوتيبا، الحالمة والرومانسية الثورية وبكل واقعيتها يكتب عبد الهادي المظفر قصيدته الجديدة لقد تجاوز مجايلاته فيما نريد ان نشبهه بشعراء السبعينيات او لنقل ما قبلهم ، الستينيون والانتماءات للمدارس الحديثة شعراً. وهو ليس كذلك لكونه من جيل نهايات القرن العشرين وبزوغه كشاعر يشار له بخصوصيته الخلاقة في العقد الاول من القرن الحالي.
هذه الروح الشاعرية وأقولها بملء فمي الروح الجيفارية التي تسري بدمائه وتصوارته الفكرية ونرجسيته الايجابية والموهبة الفنية أنتجت لنا نثراً مركزا فيه الشعر واضحا ، موسيقى وصوراً وفكرة بليغة ، انه شاعر لا ينتمي الا للمستقبلية الشعرية، لكنه لايزال يراوح في التفعيلة والإيقاع الجميل وحتى في نصوصه الثائرة والمتحدية نراه يتموسق رومانسيا بايقاعاته وما يختاره من بحور شعرية لكي يحافظ على رصانة النص وتحديه لمن يكتب القصيدة النثرية «الكلام نسبي» فهو لا يخرج من جذوره الشاعرية للموروث الحضاري للشعر العربي وتطور مدارسه وتنوع طروحاته، فهو امتداد موضوعي للقصيدة العربية منذ «امرئ القيس، المتنبي ووو، الى الجواهري الكبير» ومن ثم مروره بشغف بالقصيدة الحديثة «بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، أدونيس، سعدي يوسف وووو عبد الهادي المظفر» هكذا اقرأ شعر المظفر...
في أكثر قصائد ديوانه الشعري «أحلام زيوس» تجد أنا الشاعر وموهبته الشعرية الفنية تتجلى بوضوح، كأنه يصرخ بالتكامل ما بينه وبين نصفه الآخر المرأة، قلت: أنا الشاعر هنا كانت ايجابية رغم مأساتها الداخلية ورغم إحساسه الشفيف والشفاف بالحياة لكنها متناقضة بالوجود، أنا الوجود تختلف عن أنا الشاعر الموجود وأرى ان عبد الهادي المظفر يمازج في الغالب مابين عليائه الأنوية ووجوده الواقعي، مابين الحلم الذي يريده ان يكون وما هو كائن، رغم أحلامه المكونة في «أنا» الطموح والرغبة والتطلع، انها أنوية شجية فيها النشيج والنشيد وروحه النرجسية العالية الجودة هكذا وجدته.
«ذاك أنا... ينزل لظلام بيته الجديد.... أنا نصف قافية... أنا شَكلها... وفمي بمحض إرادتي يختار شَكليَ والسكون... أنا نصف قافية... وخريطتي حبلى بأوقات الدمار وها .... موت ورعب وانصهار للعيون... أنا نصف أرملة...، ويختتم نصه... هذا أنت ، باختصار ، أنت بدأت فصول الحكاية، ولا أعتقد أنك ستنهيها ... قصيدة نصف قافية».
أبيـّن بما لا يقبل الشك بأيمانه « اقصد الشاعر المظفر» ، بوجود بحيرة ماء صافية نرى فيها وجوهنا ونتسمر أمامها حتى نتحول إلى زهرات نرجس، بالرغم من صخب الحياة الحديثة وامتلائها بالمشاغل، مشيراً إلى انها لا يمكن ان تجفَّ طالما هناك طفل يتنفَّس وراء وجوهنا، «إنها بحيرة الروح التي يجب أن نرى فيها ونتحول ونقدِّم هذه الزهرة بين يدي الآخر وأن ننوِّط بها ضفيرة الحياة، لا أن نضعها أمام عينَي ذاتنا فتعمى عن الآخر» إن امتنا من أكثر الأمم التي قتلتها ذاتها، فهي وريثة صيحات الشعر التي لا ترى غير ذاتها آخر مشاركاً، لذا لم نحافظ على معارفنا واكتشافات الأسلاف أعني أننا لم نتواصل معها، لذا نرى أننا أمة يسيطر على خطابها الفعل الناقص «كان». وعلى من يريد أن يكون من أهل المستقبل أن ينظر هذه النظرة .. النظرة الصادقة في بحيرة الروح .
