ادب وفن

البناء الزمني في رواية: «طشاري» / محمد رشيد السعيدي

من أهم التطورات التي قدمتها الرواية الحديثة هو اللعب الفني في البناء الزمني للخطاب، بالاستفادة من كون "الحكاية مقطوعة زمنية مرتين، فهناك زمن المروي، وزمن الحكاية. وهذه الثنائية لا تجعل الالتواءات الزمنية كلها ممكنة فحسب، بل الأهم إنها تدعونا الى ملاحظة أن إحدى وظائف الحكاية هي إدغام زمن في زمن آخر".
حيث لم تعد الرواية تبدأ من الألف وتنتهي بالياء، متخذة المسار الزمني الكرونولوجي أو زمن الساعة؛ بل صارت بداية الخطاب من أي موقع زمني في القصة، ولا تلتزم الفصول، أو القصص المشكلة لجسد الخطاب، بتلازم سببي زمني، بل تأثرت بأسباب أخرى، تنبع من الثيمات الصغيرة المتناولة في القصص، أو الحالة النفسية التي تمر بها الشخصية أو الراوي أو غيرها، حيث تقدم قصص النص من خلال "الاسترجاع"، وهي تقنية فنية ذكية، قائمة على استثمار جمالي لوضع نفسي إنساني.
تبدأ رواية "طشاري" للروائية إنعام كجه جي، من موقع زمني متأخر، بالقياس الى المساحة الزمنية التي ستغطيها، لاحقا. وتتوزع مقاطعها السردية على واحد وأربعين فصلا، معنونات رقميا.
تتمدد الرواية على مساحة زمنية تقترب من ثلاثة أرباع القرن، منذ هجرة العائلة المسيحية، عائلة الدكتورة وردية، بطلة الرواية، من الموصل الى بغداد سنة 1931، الى استقرار الدكتورة، مهاجرة، في باريس في حدود سنة 2011، بنهايات حكم "ساركوزي"، الرئيس الفرنسي السابق. ولا يمكن اعتبار استقرار البطلة هذا نهاية للنص، لعدم وجود إشارة لذلك، مما يجعل النهاية مفتوحة، والسطور فارغة بحاجة الى قارئ يملؤها. ولكن ضرورة الدراسة تلزمنا بوضع نهاية تعتمد النهاية الجغرافية، بانتهاء صفحات الكتاب، وباعتماد الإشارات الأخيرة زمنيا للأحداث.
في التحليل الزمني للنص، تكون بداية النص في اللحظة التي يبدأ بها حدثيا، وينتهي في اللحظة التي تنتهي بها أحداث النص. فـ "طشاري" ابتدأت سرديا/ زمنيا بوقوف الدكتورة وردية أمام باب الاليزيه "القصر الرئاسي للجمهورية الفرنسية"، وانتهت نهاية مفتوحة ببقائها ضيفة على الحكومة الفرنسية:"سكن رخيص وتأمين صحي ومنحة تغطي معيشة متقشفة. أعطنا خبزنا كفاف يومنا".
لقد انتهت حيث بدأت، متأثرة بالنسق الزمني الذي جعل منها رواية مدورة. فيبدو إن المساحة الزمنية للقصة الأم في الرواية من خلال عدم اهتمام النص بتحديد تواريخ البداية والنهاية محصورة بين خمس الى عشر سنوات. لكن المساحة الزمنية للخطاب بحدود ثمانين عاما. القصة المحورية للحكاية هي قصة الهجرة القسرية للطبيبة العراقية الكلدانية وردية اسكندر، من العراق الى فرنسا، في محاولة للم الشمل مع ابنتها الطبيبة هندة جرجيس المقيمة مع عائلتها في كندا، وتستغرق أقل من عشر سنوات.
لكن الحكاية اشتملت على عشرات القصص الأخرى، أغلبها يتعلق بالبطلة "الدكتورة وردية"، القادمة، بواسطة القطار - بعد تخرجها في كلية الطب/ جامعة بغداد الى مدينة الديوانية وبيدها الأمر الاداري لتعيينها طبيبة في مستشفى المدينة سنة 1955، حسب التأريخ المذكور في الرواية.
