ادب وفن

«محمود صبري» يعود حياً (1-2) / جاسم المطير

بدءاً أقول إنني واجهتُ، في تشرين أول الماضي، أياماً كثيرة وساعات كثيرة، لمتابعة سيرة ذاتية فريدة ومميزة، أدخلت البهجة إلى أعماقي، فقد انشغلت بقضية كبرى من القضايا التي وصلتْ عندي إلى حدٍ يمكن أن أصفه بـ "الانجاز الثقافي الأعظم" القائم على احترام وسائل كشف مظاهر ومصادر الإبداع في الفن التشكيلي العراقي محمولة على كتاب مرسوم بقلم الكاتب العراقي المقيم في عمان  الاردن الدكتور حمدي التكمجي الذي بلغ قمتين إبداعيتين: قمة "احترام الذات" وقمة "احترام الذات الأخرى" من خلال خبرته التحليلية بعرض وإيجاز الجو الفني  الاجتماعي- السياسي عن سيرتيْ حياة شخصيتين عراقيتين ناشطتين في الفن العراقي.فقد وصلني بالبريد من لندن كتابان، هدية من الصديق العزيز حمدي الذي عرفت كتاباته كلها تمر بمصانع الكلمات المتقنة من دفاتره الشخصية الصغيرة، كي تتحول الى سجلات كبيرة، بصناعة فكرية متميزة، بنسيج ساطع اللون، في الكشف المرئي عن نماذج الموهبة والعطاء لدى فنانين عراقيين او كتــّاب عرفوا بالعطاء المتنور المثمر.
يتعين عليّ القول، أولاً، إنني وجدتُ في هذين الكتابين المرسلين، من نظرتي الأولى عليهما، ومن خلال تصفحهما أن مؤلفهما ومصممهما وطبـّاعهما قد بلغوا ،جميعا ، صناعة هذا الانجاز الأعظم في إصدارات الكتاب العراقي بمستوى حر، مستقل، جابه الصعاب بنفسه منتصرا عليها. لم يكن المساهمون بهذا الكتاب مجرد فنانين في فنون الكتابة، والرسم، والخط، والطباعة فحسب، بل كانوا مطوّرين حقيقيين لصناعة النشر في العراق، شكلاً وعلماً، لأن كل واحد من المشاركين في صنع هذين الكتابين كان يحترم ذاته مثلما يحترم ذوات الآخرين سواء القراء أو الذين وردت أسماؤهم ومقالاتهم ومشاركاتهم في مضامين الكتابين.

أضواء جديدة على مشاهد قديمة

تميز عندي هذا كله بمتابعةِ نشاطٍ وفعاليةٍ من نوعٍ خاص حين أكملتُ، بشغفٍ واهتمام، قراءة كتابين، كبيرين، جميلين، بحجم الرافدين العظيمين ليسجلا عنوانيهما في المكتبة الوطنية بأنهما أكبر وأجمل كتابين عراقيين مالئين العرش الفارغ في كتب الفن العراقي الملون. الكتابان من إعداد وتأليف الدكتور حمدي التكمجي. كان الأول عن الفنان المفكر محمود صبري. الثاني عن الفنان الطبيب قتيبة الشيخ نوري. وجدتُ مؤلف الكتابين قد سعى، بجهد عظيم، لكسر الصمت الاعلامي، الفني، الثقافي، عن شخصيتين فنيتين عراقيتين توالدت فعالياتهما الريادية في الفن التشكيلي العراقي منذ عقودٍ عديدة، لكن أبعدتهما عن الأضواء ممارسات السلطات الثقافية الرسمية في زمان القهر والعدوان الذي مرّ بالعراق، خاصةً زمان صدام حسين. بهذين الكتابين أوجد حمدي التكمجي بديلاً فعــّالاً لمواجهة الصمت بتحدٍ ثقافي كبير إذ استطاع أن يُنبت في مكتبة الثقافة العراقية روضتين مخضرتين بالنشاط الفني. كان ميـّالا نحو توفير علاقة متناسقة بين شخصيتين فنيتين، والتاريخ الفني العراقي، على أساس من النظرة الجماعية، التحليلية، لفنون ونشاط محمود صبري وقتيبة الشيخ نوري لكشف جوانب هامة من تراث الفن ا?تشكيلي العراقي المكتوم. بجهود جميلة وعظيمة في تاريخ الفن العراقي استطاع كاتبنا التكمجي أن يُدخل إلى المكتبة العراقية مثل هذا الحدث الذي أنجزه، وهو ثمانيني العمر، مستخدما تكنيك الشباب الحر، بشوق حار وبإصرارٍ متحمس. بل وجدتُ التكمجي يتجوّل ويتحوّل في ظل أسلوب ثقافي  فني متميز قادراً على ان يقدم للجيل الفني الثقافي العراقي الجديد قيماً فنية  فكرية تخص السيرة الذاتية لأثنين من الرسامين العراقيين الأكثر ذكاء ووعياً في فهم "الحرية" وشروطها المسبقة المتعلقة بـ "الوعي" أولا وقبل كل شيء.