الهروب الى الاسطورة مختفيا وراءها ... تقية ....!؟
من قال لك:
إن الرجل الجالس في بيته ..
وهو يرجم التلفاز بالحجارة
احتجاجا على نشرة إخبارية سيئة
كان نائماً ؟. يا «زيوس» اللئيم.
هكذا يخاتل الشاعر ما بين ثوريته الشعرية واختفائه بالموروث القديم وبالأسطورة قصيدة الديوان هي تجليات في المعنى بوضوح الرؤية والحذر من المجهول في فهمه لخلق الشاعر نصه بحسه الذي يريد منه تغيير واقع مر يمر على الجميع فهو كشاعر مرآة لهذا الاضطهاد الجمعي بمسميات كثيرة مابين المقدس والمدنس ووعاظه المبجلين!، فكيف نريد من شاعر يحمل روح التحدي الثوري الإنساني والطبيعي وهو ينبض بمأساة شعب ووطن ان يشير ببنانه نحو من تجبر بأسم الله او من سخر الله ليكون عنوانه تهميش الآخر المختلف ؟! والشاعر عبد الهادي يريد ديمومة حياته لينتج فعل إرادته نحو طموح التغيير لذلك التجأ إلى الأسطورة.
ان العراقيين المثقفين في الداخل «الشعراء نموذجا» عانوا ما عانوا في الفترة الماضية من الأنظمة القمعية. ولهذا غالبا ما كانوا يلجؤون إلى الرمز والتجريد الوجودي والسريالي خشية من التعرض إلى اضطهاد السلطات، أو الى عدم نشر أعمالهم وحفظها حتى يحين موعد نشرها المناسب. وهذا يذكرني بما فعله بعض الكتاب السوفييت مثل ميخائيل بولغاكوف واندريه بلاتونوف وباسترناك الذين لم يتقبلوا الأحكام الايديولوجية المفروضة على رجال الأدب في بلادهم من قبل موظفي اللجنة المركزية ... ونشير إلى ذلك بالأخص اليوم حيث أصبحت الثقافة على هامش نشاط الدولة وساد النقل على العقل. وكأن ما جاء به كبار المفكرين العرب وشعرائهم في فترة ازدهار الحضارة العربية الاسلامية لا علاقة له البتة بمجتمعنا اليوم.
المرأة... الحب... وقصيدة الغزل المظفرية
المرأة في عوالم المظفر لها كون خاص، وكأنها تتماهى مع وجوده وهو كذلك، لا يخلو مقطع شعري له إلا ولتاء الأنثى وجود فيه، كأن المرأة كونه وكيانه أوليس هو الذي يقول :» تَصَحُّرْ «... ظاهرة ُ التَصَحُّر.. اصابَتْ أرضي ... حينَ شَحَّ قَطْرُكْ ..»، وهذه صورة من وجدانه القرآني ، كأنه الأرض حينما ينزل المطر أنثى، ربضت، فأنتشت وأينعت، وهكذا هو يتجانس مع المرأة ارض ومطر، لتزدهر الحياة. هذه المسحة الرائعة من الجمال والخيال وهي من العناصر المهمة في القصيدة الشعرية وفي اي اتجاهاتها او مضامينها مهما كان نوعها، انها القصيدة التي تحمل في طياتها أكثر العناوين الإنسانية روعه وجمالا وتآلقا وانبهارا. «يا قومي ما ذنبي... رجل... يعشق نصف نساء الأرض... والنصف الآخر من حوله ....»، المظفر شاعر غزلي بامتياز حتى في نصوصه النقدية او الانتقادية، للمجتمع أو لواقعه المعاش ومتناقضاته الشخصية وظواهر التخلف المجتمعي، احساس باللوعة بمنتهى الشفافية ونقاوة الذات يخاطبها القمر: ليتك تتقنين الود كما تتقنين الخصام، حتى في ومضاته نراه لا يملك العنف ونصه مطاط لين رومانسي لحد المزاجية التي يتحلى بها، كانسان يريد ان يجد له مكاناً في متسع من الحرية التي يبحث عنها مابين بين.