البداية التي يؤرخها النص بوجود الرئيس ساركوزي في قصر الاليزيه، واستقباله للمهجرين العراقيين وللبابا بنيدكتوس في وقت واحد، تبتعد عن البداية الزمنية لأحداث شجرة الحكايات أكثر من خمسين عاما، فهي ليست بداية من الوسط، ولا هي بداية من النهاية تماما، هي بداية، تتعلق تماما بالخصوصية العمرية والفكرية للبطلة، من نهاية العمر الفعلي للبطلة، بحدود ثمانين حولا قضتها في بلدها معتمدة على قولين طالما رددهما أخوها الضابط الحقوقي سليمان، المُقال من وظيفته الحكومية على اعتباره رجعيا بعد 1958: "تقدرون وتضحك الأقدار"، و"الخير في ما اختاره الله". انتهى عمر وردية بخروجها من العراق، وما هذه الحياة، على الرغم من رخائها ونظامها ونظافتها وأمنها، وما توفره فرنسا "الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكية، البلد الذي يزأر كالأسد في غابة حقوق الانسان"، إلا هامش يسترخي بهدوء على متن مضطرب. هذا الهامش هو الحكاية الإطارية التي تقل مدتها عن عشر سنوات، وتضم قصصاً تمتد على مساحة سبعة عقود من الزمن، وتؤلف المتن الحكائي.
وقد تقسمت الرواية الى "41" فصلا، لا تحمل عناوين، كما خلت من كلمة فصل، بل هي معلمة بأرقام فقط، متسلسلة من 1 الى 41. وهذه الفصول مقسمة بدورها على ثلاثة مواقع مكانية، العراق، بقسمين: بغداد والديوانية، فرنسا، وكندا، فضلا عن فصل يتيم موقعه المكاني عمّان. ولم ترتبط بعلاقة نسبية، بل تقسمت عشوائيا، مثل عشوائية تقديمها.
وكان يمكن ببساطة أن يقوم كل فصل على قصة، مرتبطة حتما مع القصص الأخرى بعلاقات روائية متعددة؛ لكل قصة زمانها ومكانها المستقلان. وإذ تخلت تلك الفصول عن كونها أوراقا في شجرة الحكايات فإنها صارت أغصانا فيها، يحمل كل غصن منها عددا آخر من القصص، لكل قصة زمانها ومكانها. بل يمكن لأية قصة، في أي فصل، أن تفتح بابا لقصة أخرى. ويمكن أن لا تتم بعض القصص في فصل واحد.
في الفصل الثاني، ولما تتفتح الشجرة عن حكاياتها بعد، ولما تعتمد الرواية على تقنية التداعي، الأجمل والأسهل؛ بدأت بالاستباق، التقنية الأقل استخداما والتي لا تقدم قصة: "لكن ياسمين قد تتصل بها من دبي.... تزوجت على عجل وزوقوها مثل سيارة مسروقة وشحنوها الى عريسها في الإمارات". فلم تتزوج الدكتورة وردية بعد ولم ترزق ببنتها الثانية ياسمين، طبعا. لكن الخطاب استشرف لنا حدثا قد يتأخر أكثر من مائة صفحة. ومع تكرر الاستباقات في مواقع شتى: "لكن جرجس لفت نظرها.... أحبته وتزوجته"، وتداخلها مع الاسترجاع تقدما وتأخرا، وعلى أساس أن الاستباق لا يقدم قصة في نظرية اهتزت أركانها مع هذه الرواية فإن الفصل الأول هو فصل استباقي؛ لأن زيارة قصر الاليزيه لا تتم إلا بعد القدوم الى باريس!