مفاهيم عن قضية الحرية

بالرغم من أن الموت قد أنهى حياة الفنان قتيبة قبل الأوان، وأنهى حياة محمود صبري ربما في أوانه، إلا أن حمدي التكمجي مؤلف الكتابين أراد تأكيد حقيقة ان "الموت" ليس نهاية كل شيء طالما أشياء هذين الفنانين كانت معنية بقضية "الحرية" ثم جعلهما بمبادرته وبقلمه معنيين بقضية "الخلود" من خلال ما اتصف به وعرف عنه من وفاء ليس لأصدقائه فحسب، بل لشعب العراق كله . لقد أراد حمدي إعادة بناء مفاهيم الحرية الحقيقية في الفن العراقي، أراد أن يكون منصرفا لتحريض آخرين من الكتــّاب والفنانين والسياسيين العراقيين ليعلنوا خطابهم المستتر عن كل ما هو مخبوء أو مختزن في الذاكرة الثقافية العراقية . بدا لي بوضوح تام أن المؤلف بما يملكه من وثائق، وأرشيف صحفي، وذكريات شخصية، ومعلومات خاصة وعامة، فسح المجال أمامه لسرد الاحداث والوقائع والأفكار من ثم في إخراج ذلك السرد الجميل، كله، بشكل فني متميز برقيّ الطباعة والتصميم والتلوين يليق بمستوى علمين مرفوعين على أعلى صاريتي هذين الكتابين بما يجذب ويوسّع أفق القارئ عن "الحرية" من خلال الاطلاع على التجربة الوجودية العملية لبعض جوانب مكونات الفن العراقي متجلية في ميادين أفكار ولوحات محمود صبري وقتيبة الشيخ نوري.
في هذا السياق ابدأ، أولاً، في مقالتي الأولى هذه، بتقريب القارئ من الكتاب الأول الذي ركز فيه الأضواء الكاشفة على الفنان محمود صبري، المفكر، المبدع، الإنسان. لا أدري كيف يمكنني تصنيف هذا النوع من تناول سيرة فنان في كتاب يريد التميز بالوصول إلى أعلى مستويات الطباعة والتلوين والإخراج؟. هل أصنفه في خانة الكتابة عن "سيرة فنان ذاتية" يكتبها صديقه.. أم أصنفه ضمن كتب التوثيق، أم أصنفه ضمن تمجيد النشاط، النوعي أو الكمي، لفنان مناضل من خلال ما كتبه الفنان نفسه أو ما كتبه الآخرون عنه من نقاد وصحفيين ومؤرخين ومفكرين، في الحقيقة يمكنني القول أن الأساس في منظور المؤلف  المعد "الدكتور حمدي التكمجي" هو جمع كل هذه الأساليب في تجربة متلاحمة الجوانب ومتداخلة الأزمان والأمكنة ليقدم لقرائه كتاباً من نوع جديد بأسلوب فني، هارموني، مشوق ومذهل، ساهم أو يساهم في تقدم المنهج البنيوي في ركن هام من اركان الثقافة العراقية مما يستحق عليه عظيم الشكر والامتنان.

تجارب محمود صبري

ركز حمدي التكمجي في هذا الكتاب على مسألة التحديث النوعي للمعلوماتية التي يملكها وذلك بلجوئه الى الامتثال في استخدام كل تقنيات الطباعة الحديثة لإصدار كتاب امتلأت متونه بتوافق تام مع امتلاء حياة وفنون ونضال الاسم الخالد المحمول على عنوان الكتاب. هذه هي فرضية أولى وأساسية لدى التكمجي فأِن الفنان المسكوت عنه ينبغي ان يعطى امتيازا خاصاً، باستخدام منجزات ونظرات ومكتسبات ليس فقط في كتابات ولوحات محمود صبري نفسه ، بل في ضوء الدراسات والمقالات المكتوبة من قبل أصحابه ونقاد فنونه في ضوء مناهج فنية  تشكيلية من وجهة نظر معرفية بأبعادها الليبرالية  العلمانية. فتح التكمجي بكتابه عن الفنان محمود صبري باب المعلومات المنغلقة عن جوانب كثيرة في الفن التشكيلي العراقي وعن سلطة الفلسفة في التأثير عليه. كما جعل القارئ والباحث أمام نقاش دقيق وأمام تفسيرات تقدم جواباً حاسماً عن مستويات التطور في فن الرسم العراقي، التي بلغها محمود صبري بتوافقه التام مع الوضع الاجتماعي والسياسي ضمن واقع الطغيان الحاكم، وتجارب نضاله داخل وطنه وضمن خارطة معاناة الغربة خارجه.

