ادب وفن

الرواية.. فن الإنعتاق من الواقع / سامي البدري

إذا ما صدقت مقولة إن "الرواية هي المكان الوحيد الذي لا يملك فيه شخص الحقيقة"، فتكون الرواية بهذا فن الانعتاق من الواقع، كارتهان قسري وقهري، والخروج منه إلى فضاءات أكثر رحابة، بمساعدة المخيال، لما يجب أن تكون عليه الحياة، وفق قوانينها الطبيعية، لا وفق اشتراطات وتقنيات الثورة والقوانين الاقتصاسياسية التي ترسم شكل الحياة، منذ قيام الثورة الصناعية، وفق مسار مصالح من يسيرونها.
المدخل العام هذا، يقودنا لمدخل أكثر دقة وأوغل عمقا، وهو مستقى من تجربة الروائي الروسي فيودور دستويفسكي، ففي حياة الروائي الروسي، فيودور دستويفسكي، أهمل النقاد وعارضوا كتب الصفحات الأدبية رواياته بحجة افتقارها للجمال… فهل جمالية الرواية شرط أساس لنجاحها لدى المتلقي وسبب من أسباب إقبال القراء على قراءتها؟
معروف عن دستويفسكي أنه كتب ما يمكن تسميته بالرواية الواقعية أو الرواية التي تعرض مآسي الناس من حوله في معاناة معيشهم اليومي، إلا أن واقعيته هذه لم تشفع له لدى نقاده المحليين، بل حتى بعض الروائيين الروس من مجايليه، اتهموا رواياته بالافتقار للجمال… فهل الواقعية كفيلة بصنع جمالية الرواية أو حظوة قبولها عند المتلقي، أم هناك شروط أكثر أهمية لتسويّغ الرواية وجعلها أكثر جمالية؟
وقبل كل هذا علينا النظر في ماهية وفهم مصطلح الواقعية، الذي يعده كثير من الدارسين للأدب والفعل الثقافي، شرطا "قانونيا" ليستحق المسرود مسمى رواية.
إذا اتفقنا على أن الرواية ليست تقريرا عن المعيش اليومي فعندها لن نجد أمامنا تعريفا لها غير أن تكون مغامرة سرد، وعليه فإن مغامرة السرد يجب أن تأخذ المتلقي إلى عوالم أخرى تساعده على الطفو على مرارات واقعه.. وبالتأكيد فإن هذا لا يعني مجافاة الواقع وإنما طرحه بطريقة فنية "تجميلية" تمكن المتلقي من النظر فيه بعين الفحص والاختبار لا عين المرارة والألم والتوجع.. وهذا يعني، أيضا، بطريقة ما، تقديم الواقع بطريقة "طبخ" أخرى لم تألفها ذائقة المتلقي الهارب من مرارة الواقع إلى دعة "مغامرة السرد" وسعة مراحاته وفضاءاته، لأن الإنسان لا يذهب إلى المطعم الراقي ليتناول الوجبات نفسها التي يتناولها في مطبخ بيته، بل يقصد المطعم الفخم بحثا عن مذاقات وأصناف طعام جديدة تدخل البهجة إلى نفسه وتعلم ذائقته على التفاعل مع ما لم تألفه..
وبهذا المعنى لا تكون واقعية الرواية، أو ما تطرحه من واقعية في المسرود صورة مرآوية للمعيش اليومي، إنما تكون معالجة فنية جمالية لهذا الواقع، تخفيفا لألم ومرارة الواقع.. ما كتبت الرواية لنقرأها إلا هروبا من أوجاع حياتنا الواقعية وبحثا عن جماليات أخرى لم نألفها تدخل المتعة لنفوسنا وتريحها لبعض الوقت في متخيل أو مجترح جديد لم تألفه "ذائقتنا" اليومية… الواقعية.