وفي الفصل عينه نقرأ قصة مجملة، فيها استباق واسترجاع، ويقدَّم الاستباق لأن الحكي عن الدكتورة التي لم تخبرنا الحكاية بقصة تخرجها في كلية الطب بعد: "كانت عيادتها دنياها... تسحب ساقيها المتورمتين الى التويوتا.... شرطة المرور يتعمدون أن يؤشروا لها بالتوقف، لكي يسلموا عليها". فصيغة الجمع في الجملة الأخيرة، وصيغة الحكي التواتري/ التكراري، واستخدام الفعل المضارع، في الجمل الأخرى من النص السابق المقتطف من الرواية هي ما يقصد به المجمل أو التلخيص. ومكان حدث هذه القصة الاستباقية، والتي قد لا يمكن لها أن تكون قصة لولا استعانتها بالاسترجاع، مكان هذه القصة على الأغلب بغداد. حين لم يفصح النص، فتكفلت بعض الإشارات بالدلالة، منها: هي "الطبيبة المتقاعدة"، و"الشوارع المقسمة حسب الطوائف"، و"تلك التي اصطكت أسنانها فلم تفجّر الحزام". يتبعها، ولو بفاصل فقرة، "تركت الدكتورة وردية عملها الطويل في الديوانية وعادت الى بغداد". حيث نلاحظ التسلسل الزمني المقلوب في التمثيلين القصيرين السابقين، وهما نموذجان لمثل هكذا تكسرات زمنية كثيرة ومنتشرة في قصص الرواية.
وبعد انتهاء الفصل الثالث الذي تتحدث فيه الراوية، الداخلة في الرواية بشخصية هامشية، هي شخصية ابنة أخ الدكتورة وردية، يبدأ الفصل الرابع، دون تمهيد مسبق، بذهاب الدكتورة الى مقر عملها في الديوانية بواسطة القطار. واذا كان هذا الفصل، أو قصته الإطارية، يشكل استرجاعا خارجيا مثلي القصة، فانه ضم استرجاعا خارجيا آخر مثلي القصة أيضا، سببه قطار الديوانية: "لم تركب وردية قطارا من قبل سوى مرة واحدة، حين انتقلت عائلتها من الموصل"، شكل قصة أخرى، متعلقة بشخصية أخرى هي شخصية سليمان أخ الدكتورة.
ومثلما تقسمت قصة الأخ سليمان بين الفصل الرابع والفصل الثاني والعشرين، تقسمت قصة زواج وردية بين الفصلين 19، و 23. وقصص أخرى غيرها، كقصة البنت البكر هندة، أو قصة غسان، أو قصة الدكتور شكري فرنجية.
وقد لا يمكن ترتيب فصول الخطاب زمنيا، لاستغناء الراوية عن ذلك، والافتقار حتى الى الاشارات الأخرى التأريخية، إلا قليلا في الرقم 14 المرتبط مع بيت شعر للشاعرة لميعة عباس عمارة، و14 تموز 1958 و14 تموز 1955. وحتى تلك الاشارات الأحداثية، ظلت قليلة، وبخيلة في تمكين القارئ من خلق سلسلة زمنية للنص.
هذه بعض ألعاب الزمن في السرد الحديث، يضاف اليها، قِصَر الحكاية الإطارية، وطول وتعدد القصص الداخلية، فضلا عن تخلي الحكاية الاطارية عن الحكي على مسرح أحداث القصص الداخلية، العراق/ بغداد. ولخلق أكثر من مسار زمني، الأهم هو المبني على تداعيات واستباقات مبعثرة، والتالي هو الكرونولوجي في هجرة الدكتورة وردية ومعيشتها في باريس، فتعرشت بجانب النص سلسلة لبلاب، لها علاقة بايولوجية بالنص، علاقة رحم، تمثلها الدكتورة هندة ابنة الدكتورة وردية، ولكن الفصول الأربعة المخصصات لها، ثلاثة منها في كندا، والرابع في عمان، هي قصص غيرية القصة، بعضها استرجاعات، والبعض الآخر، وهو القليل، تزامني أي مواز لزمن الحكاية الاطارية.
طشاري: رواية الحنين، رواية البطلة، التي تحكيها حفيدة شهرزاد، تتميز فنيا بأنها مجموعة من الألعاب السردية، المنبثقة من مقولة الزمن.. أفادت وأغنت هذه المقولة، في تقديم وتأخير شذرات قصصها. هي إكليل من التداعيات، وبلبل متنقل بين الزهور الأعطر، تغريد عشقه للعراق نسيج من حكايات، مشتتة على مقاطع ومناطق، لا يجمعها إلا الحب.