لوحة وطني

تضمن الكتاب المعنون:"محمود صبري ..حياته وفكره وفنه" الصادر بجهود فنية راقية من مطابع دار الأديب العراقية في عمان  الأردن بتصميم رائع أنجزه كفاح الشبيب بـ334 صفحة مخصصة باللغة العربية وبـ 17 صفحة باللغة الإنكليزية قياس كبير. بقياس خاص ومبتكر، مربع الأبعاد، وبمظهر بدا لي بمستوى عال، رفيع، كانت قد بلغته، من زمن بعيد، دور النشر العالمية في لندن وباريس وبرلين وغيرها. بدأ الكتاب بعرض لوحة "وطني" التي باشر برسمها محمود صبري في بغداد وأكملها في موسكو وبراغ وهي من لوحات المسيرة النضالية العراقية.. أبطالها الن?س بمختلف مستوياتهم الاجتماعية. يفترض ان تكون نهاية عرض هذه اللوحة ذات يوم في المستقبل بموقع متميز في احد شوارع بغداد أو منتدياتها أو قاعاتها لتكون إضافة فنية جديدة عالية المستوى في طقس بغداد الفني، لأنها في جوهرها ذات رمزية نضالية وذات شعبية لا تقل عن شعبية "نصب الحرية" لجواد سليم بما تمثله من امتثالية واسعة وعميقة.

انطلاقة تقدمية

في هذا الكتاب انطلق المؤلف من عرض التجربة الشخصية لمحمود صبري، التي ظلت حاضرة في مفهوماته الفنية والسياسية والاجتماعية من ايام شبابه حتى رحيله في الغربة. وقد كانت هذه التجربة نموذجاً فنيا فريدا جعلها قادرة على تحقيق ظاهرة الاندفاع نحو تكوين وإنشاء الأنظمة العلمية في الفن العراقي لوضعها في متناول الأجيال الفنية الجديدة بصور متطابقة بين فن الماضي والفنون الحاضرة في تجارب الفنانين التشكيليين العراقيين، التي كانت قد انطلقت في تلك الفترة انطلاقاً، طبيعيا، تلقائيا، في العراق من دون تدخل السلطات الحاكمة بذاتها وبدا حملته من اخطار اجتماعية وفنية حين تدخلت مثلاً، سلطات صدام حسين في شؤون الفن والثقافة عموما من خلال مخطط تطبيقي لضمان تبعية الثقافة والفنون للحكومة وأجهزتها لتكون صدى لنداءات جنرال الحروب الداخلية والخارجية التي جعلت ارض العراق خراباً، كما جعلت كثيرا من فنونه رسوماً لتفسير خطابات الفوهرر العربي صدام حسين.

جماعة الطريق

في الصفحات الأولى كتب التكمجي مقدمة وافية عن محمود صبري كاشفاً فيها حقائق عديدة وكثيرة غير متوقعة من قبل القارئ إذ عرض فيها تفاصيل متنوعة، بحسٍ وطني، سليم وخالص، عن الروح الشبابية الوطنية اليسارية ،التي ملأت أعماق هذا الفنان . ثم مواصلته هذه الشبابية إلى آخر يوم في حياته من دون أن يفترق عن ذات الطريق، التي بدأ منها في النضال والمعرفة والفعالية الفنية من أجل الجمهور والوطن والبقاء. وقد كشف التكمجي عن نوع من العلاقة بين ثلاثة اصدقاء كانوا يشعرون بأمان نسبي من جانب ،وبروح الفعالية المشتركة من جانب اخر، وبالإصرار على عمل فني يخدم بنهاية المطاف مصالح الناس المحبين للحرية والمندفعين نحوها. اطلق حمدي التكمجي على هذا النوع من علاقة صداقة ثلاثية جمعت محمد صالح العبللي ومحمود صبري وحافظ التكمجي اسم "جماعة الطريق" التي توسعت في ما بعد لتضم عددا من الأصدقاء والمعارف. نتطلع هنا الى أن اختيار التكمجي لكلمتي "جماعة الطريق" لم تكن عفوية او اعتباطية بل كانت "الطريق" جديرة بالثناء لهذه الجماعة الثلاثية ليوفر منذ البداية بداهة مقنعة تتعلق بمشترك عام وخاص يجمع، ببساطة، هؤلاء الشخصيات الثلاث على سجادة واحدة ذات أهداف مشتركة على وفق فكر مشترك وجدوا أنفسهم مجمعين على نشره بين الناس.