وبالعودة إلى مدخلنا الأول "الرواية هي المكان الوحيد الذي لا يملك فيها شخص الحقيقة"، نجد أن هذه المقولة تفسح لنا القول بإن الحياة في واقعها ليست سوى انسيابية مؤرقة وملغومة ومحفوفة بكل أنواع التقلبات وعدم اليقين والتثبت، وكأنها ضرب من الخيال الذي يصوغه روائي بارع… ولكنه يعاني من شطحات الخيال المتعبة، رغم جمال فنيتها أحيانا، ولهذا فإن الرواية يجب أن تكون تعبيرا عن هذا بالذات، وأن تقدم بصيغة العرض الجمالي الذي لا يصدر الأحكام ولا يحرم المتلقي من المشاركة في تأسيس الفكرة من الأساس… وأيضا إضفاء الجماليات التي تنقص حياته الواقعية ويلح في طلبها لعالمه الخاص، المختوم عليه بمضاضات الواقع الذي يعيشه في يومه… وبهذا يتضح لنا سبب اعتراض النقاد على روايات دستويفسكي والحكم عليها بالافتقار للجمال، لأنها، بطريقة ما، كانت ما يشبه إعادة عرض الشريط السينمائي الذي سبقت مشاهدته عشرات المرات وبالمضاضة والألوان ذاتها.
يقول الروائي الإنكليزي، هربرت جورج ويلز "الرواية كيس يمكنك أن تضع فيه ما تشاء" وهذه إضاءة لمقولة أن تكون الرواية اشتغالا في منطقة أخرى، تلك المنطقة التي تطفو على قوانين واشتراطات الواقع المقننة، أو منطقة ما لا لأحد البت فيها بحكم قاطع… وأيضا ليست لأحد بعينه، رغم أن الجميع يحتاجها ويحتاج الوجود فيها… ولو للاستجمام والاسترخاء.. وأيضا تقول ـ مقولة ويلز ـ إن الحياة، في حقيقتها، كيس مليء بالمتناقضات والأشياء والعوارض المتعارضة وغير المنسجمة مع بعضها… ومهمة الروائي أن يخلق الترابط الجمالي في ما بينها وأن يحافظ على جماليتها وتربيتها لنمو أكثر جمالية.
وهذا يعني بالمحصلة أن تكون الرواية، كما هي الحياة في الواقع، كيسا لقليل من كل شيء، ووظيفة المخيال، مخيال المنشئ السارد، أن تكون هذه الأشياء أكثر جمالية وأكثر قدرة على الحراك في تلبية ما يحتاجه المتلقي في فقر الواقع أو انكفائه، غير المقبول… وغير المبرر، وتضع أمامه أو تهيئ له عتبات للانعتاق مما يثقل عليه في الواقع ويضعه في دوامة عدم الفهم وانحسار مساحة القبض على المفاتيح من مدى رؤيته، لا أن تثقله بتبريرات الحالات الشاذة أو محاولات عقلنتها وتسويّغها.
ليست مهمة الرواية أن يقول لنا مؤلفها إن الواقع مرير ومأساوي، بطريقة جافة، وعلى طريقة دستويفسكي، بحسب نقاده، إنما مهمتها لمس تلك المرارة والمأساوية لمسا فنيا وجماليا: العرض عبر فاترينة أنيقة… ولنشبهها بطريقة عرض ملابس البالة المستعملة، بعد غسلها وكيها، عبر فترينة محل كبير لبيع الأزياء.. أو، وهذا الأقرب، عبر طريقة عرض عملاق الرواية الكبير، غابريل غارسيا ماركيز: عرضها بطريقة سحرية جاذبة وشفافية تلامس القلب من دون أن تحزنه… أو أن لا تكون حزينة بالقدر الذي يجعلها تفتقر للجمال الذي حاجج النقاد دستويفسكي عليه.
مهمة الرواية أن تعتقنا من مرارات الواقع وتجعلنا نطفو عليها من دون إهمال.. إنها طريقة ملامسة خطر الأسد من دون إيقاظ شهوة افتراسه أو عدوانيته الغريزية العصية على المواجهة، التي نعجز عن احتواء فتكها وتحيلنا إلى أشلاء يصعب لمها من جديد.